المشهد الثاني والعشرون

3K 169 2
                                    


آخر ما تذكرته عقب لحظات إخراجهن من الحافلة بقيام أحدهم بوضع كيس قماشي أعلى رأسها، حاجبًا عنها الرؤية، وتبع ذلك ضربة عنيفة على مؤخرة عنقها، ليجتاحها دوار عنيف، قبل أن تشعر بذراع قوية تجذبها من خصرها لتحملها عنوة، وتلقي بها على كتف أحدهم وهي تترنح بين اليقظة والإغماء. عندما استفاقت بعد وقت لا تعلم ما هو وجدت نفسها مكممة الفم، مقيدة من يديها وقدميها، ومتروكة على مسافة منفصلة عن رفيقاتها، اللاتي كن في نفس وضعها، وفي مكانٍ أشبه بالكهف الجبلي.

كانت غير قادرة على الحركة، عاجزة عن النهوض، بكت في هلعٍ، وهي تقاوم إحساس الدوار المسيطر عليها، حاولت تفقد ثيابها بعينيها الزائغتين لتتأكد من عدم قيام أحدهم بالاعتداء عليها وهي فاقدة للوعي. تنفست الصعداء رغم رهبتها المستحوذة عليها لكونها على نفس الحال حين تم اختطافها، تبادلن جميعًا نظرات فزعة مرتاعة، فلم يعرفن سبب أخذهن قسرًا، ولا تبعات ذلك.

صرخن دفعة واحدة عندما صدحت في الأرجاء أصوات مدوية لأعيرة نارية مكثفة، جعلت ما حول الجبل يهتز في عنفٍ مخيف. بعد بضعة دقائق خبت الأصوات، واختلطت بهمهمات غاضبة ومتداخلة، أتبعها اقتحام أفراد الأمن لما اعتبروه وكرًا، وقاموا بتحريرهن تباعًا.

اتجه "صفوان" ببصره نحو "ياقوت" عندما وجدها مكبلة مع الأخريات، نزع عنها قيدها، وعاونها على النهوض فترنحت قليلًا من الوقوف المفاجئ، فحصها بنظراته القلقة وهو يسألها:

-إنتي بخير؟

كانت ممتنة لرؤيته، أشعرها وجوده بالأمان الذي افتقده طوال ساعات احتجازها، في التو اعترفت له بما كانت تكنه له بصدقٍ:

-الحمد لله إنك هنا.

أمسك بها من ذراعيها، وسألها وهو لا يزال يجوب ببصره على جسدها:

-في حد عملك حاجة؟ قولي، ماتخافيش، وأني قسمًا عظمًا لهجيب خبره.

هزت رأسها نافية بخفةٍ، وأخبرته بصوت مرتجف:

-أنا كويسة، بس خايفة أوي.

انتفض ذلك العرق النابض في جبينه، بالكاد كظم غضبه، وأكد لها بصوته الأجش القوي:

-اطمني، محدش هيقدر يتعرضلك تاني طول ما أني موجود جمبك.

لاحظ خيط الدماء المتسرب عند منحنى عنقها، فحاول تبين مصدره متسائلًا:

-وريني راسك.

تحسست موضع الألم، وقالت بعدما رأت بقعة الدماء تلطخ يدها:

-بسيطة، مكان ما ضربني على راسي.

لعن "صفوان" في صوتٍ خفيض، وحاول ضبط انفعالاته الثائرة لئلا يتركها ويذهب إلى الخارج ويودي بحياة كل من تسبب في جرحها، أشارت "ياقوت" بيدها له لتتحرك؛ لكنها فقدت اتزانها، فتلقفها بذراعه قائلًا:

-امسكي نفسك.

اعتذرت منه لتصرفها الأخرق مبررة:

-أسفة، بس لسه دايخة شوية.

شهقة خافتة خرجت من بين شفتيها عندما وجدته ينحني ليحملها بخفةٍ بين ذراعيه، لم تمانع ذلك، فما زال تأثير الخبطة ظاهرًا عليها، ومع هذا لم تجرؤ على النظر إليه من هذا الموقع القريب، واستمعت إليه وهو يردد:

-ماتقوليش إكده، أني كان ممكن أروح فيها لو جرالك حاجة.

تشجعت لتنظر إليه بعد جملته المحملة بأسمى المعاني، سألته في صوتٍ شبه خافت:

-وباقي البنات؟

أجابها في الحال:

-اطمني، كلهم بخير، ومع الحكومة.

شعرت بالارتياح لكون الجميع قد نجا من الخطر، ولكنها تساءلت في تخبطٍ:

-هما عملوا فينا كده ليه؟

بعد زفرة سريعة أخبرها:

-حظكم العِفش وقعكم مع شر الطريق، بس خلاص، هما اتقبض عليهم، وإنتي بقيتي في أمان.

تقوست شفتاها عن ابتسامة صغيرة وهي تستشعر بقوة جدية عبارته الأخيرة، لتستسلم بعدها لهذا الخدر الغريب الذي سرى في إدراكها، لم تقاومه، بل نظرت بامتنانٍ غير خائف لمن كانت واثقة أنه سيذود عنها مهما كلفه الأمر.


يتبع >>>>>

بين عشية وضحاها - قصة قصيرة كاملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن