ثَنايا الوَجْد

610 49 267
                                    











اختار الجلوس إلى طاولةٍ مُنعزلةٍ قليلًا عن مركز قاعة الطعام الواسعة، وكانت الأقرب للنوافذ الضخمة المُطلة على الحديقة الخلفية، التي بدت مُقفرة وموحشة تحت سماءٍ رمادية داكنة تُنذرُ بمطر ما بعد الظهيرة.

تسلل البردُ من حواف النافذة على هيئة رياحٍ جافة ذات صفيرٍ يُسمع من الخارج، فارتعد بدنُه وفرك كفيه إلى قمة ذراعيه التماسًا للدفء. 

لم يلمسْ 'شوتارو' الطعام الموضوع أمامه، فلم يمتلك الرغبة لتناوله، وبقي يُحدقُ بشرودٍ إلى عتمة الجو وتمايل الأغصان الجرداء بينما تصطكُ اسنانهُ بخفوت.

كان مُدركًا بأن الخمول الذي يُسيطر عليه، والصداع الذي يأبى أن يُفارقه، والنعاس الذي يستوطن مُقلتيه، ما هم إلا علاماتٌ على إنسحاب الكوكايين من جسده؛ فهو لم يتعاطى جُرعة واحدة منذُ تلك الليلة في المستودع قبل أسبوع، ولا تزالُ علبة المُخدر الموضعي التي حصل عليها مُحكمة الإغلاق.

وجد صعوبة في تصديق أن تلك الشابة جادةٌ في حديثها، وبأنها لن تُخبر أحدًا بما اكتشفتهُ عنه وعن الطريقة التي استخدمها للسرقة، لذلك فضل عدم تعاطي المُخدر، لخشيته من أن يُستخدم كدليلٍ ضده إذا ما وَشت به، فأبقى عليه وهو يعلمُ بأن بصماتها لا تزالُ على العلبة، وسيدعم اعترافهُ بأنها من سمحت لهُ بأخذه، وكدليلٍ إضافي احتفظ بنسخةٍ من المقطع المصور الذي يُظهر لقائهما، بعد أن حرص على محوه من سجل قسم المراقبة.

ولكن أسبوعًا هادئاً قد مضى بالفعل، ولم يستقبل زائرًا من قسم الأمن أو الشرطة، كما أنهُ لم يَلتقِ مُجددًا بالشابة مما سبب لهُ حيرةً جمّة، فإن لم تكن تنوي الإبلاغ عنه، فهل تُخطط لابتزازه؟ ولكنهُ كان مُعدمًا وليس بوسعه تخيلُ الفائدة المرجوة من استهداف شخصٍ مثله. 

أيُمكن حقًا أن تكون رغبتها في اكتشاف الحقيقة هي دافعها الوحيد؟ أم أن إقدامهُ على استفزازها ولَفتْ انتباهها لما يقوم به سيكون ذا تبعاتٍ وخيمة؟

أغلق قبضتهُ ثم فتحها مُجددًا، آمِلًا في التخلص من تَنميل أصابعه، وازداد عبوسُ مُحياه كُلما أبحر عميقًا في التفكير بما يشغله.

-مرحبًا، شوتارو!

أجفلهُ سماعُ صوتها، فرفع عينين مصدومتين ووجدها تقفُ عند الطرف المقابل للطاولة، تحملُ بين يديها صينية يستقرُ فوقها وعاءٌ مُتصاعد الأبخرة، وتنظرُ نحوه بعينين براقتين بلونهما الفيروزي وتُزينُ ابتسامةٌ مغتبطة ثغرها.

لم تنتظِر منهُ جوابًا، وجلست على كُرسيٍ أمامهُ بعد أن أنزلت الصينية على سطح الطاولة، ثم شرعت تتحدث بعفوية وكأنما اعتادت القيام بذلك في حضوره:

-آسفة لأنني تأخرتُ في التواصل معك، انشغلتُ للغاية بعد عودة مسؤولي، وهو يُريد تفصيلًا لكُل ما قمت به أثناء غيابه..

أَحَدُهُما مُـعْتِمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن