2| مُكبِر صَوت.

109 14 138
                                    

(عَلىٰ أعْتابِ المُستَقْبَل.)

١ ديسمبر، سنة ٢٠٢٢
القُدس، عاصمة فلسطين.

كانت الأمطارُ تتساقطُ بغزارةٍ في شتاءِ فلسطين يا لهُ من عبقٍ مُريحٍ ومقدسٍ بعثتهُ البيوت ذات العروبة الأصيلة، فأختلط الطينُ بالمطر ورائحة الشجر.. وحيثُ كانت تتلألأ قطرات الندى فوق الأوراق دائمة الخُضرة تدلت من بين أغصانها عناقيدُ الزيتونِ الأخضر والاسود. ثمرةٌ ذاتُ زيتٍ ناعم لكنها تحملُ شعورًا قُدسيًا..

ذُكرت في كُل الأديانِ الإبراهيمية العريقة، سَواءٌ كُنت مسلمًا ام مسيحيًا ام يهوديًا.. ستقرأُ في كتابك عن شجرةِ الزيتون شئتَ أم أبيت، في قصصٍ حكاها الربّانيون والرُهبان والمسلمون.. كقصةِ حمامةِ نوح، الحمامة التي جاءته تحمل في فمها غصنًا من اغصان تلك الشجرة الطاهرة، ومثلُ حكايةِ موسى والامر السماويُ الذي اوحيَّ اليه أن اشعل السراج بزيتها المقدس، قصصٌ اعظمها واجلّها نورُ الله الموقد في زجاجةٍ من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربية..

لو علمَ داوودُ وسليمان والقديسة هيلانة وعيسى، ومحمد كم أن فلسطينَ تأبى الذُل وبقت صامدة! هذا ما كانت تنطقُ بهِ شوارعُ القُدس المُتعبة، كانت وما زالت تنبضُ بالحياة وهي تتهامسُ مع أزقتِها تلك الكلمات، بعد دمارِ مرتين وحصارٍ لثلاثٍ وعشرينَ مرة واثنان وخمسين هجومًا، وغزوها وفقدانها اربعًا واربعين مرة، بقت فلسطين قويةً أبية لا ترضى إنكسارًا سوى عزٍ شامخٍ يُزرع بين ثناياه الزيتون وتطيرُ في ساحاتهِ الحمامات.

وفي الحاراتِ العربية خلف قُبة الصخرة تحديدًا، وحيثُ ما يزالُ المطرُ منهمرًا تنحى بعضُ المارةِ جانبًا تحت اسقفُ الدكاكين وبعضهم من اسرع الى المسجد يخلع نعليه دخولًا الى اعتابه مُسرعًا لئلا يبتل، والبعضُ الآخر من العجائز كبار السن مشى هنيهةً على الأرض المُبللة حد ان لامست القطرات كاحلهُ متُيمنًا بمطرِ السماءِ الالٰهي، وتهادى عميقًا في ارواحهم بتهويدةٍ لطيفة ناعمة صوتُ ذلك الحفيفِ الخفيف لأوراق الشجرِ الأخضرِ الفاقع..

ورُغم انبساط الأسارير الذي اتصفَ بهِ الجو القدسي في هذهِ اللحظات.. كان هُناك من يمشي مُبتلًا تحت المطر، غير آبهٍ لملابسه الصوفية القاتمة التي أصبحت رطبة، شابٌ مُتناسقُ الطول والجسد، بفراءِ رأسٍ اسود كثيفٍ قصير، ذو تعبيرٍ جاد.. يحملُ رونقًا خلابًا في وجههِ المَرسوم بدقةٍ عربية ماجدة، اسمرُ كمخطوطةٍ لقصائد عتيقة الفها شاعرٌ فلسطينيٌ في المنفى.. تحمل كلماته الحُزن البهيّ والقوة.

عينانِ توسطهُما الزيتون الفاخر وأنفٌ روماني متدلٍ بتحديد، على خط فكهِ كانت الخشونةُ واضحة فبدى أن شعرَ ذقنه يكادُ ينمو من جديدٍ.. وكان واضحًا عليهِ شرودُ الحدقتين رغم صلابةِ ملامحه.. فيدٌ وضعها في جيب بنطاله والأُخرى حمَلت تحت معطفه كتابًا كي يقيه من بللِ المطر، كأنهُ يضع الاولوية لتلك الاوراق العتيقة.

خيــطٌ مِــن نــور || ㄥ丨Ꮆ卄ㄒWhere stories live. Discover now