الجزء الثاني: أعدك بأيّامٍ سوداءَ تذوقين فيها مرارة العلقم

264 46 16
                                    

حملت الحقيبة بعد انتهاء الدوام تغادر المخبز غير عابئة بغزارة المطر، تعلو وجهَها المهمومَ ملامحُ الشجون تشوّه إشراقة النضارة تمحو لمسة الجمال تعشّش في الزمرّدتين تحجب عنهما قسرًا بريق السحر. إرتمت على مقعد السيّارة مبلّلة الثياب مضطربة الكيان عاجزة عن الإقلاع، وكيف تعود إلى البيت وهي لم تستطع بعد تدبير مصاريف العمليّة الجراحيّة؟ إلى متى ستؤجّلها؟ وهل يحتمل وضع والدها الصعب خيار التأجيل؟ ألم تفهم من الطبيب أنّ التأخير في العمليّة يهدّد والدها بخطر الموت؟ لكن ماذا تفعل؟ حتّى سيّارتها التي عرضتها للبيع في إحدى الوكالات لم تلقَ نصيبًا في الشراء، كلّ ما تملكه حتّى الآن مبلغٌ بسيطٌ كانت قد ادّخرته منذ مدّة يُضاف إلى سوار ذهبيّ تبرّعت به الخالة زينب مساهمة منها في مصاريف العلاج لكنّ المبلغ المطلوب يفوق كلّ هذه الحسابات لتصل أرقامه إلى مئات الآلاف. وبعد جولات من التفكير العقيم مسحت وجهها بحركة عابرة تجفّفه من قطرات المطر ثمّ استقامت متنهّدة تدير المحرّك عائدة إلى البيت ضعيفة خائبة يمعن في جلدها سوط العذاب.

دخل الممرّض الجناح مستأذنًا يحمل دواء المساء فنهره يمان على غفلة يأمره بالخروج وحين توارى المسكين عن الأنظار سأل كرم بكلّ هدوء:

-أتظنّ أنّ طريقتك هذه ستعيد إليك حياتك السابقة؟ لا يمكنك أن تمتنع عن العلاج... هذه حماقة... أنت رجل واعٍ وعليك أن تتصرّف على هذا الأساس رغم كلّ شيء... أنت

أوقفه يمان ساخطًا:

-أنا... أنا بتّ رجلًا عاجزًا لا يمكنه قضاء حاجته لوحده... هل فهمت الآن من أنا؟ دعك من النظريّات أرجوك... أنا أتعذّب ولا أحد يستطيع أن يفهم ما أشعر به...

نهض كرم عن الكرسيّ يقترب من صديقه مواسيًا:

-يمان... أفهمك يا عزيزي لكن ألا تفكّر بوالديك؟ إرأف بحالهما... ثمّ رنا... لمَ تتصرّف معها على هذا النحو؟ أليست خطيبتك؟

أجاب بشيء من الانكسار وهو يهزّ رأسه نفيًا:

-لا... لم تعد خطيبتي... لا يمكن أن أجني عليها هي الأخرى... لن أظلمها معي... ما ذنبها لتعيش شبابها مع رجل كسيح؟... أرجوك للمرّة الألف لا تحدّثني عن هذا الأمر... سئمت من سماع الكلام نفسه... ثمّ دعني أوضّح لك... ما لمسته منها في المستشفى هو الذي حثّني على هذا القرار... رنا ليست من النوع الذي يضحّي في سبيل أحد...

-يمان، أنت الآن تظلمها

-لااااا... قراري هذا يجنّبنا الظلم نحن الاثنين

-هذا قرارك في نهاية الأمر لكن رفضك للعلاج لا يعنيك وحدك فقط... صحّتك تهمّ والديك... ثمّ يا أخي ماذا ستخسر إن رضخت للعلاج؟ ألم تسمع كلام الطبيب؟ وضعك ليس ميؤوسًا منه... عليك أن تساعد نفسك كي نتمكّن جميعنا من مساعدتك

أدار الكرسيّ صوب الواجهة ثمّ اعترف بعد لحظات من السكوت:

-إن كنت فعلًا تريد مساعدتي فعليك إيجاد تلك المرأة

مُعذّبتيWhere stories live. Discover now