قريه البهو فريك ...الدقهليه 1921م...1

22.3K 524 28
                                    

1

قرية البهو فريك - الدقهلية 1921م :

اسمي موسى عمري ثمانية عشر عاما، الابن الأخير لأبي وأمي بين تسعة أبناء تبقى منهم ثلاثة فقط على قيد الحياة: أنا وأختان تكبراني سنا، ولدت سنة 1903م في يوم وفاة جدتي عن أبي أن ذلك شؤما إضافيا مع موت إخوتي تباعا بالمرض، لكن على عكس ما توقع كانت ذكره الوحيد الذي نجا من الموت في طفولته تعلمتُ في كتاب الشيخ مصطفى، وهناك أتممت حفظ كاملا في سن التاسعة. وفي المدرسة الابتدائية بلغت السنة الخامسة قبل أن أترك التعليم رغما عني مع وفاة أبي كي أرعى شئون أرضنا الزراعية بعدما صرت مسئولا من أمي وأختي القرآن الكريم

بعد عامين من وفاة أبي رحلت أمي عن عالمنا هي الأخرى، ومع رحيلها صار الخروج من قريني هو حلمي الوحيد، وإن كنت أدرك في داخلي أن ذلك العلم سيبقى مؤجلا إجباريا إلى يوم إتمام زواج أختي نعم يوما ما سابيع قطعة أرضي التي ورثتها عن أبي، وسأرحل إلى القاهرة التي أسمع عن جمالها في راديو الشيخ عباس، أو ربما إلى بلاد مرة، إن عملف علي الخواجة فايز، واصلحيني معه إلى إحدى مدن أوروبا التي سمعنا أنه يعرف كل شارع فيها

الخواجة فايز رجل أربعيني أنيق، أبيض الوجه، رمادي العينين يتحدى المصرية أفضل منا جميعًا، ظهر في القرية فجأة بسيارته السوداء امريكية الصنع قبل سبع سنوات، ووقتها عرفنا أنه الوريث الشرعي الحوض الأراضي الشرقية وطاحونة الغلال التي توجد في وسط ذلك الحوض ظن أهل القرية مع ظهوره المفاجئ أنه سيعيد تشغيل طاحونة أجداده التي نشأنا للتجدها مهجورة، جدرانها متآكلة تغطيها رقع متناثرة من الطحالب الخضراء ويغلقها بإحكام باب حديدي كبير ذو قفل قديم ولولا تلك الطوبة التي سقطت من جدارها الشرقي لتترك في موضعها فتحة صغيرة تمكن المتطفلين من النظر عبرها وقت انسلال أشعة الشمس إليها، لظل ما في داخلها معزولا تماما من عالمنا.

نظرت أول مرة عبر تلك الفتحة وأنا في عمر الثامنة، ويومها رأيت بالكار قادوس (1) الطاحونة الضخم المغطى بأكوام من الأتربة، وأجزاء من ذراعها الخشبية الطويلة الممتدة بين شباك العناكب الكثيفة، ولم أهتم بـ بالنظر عبرها مرة أخرى. بعد ذان

قال البعض إن تلك الطاحونة بنيت منذ مائة عام، وقال آخرون إن غرفتها المشيدة من الطوب المفجور كانت موجودة قبل ذلك بكثير، وعندما اشتري جد الخواجة فايز أراضي الحوض الشرقي أتى بالطاحونة إلى داخلها كي تطحن غلاله وغلال القرية، إلا أنها لم تطحن حبة دقيق واحدة، وبقيت تلك الغرفة مغلقة بأكلها الزمان، لتصبح القصص المرعبة المنتشرة حول وجودها هي تسلية أطفال قريتنا في ليال كثيرة.

على أي حال، لم يُجدد الخواجة طاحونته بعد ظهوره من جديد، واكتفى بزيارات متقطعة لمزارعي القرية المسئولين عن زراعة أرضه، ومع كل زيارة له ورؤيتي سيارته كان الحلم في داخلي يطفو من بين أعماقي، ويحتني على الذهاب إليه كي أحدثه عن رغبتي في التنازل له عن قطعة أرضي المجاورة الأرضه مقابل أن يساعدني في السفر إلى خارج البلاد بعد زواج أختي لا

(1) وعاء كبير فمعي الشكل يلقي فيه الحب عند الطحن

أني لم أجرؤ على تلك الفعلة قط، بل لم أتحدث إليه وجها لوجه مرة واحدة حتى اختفى مرة أخرى وانقطعت أخباره من جديد.

...

مع بلوغي الثامنة عشرة كنت قد أتممت زواج أختي، وعلى الفور عرضت قطعة أرضي للبيع كي أهاجر إلى القاهرة في أسرع وقت. كانت الأمور جميعها تسري على ما يرام وكنت على وشك إتمام البيعة لأحد جيراننا، لولا حريق مفاجئ اندلع في قريتنا فجأة ليلتهم أرضي وأرض الخواجة والأراضي المجاورة، ومعه شب أكبر شجار شهدته قريتنا في تاريخها بعد إلقاء التهم بين أكثر من عائلة، وقبل أن يمر أسبوع واحد كان قد قتل من القرية تسعة عشر رجلا في إثر تلك الاشتباكات لنفاجأ في اليوم الثامن بما لم يتوقعه أحد قط، وهو وصول فرقة عسكرية من الهجانة إلى قريتنا على جمالهم.

كان عددهم ثلاثين فردا يصطفون بجمالهم في سبعة صفوف جميعهم ذوو بشرة سمراء تندس رؤوسهم في عمم بيضاء، عدا قائدهم كان أبيض الوجه ويرتدي طربوشا فوق رأسه، وكما سمعنا عنهم دوما، كانت أياديهم تحمل سياطا قاسية، ويعلقون على ظهورهم بنادق ذات فوهات طويلة، ما إن دلفوا إلى مدخل القرية حتى بدأ بعضهم في إطلاق أعيرة نارية نحو السماء بينما أخذ الباقون يضربون بسياطهم من فوق جمالهم من كانوا يقفون في طريقهم ليسوقوا الناس أمامهم إلى ساحة واسعة تتوسط القرية، وهناك أعلن لنا قائدهم عن فرض حظر تجوال من غروب الشمس حتى شروقها كل يوم، وعن الويل الذي سيلقاه كل من تسول له نفسه الخروج من بيته في ذلك التوقيت لتخمد اشتباكات القرية فجأة، ويسودها السكون بعد سبعة أيام من

الفوضى ووقف الحال. في تلك الليلة لم أستطع النوم مطلقا، ومكثت في غرفتي المطلة على الشارع يرتعش جسدي خوفًا كلما سمعت صوت بارودة تُطلق أو رغاء جمل يتجول به راكبه على مقربة من نافذتي، وأدعو الله في سري أسفل غطائي أن يمكنني من إتمام بيع الأرض في أسرع وقت لأنفذ بجلدي من تلك القرية، بيدأن ما جعلتي أنتقض عن سريري حقا هو صوت محرك السيارة الذي لطالب عرفته والذي ظهر فجأة مع عبور الوقت منتصف الليل صوت محرك سيان الخواجة فايزا

قريتنا مخلفة وراءها غبارًا كثيفا، أغلقت النافذة سريعًا عندما . فتحت نافذة غرفتى الخشبية في حذر، كانت السيارة تنطلق إلى داخل سمعت : همين أقدام جمل يقترب ولم تمر بضعة دقائق بعدها حتى سمعت اصوات الطلقان النارية المتتالية تدوي في السماء كان قلبي يتوقف هل قتلوا الخواجة الى أستطع التحرك من مكاني لمعرفة الحقيقة ولم أجرؤ على فتح النافذة من أخرى كان حديث قائد الهجانة بأنهم أن يتهاونوا مع أي شخص يخرق حفر التجوال واضحًا، مثلما أكد أنهم لن يغادروا القرية حتى يستقر الأمن مرا أخرى.

توقعت في داخلي وأنا أفكر في عصير الخواجة فايز أن بقاءهم بينا لن يقل عن أسبوعين بكل حال من الأحوال وأكملت ليلتي مستيقظا انتق حلول الصباح في أسرع وقت لعلي أعرف ما جرى للخواجة، إلا أن ما حد في الصباح كان مفاجئًا للجميع، إذ خرجنا من بيوتنا مع شروق الشمس ول نجد جنديا واحدا. كانت الجمال فقط تركض في الشوارع بدون أصحابه وسيارة الخواجة تقف خاوية في إحدى الطرقات دون خدش واحد أو تقف دماء واجبة داخلها، تلفتنا إلى بعضنا بعضًا في دهشة، وتوقع بنضال يكون الجنود نائمين هنا أو هناك بعد قضائهم ليلتهم مفتوحي الأمين الحفا الأمن، وغالبا سيكون الخواجة محتجزاً لديهم بعد خرقه حظر التجوال 3 مع مرور ساعات النهار تأكدنا بكل معنى الكلمة - أن تلك الفرقة من الجو قد اختفت تماما من قريتنا

أصابتنا الحيرة جميعًا.....

وادي الذئاب المنسيه ..ارض زيكولا3 للكاتب عمرو عبد الحميدWhere stories live. Discover now