الجزء السادس: معذّبتي...شوقي لك لأكثر إيلامًا من العجز

217 46 19
                                    

أطلّت تباشير الربيع بعد عواصف الشتاء تحيي الجوّ انفراجًا تضفي على المسكونة أبهى الألوان تدغدغ الطبيعة بنسائم الحبور. وللربيع في قلب سحر مكانة خاصّة ليس لأنّه يحمل عيد مولدها بل لأنّه ببساطة الأمر يريح الشابّة من قسوة البرد وانهمار المطر الذي يُغرق غرفتها بالمياه. سرّحت شعرها بشيء من الاستعجال وهرولت مسرعة إلى العمل تنوي الوصول باكرًا قبل بدء الدوام علّها تسلم من ملاحظات مدير الصالة الجديد، فمنذ تسلّمه منصبه وهو ينظر إلى عملها بعين حمراء رغم تفانيها وخبرتها في المجال. كم من مرّة اتّهمها بالتكاسل والعبوس بوجه الزبائن وهي كالحمل تتلقّف ملاحظاته راضخة تخشى على نفسها احتمال الطرد رغم تحامله الواضح وضوح الشمس.

-----------------------------------------------------------------------------------------------

أغلق الخطّ مع والدته زافرًا يتخلّص من ضغط ٍ مزعج يشعر به كلّما تواصل مع الأهل. كان يُدرك أنّ بعده عن كنف العائلة يمعن في تعذيب الوالد والوالدة وهذا ما لا يريده على الإطلاق لكن كيف يعود إلى اسطنبول وهو على هذه الحال؟ لقد انقضى أكثر من شهرين على إقامته في باريس ومازال عاجزًا عن اقتلاع صورة سحر من قلبه وعقله على السواء. لجأ إلى المدينة هاربًا من عشقٍ حرّمه على نفسه فإذا بمدينة العشق تُلهب شعور الشوق والهيام، أتاها يشحذ شيئًا من الثبات يعيد له المنطق في التفكير ينسيه حبًّا نابعًا من المستحيل فإذا بالمنطق ينهار متداعيًا أمام جبروت الوجدان. تقدّم بالكرسيّ صوب النافذة يهيم سارحًا في منظر "السين" تنساب مياهه هادئة تحمل البواخر السياحيّة وهي تبحر متهادية تحت زخّات المطر، فيا لروعة الغيث يعيد إليه مشهد معذّبته إلى جانبه في السيّارة بعدما أنقذت تلك القطّة! مازالت صورة وجهها المبلّل ماثلة أمام ناظريه، يرى قطرات المياه تتراقص على بشرتها الناعمة تدغدغ أنفها الصغير ترطّب جمال ثغرها المرتجف. ليت الزمن يعود به إلى الوراء يرجعه إلى تلك اللحظة لكان جاد وأبدع في الحركة وما منع يده عن مداعبة محيّاها العذب تجفّفه بشغف من قطرات المطر. عادت نظراته إلى الداخل عابقة بالندم تأسف على ذكريات ناقصة مشوّهة فرضتها قسرًا خطّة الانتقام لكنّ الانتقام قد انهزم وانسحب ململمًا ذيوله مع أولى نبضات القلب وهي تخفق حماسة أمام إطلالتها الساحرة أو ترتجف مضطربة خوفًا عليها من المرض. نبضات صارخة قلبت السحر على الساحر حتّى بات الجلّاد هو نفسه ضحيّة الجلد يتوق إلى مفرّ ينقذه من سخرية القدر من معضلة يعجز أمامها عقل البشر تجيز للقلب عشقًا خارقًا يهيم بمن حكم عليه بالعجز. ألقى بيديه على رجليه الجامدتين يضغط عليهما أشدّ الضغط يفجّر كبتًا أنهك كيانه المتهالك يصرخ مدويًّا بأعلى الصوت: " معذّبتي... شوقي لكِ لأكثر إيلامًا من العجز."

-------------------------------------------------------------------------------------------------

أوقف برهان السيّارة أمام المخبز يأتمر لطلب سيّده وهو في طريق العودة إلى القصر قرابة العصر:

مُعذّبتيWhere stories live. Discover now