الجزء الأوّل: يا لها من ليلة مريعة!

727 59 32
                                    

تركتِ البيت مهرولة تسابقها دموع القهر تشتم سوء الحظّ تلعن حياة لم تختبر فيها حتّى الآن سوى مآسي الشقاء والعذاب. ركضت صوب سيّارتها الحمراء المتواضعة وقد رُكنت أمام حديقة صغيرة تآكلها الإهمال وأكملت على ما تبقّى من معالمها عواصف شتاء اسطنبول العاتية. فتحت باب المركبة بعصبيّة اختلطت بمعاني اليأس بمشاعر الإحباط لتنطلق إلى الصيدليّة غافلة عن تحيّة المساء تُلقيها الخالة زينب وهي تُقفل دكّانها لتبقى التحيّة يتيمة الردّ:

-مساء الخير يا ابنتي...

إستدارت الخالة تراقب إقلاع السيّارة السريع تهزّ رأسها تأسّفًا وهي تتمتم بعض الكلمات: " آه يا عزيزة! رحمك الله، موتك المبكر يتّم حبيبتي سحر ورماها إلى مستنقع البؤس... حسرتي عليك يا ابنتي... لو بإمكاني إنقاذك من تلك الأفعى الرابضة في البيت، لكن ما باليد حيلة، ليت والدك يستفيق من غيبوبته ليضع حدًّا لها... ليته يعود إلى وعيه... إنّما لا حياة لمن تنادي... كيف يخلّصك من شرّ زوجته وهو غارق في بحر الكحول مستسلم لشجون القدر والمرض؟ تُرى ما الذي جعلك تتركين البيت في هذه الساعة وعلى هذا الشكل؟

وما إن عادت زينب إلى الباب توصده وقد سلّمت أمر جارتها الشابّة إلى الله حتّى أطلّ يوسف على بغتةٍ يستنجد بصوت تعالت فيه نبرات الخوف:

-خالتي زينب، أرجوك ساعدي عمّي محسن... يكاد يختنق من حدّة السعال... سحر ذهبت لشراء الدواء وطلبت منّي أن أبقى إلى جواره ريثما تعود

إنحنت بسرعة نحو الصبيّ تمسكه بيديه تهدّئ من روعه تسأله ببعض الفضول:

-أين هيفاء؟

أجاب وهو ينظر ناحية البيت:

-تزور قريبتها في إزمير... لن تعود قبل مساء الغد... هكذا قالت لي سحر

-تعال معي، لا تخف... سوف أحضر له شرابًا ساخنًا يريحه قليلًا ريثما تأتي سحر بالدواء

--------------------------------------------------------------------------------------------------

بعيدًا عن الحيّ الشعبيّ المكتظّ بالسكّان القابع في لجّة الفاقة والعوز وعلى تلّة مواجهة لمضيق البوسفور حيث راحة السكون ورفاهيّة العيش يربض قصر الكريملي بفخامة بنائه بحصنه المنيع يشعّ كالمنارة ويجمع بين جدرانه المصقولة بالحجر المنحوت كنف عائلة عزٍّ تربّعت على عرش النبل وأصالة الجوهر حتّى غدت من أعرق العوائل وأكثرها جاهًا ورقيًّا ليس في اسطنبول فحسب بل في تركيا قاطبة.

إحتسى ما تبقّى من الشاي وهو يُلقي نظرة عابرة على ساعة يده ثمّ وقف متأهّبًا عند رؤية العقارب تشير إلى التاسعة. سوّى ربطة عنقه ثمّ مسّد على جيب سترته يتأكّد من وجود هاتفه الخلويّ يتقدّم صوب والده الجالس على مقعده الوثير قرب المدفأة المشتعلة، وبنبرة جهوريّة ميّزت صوته منذ نشأته وجّه الكلام بكامل الثقة:

مُعذّبتيWhere stories live. Discover now