الفصل الحادي عشر ♡

2.2K 97 71
                                    

الفصل الحادي عشر ♡
-"مُقيَّد بسلاسِل عِشقك".

رفض عقلها استيعاب عودته بعد كلَّ هذه الفترة لألمٍ لم تتحمله قديمًا ففرت هاربة منه.. وللأسف تلك السنين لم تنجح في تبديد ذلك الوجع ولو قليلًا، فقد كان كالبذرة التي أُلقت في قلبها وكانت تنمو كل يومٍ حتى أصبحت كثمرة ناضجة قوية ترفض الإقتلاع من جذورها..!
فعادت قدماها للخلف تدريجيًا ببطءٍ وعفوية يدلان على رفضها القاطع لحديث والدتها، حتى تحرك لسانها الذي شُلَّ مؤقتًا من الصدمة وقالت في هلعٍ:
-«لأ.. أنا إستحالة أرجع مصر!».
انهارت بها والدتها صارخة:
-«إنتِ بتقولي إيــه؟ أنـا بـقـولك أختي ماتـت وإنتِ عايزاني أقـعُـد في بـلـد تانيـة ومحضـرش عزاهــا.؟؟».
هزت رأسها نفيًا بهيستيرية:
-«إرجعي إنـتِ لوحـدك.. وأنا هستناكِ هنا».
-«هـو إيـه اللي أرجع لوحـدي؟ إنتِ عايزاني أسيبك في بلد غريبة مع نفسك كده؟ وبعدين مش عايزة تحضري عزا خالتك! إنتِ إتجننتِ ولا إيه اللي جرى في عقلك!؟».
ابتلعت رمقها بصعوبة من مرارة طعمه، وهمست بضعفٍ:
-«مش هقدر أجـازف بإحتمالية إني مُمكن أشوفـه!».
زجرتها والدتها بقسوتها المعهودة:
-«قولي كده بقى! إنتِ لسه بتفكري فيه يا عديمة الكرامة؟ دا زمانه متجوِّز ومخلَّف كومة عيال وإنتِ ولا على بالُه!».
لم تلقِ هذه المرة بالًا لحديث والدتها القاسي، وردت بقوتها المُتبقية الكافية لمعركة كلامية صغيرة مع أمها.. ولكن قطعًا لا تكفِ أبدًا لمواجهة حقيقة بشعة مُدمِّرة لثباتها الوهمي:
-«مهما تقولي برضو إستحالة أحط رجلي في البلد دي مرة تانية! إنتِ خرجتيني منها بمزاجك وإرادتك.. لكن مش هقدر أبدًا إني أسمحلك ترجعيني ليها تاني بعد العمر ده كله!».

*************************

رفعت "شجن" رأسها في الهواء الطلق، تسترجي نسمات الهواء الدافئة أن تعبق صدرها لتنفض عنه غبار الهموم؛ ولكن انتشلها فجأة صوتًا لم تستمع لنبرة الغضب به منذ فترة، فالتفتت برأسها تنظر له باستغرابٍ، قبل أن تستدرك نفسها وتوزع نظراتها في أرجاء الحارة لتتأكد من خلوها قبل أن تقترب منه وتسحبه، لتأخذه إلى إحدى الزوايا المخفية عن الأعيُّن، تهاجمه بقولها:
-«إنت إتجننت يا عمرو؟ إزاي تنادي باسمي في الشارع كده؟ إفرض حد سمعك ولا شافنا؟!».
تجاهل حديثها وأمسك ذراعها بتعنيف لم يصدر منه من قبل نحوها تحديدًا:
-«إنتِ اللي إتجننتِ! إنتِ إزاي تروحي لأهلي وتطلبي منهم يساعدوني!؟ مين طلب منك ده!!؟».
بهتت ملامحها وجف ريقها قبل أن تسأله بخفوتٍ حَرِج:
-«مين اللي قالك؟».
إمتلأت نظراته بخذلانٍ لا يُِحتمل، وتشبعت حروفه بقهرٍ أصاب قلبها بندباتٍ غائرة:
-«سارة.. إتصلت بيا و...».
صمت وترك الباقي من كلماته مُعلَّقًا، بعد أن آلمته كرامته المجروحة من كلمات أخته المُهينة التي استهدفت عزة نفسه كقناصٍ مُحترف لا يُخطئ الهدف أبدًا؛ ومن معرفة "شجن" المُسبقة بـ "سارة" وما لاقته على لسانها من حديثٍ لاذع، التقطت فورًا ما لم يقوله "عمرو" من كلماتٍ، فأطرقت برأسها ندمًا على تهورها الذي ألهى عقلها، وجعلها لا تحسب حساب تلك الخطوة التي من المؤكد كانت ستقوم بها تلك الأنانية ذات القلب المُتحجر!
بينما وقف "عمرو" أمامها، وصدره الهزيل يتحرك صعودًا وهبوطًا من حرقته وقهره، وقلبه يتفتت ألمًا من حسرته على نفسه وما خسره في ذاك الطريق ذو النهاية المحتومة!
رفعت "شجن" مقلتاها الممتلئتان بالدموع، وأخرجت صوتها المتحشرج بصعوبة:
-«أنا آسفة يا عمرو، واللّٰهِ ما كنت أعرف إن دي هتبقى ردة فعلهم، لو كنت أعرف عمري ما كنت هعمل كده! إنت كرامتك أهم عندي من أي حاجة وعمري ما كنت هقبل أقلل منها قدام أي حد حتى لو أهلك!».
رفعت كتفاها وأبسطتهم بقلة حيلة، تغرق أكثر في بكاؤها:
-«كل اللي كنت عايزاه إني أساعدك!».
كانت ملامحه مليئة بالشفقة على حالهما، ناقمًا على نفسه الأنانية التي ترفض إخلاء سبيلها وتفكيك مصيرهما الموَّحد، فهو مصيره واحد ومحتوم.. وميثاق الحب الغليظ بينهما يربط مصيرها بخاصتهِ.. للأسف!
آخر ما يريده أن يظلمها معه.. ولكن بالوقت ذاته هو أضعف من إتخاذ قرار قاتل كإفلاتها من بين يديه.
ولكن يبدو أن الوقت قد قطع، وحان أن يتقوى بقوة حبه لها، وأن يأخذ ذاك القرار الصعب له.. والمُنقِذ لها.
فتسلَّح بقسوة لم تكن يومًا من طباعه، وخرجت حروفه عنيفة وحادة:
-«وإنتِ كنتِ عايزاهم يساعدوني إزاي يعني يا ست شجن؟ يودوني المصحة يعني عشان أتعالج! ومين قالك إني عايز ده؟ أنا عمري ما هدخل المصحة.. وحتى لو هما كانوا وافقوا، أنا مكنتش هوافق؛ أنا مبسوط بحياتي كده!».
-«إيه!».
همست مصعوقة مُتألِمة من لطمة الحقيقة التي لم تحسب لها حساب، ليغرز سكينه البارد في قلبها أكثر بقولهِ الحاد:
-«زي ما سمعتِ.. أنا مش عايز أتعالج».
-«طب وأنا؟».
سألته بصوتٍ ضعيفٍ بالكاد استطاعت إخراجه من حنجرتها، ليتألم قلبه حُزنًا على ما أوصلهما ذاك الشيطان من طريقٍ مسدودٍ لا يقبل أي احتمالات أخرى، ولم يستطع أن يرد على سؤالها الذي ذبحه بخنجر العتاب الشجي، فشيعها بنظراته للمرة الأخيرة، يحفر تفاصيل وجهها في عقله ليؤنسه في وحدته ولياليه المتبقية له، قبل أن يسير مُبتعِدًا عنها بعد أن وصم روحها النقية بجروحٍ غائرة لا تُشفى حتى بمرور الزمن.

مُقيَّد بسلاسل عِشقك | ملك هشام شاهينWhere stories live. Discover now