البارت السابع والعشرون*الاخير*

3.7K 127 2
                                    


الفصل الاخير وغدا موعدنا مع الخاتمة باذن الله
★★★★
الفصل السابع والعشرون:

جلست رقية في غرفة عاصم الهاشمي كعادتها بعدما تركا منزل العائلة ليقيما هنا بناءً علي رغبتها...
أسندت رأسها علي ظهر الأريكة الجانبية هناك ورأسها يكاد ينفلق من فرط التفكير...
ياسين لم يخيب ظنها فيه...
لقد تحدي جده وترك كل شئٍ خلفه فقط من أجلها هي...
حبه -المتين-لها أثبت قوته في هذا الموقف ليثبت لها أن مشاعره -الهشة-نحو آسيا لم تكن حباً حقيقياً..
لكن...ماذا بعد؟!!
شعورها -المستحدث-هذا بالعجز يخنق روحها ببطء...
هي التي اعتادت أن تكون ملكةً قوية مسيطرة مسئولةً عن الجميع ...
الآن تري نفسها قد تجردت من كل مقوماتها خاصةً بعد رحيل عاصم الهاشمي...
وظروف عجزها الجديدة...
لتري نفسها الآن مجرد امرأة عادية ضعيفة منقوصة تحتاج لسند...
والواقع أن ياسين لم يبخل عليها به كما وعدها...
طرقاتٌ خافتة علي باب غرفتها قطعت أفكارها تلاها دخول الخادمة التي أخبرتها أن هناك امرأة تنتظرها بالأسفل...
امرأة تدعي "آسيا"!!!
شعرت رقية بالتوتر يغزو روحها القلقة أكثر وهي تضع في ذهنها عشرات الأسباب لهذه الزيارة الغير متوقعة...
قبل أن تتمالك قوتها لتبدل ملابسها وتعدل زينتها بحرص...
ثم تتوجه بعدها لهذا اللقاء الذي تخشاه...
وفي مكانها كانت آسيا تشعر ببعض الحرج من نظرات إكرام المستاءة نحوها...
إكرام التي لم تنسَ لها صنيعتها ليلة زفاف ابنتها الوحيدة...والتي كادت تفسد الزفاف لولا أن الله سلم...
لكن رقية تقدمت نحوهما بثبات لتصافح آسيا بودٍ ظاهر...
فاعتذرت منهما إكرام بلباقة لتغادرهما بعدها وهي ترمق رقية بنظراتٍ مشفقة مشبعة بحزنها...
جلست رقية جوار آسيا تبحث عن بداية مناسبة للحديث...
لكن آسيا ابتدرتها بقولها :
_أعرف أنك تتساءلين عن سبب هذه الزيارة المفاجئة...لكنني حقاً قد تأخرت فيما جئتُ لأجله.
رمقتها رقية بنظرة متسائلة...فأردفت آسيا بقوتها -المستحدثة-:
_طالما كنتُ أقول أن تجاهل بعض الأمور هو الحل الأفضل...لكن في هذه الحالة...المواجهة أنفع.
أطرقت رقية برأسها وهي تتوقع كلمات آسيا القادمة:
_لقد جئت لأعتذر عما حدث ليلة زفافك...صدقيني لم أكن في وعيي وقتها...إحساسي بالنقص والدونية أمام قسوة جدي وتسلطه أفقدني عقلي...ولولا أنكِ رقية الهاشمي التي يتحاكي الجميع عن عقلها وكمالها لكان هذا الزواج قد فسد بسببي.
أغمضت رقية عينيها للحظات بألم ...
رغم كل ما كان بينها وبين ياسين من لحظات غرام مشتعلة...
لازالت هذه الذكري تجلدها بسياط غيرتها القاسية...
هذا الجرح الذي يملؤها وهي تتذكره يحتضن امرأة أخري بسواها بهذه الحميمية وبهذا الحب!!!
لكنها تمالكت نفسها بعد لحظات لترفع إليها عينيها قائلة بثبات:
_هل جئتِ لأجل هذا فقط؟!!
ابتسمت آسيا بحنانٍ صادق أذاب هواجس رقية تماماً وهي ترد برفق:
_بل جئت لأصفي كل ما بيننا...لا أريد أن تعكر شوائب الماضي علاقتنا...خاصةً وأنا حقاً أريد اكتساب صداقتك.
أشاحت رقية بوجهها وهي عاجزةٌ عن الرد ...
ليت الأمر بهذه البساطة...!!!
ربما لو كانت في ظروف أخري غير ظروفها الحالية لكانت وجدت دعماً من قوتها المعهودة...
لكنها الآن منهكة....مستنزفة...
والأهم....خائفة!!!
خائفة أن تفقد أغلي ما احتوته حياتها لأجل شئٍ لا يد لها فيه...
وخائفة من عذاب ضميرها لو حرمت ياسين حقه الطبيعي في ولدٍ يستحقه...!!!
خائفةٌ منه أن يظلمها لو سمح لأخري بمشاركتها فيه...
وخائفة من نفسها أن تظلمه لو منعته حقه...!!!
ووسط كل هذا تشعر بنفسها في دوامةٍ من شعور بالنقص لم تتعوده...
شعور يمتص قوتها رويداً رويداً فيسلبها القدرة علي التفكير...
وكأنما قرأت آسيا أفكارها بفطنتها ...
لتقول لها بحنان :
_نعم يا رقية...كم أغبطكِ علي قوتك الحقيقية هذه ...لهذا أتمني لو لا تخسرينها تحت أي ظرف...بعض المنح تأتينا من السماء في صورة مِحَن...لقد وعيت هذا الدرس حقاً عندما أوشكتُ علي الموت يوماً في المزرعة...وبعدما أفقتُ من غيبوبتي وقتها انتبهت أن قوتي يجب أن تنبع من داخلي أنا...قبل أن يمنحها لي أحد...محنتي كانت سبباً في قوتي بعد ضعفي...فلا تجعلي محنتك تفعل بك العكس !!
نظرت إليها رقية بطوفانٍ من مشاعرها الصاخبة الآن...
آسيا علي حق...
بعض المحن تهدينا قوةً بعد ضعف...وبعضها ينزع عنا أردية صلابتنا ليدعنا وسط رياح الخوف عرايا!!!
والفيصل دوماً هنا...هو سلامة أرواحنا قبل الجسد...
الروح التي تستند علي أعمدة قوية من الإيمان والحب تنجح دوماً في المقاومة...
وهذا ما لا تفتقده رقية الآن...
كما لم تفتقده آسيا يوم قررت المواجهة والصمود!!!
آسيا التي تابعت حديثها الحار بصدقه أمام نظرات رقية التي كانت تتشربه حرفاً حرفاً:
_لقد منحكِ القدر فرصةً قلما يمنحها لغيرك...ورأيتِ بقلبك قبل عينيك كيف تحدي بكِ زوجك الجميع لأول مرة في حياته...لو كان أحدهم أخبرني يوماً أن ياسين الذي تربي علي الخوف من قاسم النجدي سيقف أمامه هكذا بمنتهي القوة لاتهمته بالجنون...لكن ها هو ذا يفعلها لأجلك...
أومأت رقية برأسها ثم سألتها ببعض الرفق:
_لماذا تقولين هذا الآن؟!
ربتت آسيا علي كفها وهي تجيبها بصدق:
_لأنني لا أريدكِ أن تجمعي في قلبك خوفه من الماضي والمستقبل معاً...ياسين لم يعد في قلبه سوي رقية ...انزعي من رأسك أي فكرةٍ أخري كي تستطيعي إكمال طريقكما الطويل معاً.
تنهدت رقية بحرارة رغماً عنها وهي تشعر أن آسيا قد قرأت ما برأسها حقاً...
يكفيها خوفها من المستقبل ولا ينقصها أن تزيده بهواجسها عن الماضي كذلك.
بينما أردفت آسيا باستطراد أظهر اهتمامها الحقيقي:
_لقد كنا نتناقش أنا ومارية بشأنك بالأمس...الحقيقة أننا استشرنا العديد من الأطباء هنا بخصوص حالتك ونصحونا بالسفر...مارية أجرت اتصالاتها بالأمس بأشهر المراكز في لندن للاستفسار عن الأمر والنتيجة مشجعة لكن تنقصنا صورة من تحاليلك وأشعاتك الكاملة...قبل أن نحصل علي رد قاطع .
انتعش بعض الأمل في قلب رقية وقد تأثرت حقاً بهذا الاهتمام...
فصمتت للحظات قبل أن تومئ برأسها هامسةً :
_شكراً.
ابتسمت آسيا وهي تقوم من جوارها لتقول بمودة :
_صدقيني يا رقية ...منزلتكِ عندي الآن كساري وجوري تماماً...استشيري ياسين في الأمر ولو وافق يمكننا البدء في مراسلتهم لتحديد موعد السفر....مارية ستفيدنا كثيراً في هذا الأمر...وقد عرضت أن تسافر بنفسها معكِ .
وقفت رقية بدورها وهي تبتسم ابتسامة حقيقية هذه المرة...
مع إحساسها الصادق أنها ليست وحدها في محنتها وأن هناك من يسعي لمساعدتها بحق حتي دون أن تعلم...
لهذا استجابت بحرارة ليد آسيا التي امتدت لها بمصافحة رقيقة...
لتقول بعدها بصوت متهدج:
_شكراً يا آسيا...واشكري مارية أيضاً...سعيدةٌ حقاً باهتمامكما هذا.
ضحكت آسيا ضحكة صافية وقد شعرت بنجاح مهمتها التي أتت من أجلها...
لقد كانت هذه آخر خطوة لتغلق هذه الصفحة القديمة في حياتها مع ياسين...
دون أن تشعر بالحرج بعدها في أي لقاء لها مع رقية....
والحمد لله أنها انتهت علي خير...!!
لكنها لم تكد تنتهي من فكرتها حتي سمعت صوت ياسين خلفها يهتف بدهشة:
_آسيا!!!ماذا حدث؟!
التفتت نحوه آسيا ليتقدم نحوها مردفاً بقلق:
_أمي بخير؟!!الجميع بخير؟!!
أومأت آسيا برأسها إيجاباً وهي تلتفت نحو رقية لتجيبه ببساطة:
_العائلة كلها بخير لا تقلق ...أنا فقط جئت للاطمئنان علي رقية.
عقد ياسين حاجبيه بدهشة وهو ينظر لرقية بتساؤل متفحص...
فابتسمت له رقية ابتسامة مطمئنة وهي تؤكد علي حديثها:
_لا تكن جزوعاً هكذا يا ياسين...آسيا جاءت لنا ببشارة خير سأخبرك بها عندما تعود.
ازداد انعقاد حاجبيه ولازال يشعر بالتوجس من هذه الزيارة المفاجئة...
وهو يسألها بحذر:
_أعود من أين؟!!
هنا كانت صدمته قد وصلت ذروتها و رقية تجيبه ببساطة:
_لا يصحّ أن تغادر وحدها في هذا الوقت من الليل...قم بتوصيلها من فضلك.
كانت تعلم أنها تثير دهشتهما معاً بطلبها المتباسط هذا...
لكنها كانت تريد أن تثبت لنفسها قبل أن تثبت لهما أنها لم تعد تبالي بهذا الماضي الممزق...
والذي تكفيه رياح الزمن كي تبعثر ما تساقط من بقاياه...
إن كانت آسيا قد بدأت الخطوة الأولي وهي ستأخذ الثانية...!!!
وأمامها كان ياسين يشعر ببعض الحرج بعدما تراجعت صدمته..
لكنه لم يجد بداً من الاستجابة لطلبها وقد بدا له منطقياً ...
فهز رأسه وهو يقول بهدوئه الحاني:
_حسناً يا آسيا...تفضلي.
حاولت آسيا الاعتراض بقوة وهي تستشعر الكثير من الحرج بدورها...
لكن الأمر انتهي بها جواره في سيارته عائداً بها لمنزل العائلة...
ظل الصمت ثالثهما للحظات قبل أن يبتدرها هو بسؤاله القلق:
_لماذا زرتِ رقية اليوم؟!
أطرقت برأسها وهي تجيبه بهدوء:
_من الأفضل أن تخبرك هي بنفسها.
تنهد بحرارة وأصابعه تتشنج رغماً عنه علي مقود السيارة وهو يشعر بغرابة الموقف...
هذه آسيا؟؟!!!
آسيا التي كان يراها يوماً الدنيا بما فيها...ومن فيها...!!!
فكيف الآن تجلس جواره فلا يكاد حتي يشعر بوجودها....؟!!!
بل إنه يتمني لو يسابق الزمن حتي ينتهي من هذا -الواجب الثقيل- كما يراه الآن...
ليعود لرقية فيطمئن علي ما كان بينهما!!
لكنه مع هذا لم يمنع نفسه من سؤالها باهتمام :
_سعيدةٌ مع زوجك؟!!
ابتسمت رغماً عنها ونفس أفكاره تجتاحها هي الأخري بنفس الدهشة...
لتجيبه بعدها باقتضاب:
_جداً..!!
رمقها بنظرة جانبية قبل أن يقول بتردد:
_ألازلتِ ناقمةً عليّ؟!
صمتت للحظات...ثم رفعت رأسها لتنظر للطريق أمامها قائلة بشرود:
_لا أبداً...علي العكس...أحياناً يمنحنا القدر صورةً رمادية حتي يمكننا بعدها التفريق بين الأبيض والأسود!!
أومأ برأسه موافقاً وهو يدرك حقاً ما تعنيه....
ما بينهما كان أشبه بغيمة رمادية بخلت بأمطارها عندما استجداها جديب روحيهما المقفر...
ولولا عطيّة القدر لكليهما لماتا عطشاً!!!
الآن يدرك كلاهما أن ما بينهما لم يكن يوماً حباً...
بل "وهم" حب...حذف الزمن من كلمته "الواو" ليبقي فقط همه...!!!
أو استبدل "الميم " ب "النون" ليدهشهما وهنه !!!
ظلا علي صمتهما المشتعل بأفكاره حتي وصلا إلي منزل العائلة الكبير...
فالتفتت نحوه لتقول ببساطة :
_شكراً يا ياسين.
قالتها وهي تهمّ بمغادرة السيارة عندما استوقفها بندائه...
لتعاود الالتفات إليه من جديد...
فقال دون أن ينظر إليها:
_أنا الآن أعلم أن جسار القاصم رجلٌ حقيقي سيحافظ عليكِ كما ينبغي...لكنكِ تعلمين أنني لن أتأخر عن مساعدتكِ إذا احتجتِني في أي وقت...حتي بعدما نبذني جدي عن العائلة.
ابتسمت بتفهم وهي تدرك شعوره الآن والذي هو توأم شعورها...
حتي لو فقدا ما كان بينهما من "أوهام" الحب وضلالاته...
تبقي هناك معزّة حقيقية لن تغيرها الأيام...!!
لهذا غادرت السيارة بسرعة لتغلق بابها خلفها في حركة موحية...
قبل أن تقول له بحزم:
_شكراً لاهتمامك...سلامٌ يا ابن عمي!!
====================
خرجت آسيا من غرفتها بمنزل النجدي الكبير علي صوت بكاء راجية التي كانت تهتف بين دموعها لفريدة:
_نار يا فريدة...نار في قلبي...لم أعتد فراق أولادي هكذا...في البداية حذيفة تلاه عمار...ثم ياسين...إلا ياسين يا فريدة!!! إنه أحنّ أبنائي عليّ...لا أصدق أنه فرط فيّ أنا ولم يكترث برجائي كرامةً لتلك التي تزوجها!
مطت آسيا شفتيها باستياء وهي تشعر أن هذا الحديث كله لا يعجبها...
بينما ربتت فريدة علي كتف راجية لتقول بحنانها كالعادة:
_اصبري يا حبيبتي...صدقيني أنا أشعر بكِ...لكن الله كريم...قلبي يخبرني أن قاسم النجدي لن يظل علي قسوته معهم...قلبه سيلين مع الأيام.
هزت راجية رأسها بأسف...فتقدمت منهما آسيا لتقول بتهذيب :
_عفواً يا عمتي...أنا أري أن أبناء عمي كلهم فعلوا الصواب...لا يحق لأحد أن يقرر مصير الآخرين ولو بدافع الحب...الله سبحانه وتعالي يقول "وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً" ...كلنا سيُسأَل وحده عن اختياره ...
رمقتها فريدة بنظرة زاجرة مراعاةً لشعور راجية لكن آسيا أردفت بقوة:
_لو كنت مكانكِ يا عمتي لافتخرت بأبنائي...حذيفة ذي الكبرياء الذي رفض أن يتزوج امرأة رغماً عنها...وعمار الذي دافع عن زوجته وحبيبته التي يحبها ويحبه...وياسين الذي رفض التخلي عن زوجته في محنتها وتصرف معها كرجل حقيقي...كلهم يستحقون الفخر يا عمتي ..كلهم!!
هزت راجية رأسها بعدم اقتناع ...
بينما أشارت فريدة لآسيا بكفها اشارة مقتضبة أن تنصرف الآن...
فتنهدت آسيا بيأس قبل أن تغادر الشقة كلها إلي شقة جدها بالأسفل...
أخذت نفساً عميقاً تستمد به بعض القوة...
قبل أن تطرق الباب برفق تنتظر إذنه بالدخول...
وما إن دخلت حتي اصطدمت بنظرته التي ملأتها المرارة والحسرة والعجز....
قبل أن يداري كل هذا خلف قناع قسوته الظاهرة وهو يسألها بخشونة لم تغادر أسلوبه معها منذ عادت لمنزل العائلة:
_ماذا تريدين؟!
تقدمت لتجلس جواره علي طرف الفراش ثم مالت علي كفه تقبله باحترام...
قبل أن تسأله بحنان :
_كيف حال صحتك يا جدي؟!
أشاح بوجهه عنها وهو يهتف بحدة:
_وكيف تنتظرين أن تكون صحتي وقد ابتلاني الله بأحفاد مثلكم؟!
كتمت ابتسامتها بمشقة ثم تنحنحت بحرج لتقول له بتردد:
_لقد رأيت أبي وعمي كمال رحمه الله في رؤيا بالأمس.
التفت إليها بحدة وقد ظهر الاهتمام علي ملامحه ليسألها بلهفة لم تخطئها أذناها:
_ماذا رأيتِ؟!
ابتسمت وهي تحاول تذكر تفاصيل رؤياها لتقول بعدها بشرود:
_كانا سعيدين للغاية...وجهاهما كانا كقمرين مكتملين...أبي احتضنني بقوة وقبل رأسي...ثم قال لي أوصي جدك بشجيراتي...
دمعت عينا قاسم في هذه اللحظة فشعرت آسيا بالتأثر وهي تهمس بقلق:
_ماذا بك يا جدي؟!
تحشرج صوته وهو يقول لها:
_أكملي.
ازدردت ريقها ببطء ثم أكملت :
_وعمي كمال ناولني مسبحةً كانت في يده وطلب مني أن أعطيها لك...زمردية اللون...وحبيباتها ليست مستديرة... بل...
قاطعها قاسم بصوت متهدج:
_مستطيلة !!
اتسعت عيناها بدهشة وهي تهمس مصدومة:
_نعم...كيف عرفت يا جدي؟!
هز رأسه وهو يسبح الله جهراً عدة مرات...
قبل أن يقول بصوت مهزوز:
_افتحي هذا الدرج يا ابنتي.
قالها وهو يشير لها نحو أحد الأدراج بأنامل مهتزة فتوجهت نحوه لتفتحه قبل أن تشهق بقوة...
وهي تجد نفس المسبحة المميزة التي رأتها في حلمها...
والتي هي واثقة أنها لم ترَها بعينيها من قبل في الواقع!!!
تناولت المسبحة تقلبها بين أناملها بحيرة قبل أن تعود لتجلس جواره هامسةً بذهول:
_لا أصدق...إنها هي يا جدي!!
أطرق برأسه للحظات...وقد عجز عن كتمان انفعاله...
فاحترمت صمته الذي تعلم أنه يخفي الكثير...
قبل أن يقول هو بعد دقائق بصوت مختنق:
_عمك كمال والد ياسين كان أكثر أبنائي صلاحاً...وعندما رزقه الله بأول أبنائه ياسين عاهد الله أن يجعل لنفسه ورداً من التسبيح علي هذه المسبحة تضرعاً إلي الله أن يحفظ ذريته من بعده...وبعدها جاء عمار ثم حذيفة...ومع كل منهما كان ورده في أذكاره يزداد ...حتي حانت لحظة وفاته غدراً أمام عيني...لن أنسي أبداً نظرة عينيه وهو يناولني مسبحته هذه...وكأنه يحملني أمانة أولاده من بعده...
دمعت عينا آسيا في تأثر وهي تهمس بخفوت:
_رحمه الله.
هز قاسم رأسه وهو يقول بشرود:
_أما والدكِ فقد حسبها بطريقة أخري...كلما كانت فريدة تضع أنثي فتعيرها النساء بحرمانها من مولود ذكر ...كان هو يزرع شجيرةً علي الطريق...ويقول هي صدقةٌ جارية لي ولبناتي...فلا ينقطع عملي وفي نفس الوقت تحفظهن من غدر الأيام...
تنهدت آسيا بحرارة وهي تشعر بقشعريرة في جسدها...ثم همست بخفوت:
_سبحان الله...عسي الله ألا يضيع معروفهم يا جدي.
قالتها وهي تتذكر ما حدث لها عندما غادرت بيت العائلة...
وستر الله الذي غشيها بعدها فلم يمسسها سوء بل علي العكس منحتها السماء أغلي هدية...
جسار !
وليست هي فقط...
جويرية التي عصمها الله من فضيحة الهرب..
وساري التي نجت من واقعة الاغتصاب..
حقاً...لقد منحتهن السماء جزيل عطاياها ببركة صلاح والدهن!!
بينما ظل قاسم يتمتم بكلمات غير مفهومة ثم عاد يهز رأسه وهو يقول بشرود:
_هذه الرؤيا تعني اقتراب أجلي...والدكِ وعمكِ يوصيانني بكم جميعاً...قبل أن ألتقي بهم لأخبرهم أنني حفظت الأمانة.
شعرت آسيا بغصة في حلقها عندما ذكر هذا الأمر فهتفت بجزع:
_أبقاك الله لنا يا جدي...لا تقل هذا!
لكن قاسم بدا وكأنه لا يراها ولا يسمعها...
هو فقط أسند رأسه علي ظهر الفراش بعد أن تناول منها المسبحة ليقول لها بشرود:
_اخرجي واتركيني الآن.
ورغم أنها كانت تشعر بالقلق عليه امتثلت لأمره صاغرة وهي تدرك بحدسها أنه يحتاج الآن للبقاء وحده...
فخرجت وأغلقت الباب خلفها برفق...
قبل أن تسيل دموعها علي خديها بتأثر وهي تشعر أن قاسم النجدي سيتخذ قراراتٍ كثيرة قريباً تخص العائلة كلها!!

جارية في ثياب ملكيةWhere stories live. Discover now