المشهد الأول

6.7K 203 4
                                    


عبر الطرقات الوعرة وغير المعبدة تقافزت الحافلة البيضاء الصغيرة، فتأرجحت أجساد الشابات الجالسات بالخلف يمينًا ويسارًا وهن يتذمرن من طول المسافة. وضع السائق هاتفه المحمول على أذنه ليراجع مجددًا وصف وجهته مع أحد معارفه بدلًا من الاستعانة بخريطة مصورة أكثر دقة ووضوحًا، وكأن في استخدامه لها إهانة أو تقليل من قدراته الاحترافية في القيادة. أنهى المكالمة، ونظر عبر مرآته الأمامية لمن تجلسن خلفه هاتفًا بصوت مرتفع ومسموع لهن جميعًا:

-خلاص يا أبلوات، 10 دقايق بالكتير ونوصل.

علقت إحداهن من المؤخرة في نبرة ساخرة، وبصوتٍ شبه خافت:

-بقاله ساعة عمال يقولنا كده، والعشر دقايق بتوعه دول مابيخلصوش نهائي.

حذرتها أخرى بصوتٍ خفيض:

-بلاش تريقة بدل ما يسمعك ويقلبنا في الترعة.

ضحكت في خفةٍ، وردت عليها:

-على رأيك، السواقين مابيستحملوش كلمة في حقهم.

ثم وجهت بعدئذ كلامها إلى الجالسة أمامها:

-"ياقوت" قربنا نوصل.

كانت الأخيرة شبه معزولة عن الضوضاء المحيطة بها، من خلال لجوئها لسماعات الأذن المخبأة خلف شعرها البني المسترسل في تموجات متدرجة حول وجهها. شعرت ذات العباءة البيضاء، والبشرة القمحية بيدٍ تضغط بترفقٍ على كتفها، فالتفتت ناظرة للجانب وهي تنزع إحدى السماعتين عن أذنها لتسمع من تخاطبها وهي تكرر عليها:

-دقايق وهنوصل، هنطلب "سندس" ولا هنعمل إيه؟

ابتسمت في رقةٍ تماثل ملامحها وهي تخبرها:

-خليها مفاجأة أحسن.

علقت عليها في تحمسٍ واضح:

-والله محدش هيصدق إننا مجانين للدرجة دي، سبنا كل اللي ورانا وقررنا نحضر فرح صاحبتنا.

قالت لها بتأكيد، وابتسامتها الناعمة لا تزال تنير وجهها البشوش:

-ما هي دي فايدة الصحوبية.

بدأت الشابات اللاتي تتراوح أعمارهن بين العشرين والثانية والعشرين جمع أشيائهن المتناثرة هنا وهناك استعدادًا للنزول بعد ساعات من السفر المتواصل. شهقات متفاوتة في حدتها انفلتت من أفواههن عندما ضغط السائق على المكابح فجــأة، ودون إنذار مسبق ليتفادى قطيع من الخراف قد اعترض طريقه ليعبر للجهة المقابلة، تذمر عاليًا في سخط مغلف بالإهانة:

-يالا يا شوية بهــــايم، مش تفتحوا!

استمع أحد المارة إلى نعته الجارح، معتقدًا أنه يهينه عن عمدٍ، خاصة أنه يمتلك ذلك القطيع، فرد عليه في تحفزٍ:

-جرى إيه يا أخينا، إنت جاي بلدنا وتهينا فيها؟

رد عليه بحدةٍ، وكأنه يستعد للتشاجر معه:

-يعني أعمى مش شايف إن ده طريق، لأ وكمان معطله ومش عاجبك!!

في التو تدخلت "ياقوت" لتهدئة الوضع قبل أن يتفاقم، فرجته:

-خلاص يا أسطى، احنا مش جايين نعمل مشاكل مع حد!

تجاهلها متابعًا وصلة إهانته الفجة، وقاصدًا استفزاز ذلك الغريب:

-ما هو اللي حمار وفاكر نفسه أبو المفهومية، والجاموسة بتفهم أحسن منه.

أنذره الرجل ذي الجلباب المائل للون البني الدكان وهو يلوح بيده في الهواء:

-بردك امصمم تغلط، وأني هزعلك!

لم يكترث لتحذيره الصريح، وطوح بيده صائحًا بمزيدٍ من التجريح:

-يا عم غور في داهية!

نعته الرجل بلفظٍ نابٍ وهو ينصرف متوعدًا إياه بالانتقام قريبًا، بينما استمرت "ياقوت" على صياحها بالسائق ليحرك حافلته:

-امشي يا أسطى الله يرضى عليك، خلينا نروح لحال سبيلنا.

بالكاد أعاد تشغيل المحرك وهو يبرطم بتجهمٍ شديد:

-عالم ماتفرقهاش عن البهايم!


يتبع >>>>

بين عشية وضحاها - قصة قصيرة كاملةTahanan ng mga kuwento. Tumuklas ngayon