الفصل الأول.

75 11 21
                                    

«تجيدين تصفيف الشّعر، يدكِ خفيفة.»

كانت تلك أوّل مجاملة حصلت عليها في حياتي، لذلك لا يمكنني أن أكرهكِ.

***
أغلقت الكتاب، تنهّدت، فيما أرهِف السّمع لساعتي ترسل الدّقة تلو الأخرى بثباتٍ لا رادّ له، كأنّها نغمة تدورُ في حلقة، كأنها ليست صوت أيامي وهي تمضي عنّي شيئا فشيئًا.

كان الكتاب رواية قصيرة من تأليف الأديب اليابانيّ «هاروكي موراكامي»، كانت أول تجربة لي معه وأخالها ستكون الأخيرة.

بعد أربع ليال متتالية من الأرق الفظيع، قرّرت قضاء ساعات السّحر الأولى في القراءة. فكان هذا أول عنوان لفتني على رف الروايات: نُعاس! - شيء أحتاجه بشدة. شرعت من فوري في القراءة. لم تكن كما تأملت منها، لا إثارة لا تشويق. قسّمتها على ثلاثة أجزاء من اليوم وها أنا ذا أتمّها عند تمام الأربع وعشرين ساعة... بلا نوم!

الرواية رغم السّرد الممل، لم تتمكن من إدخالي في حالة نعاس ولا زيادة يقظة أيضًا. ما هذا الهراء؟!

امرأة تتجاوز الأسبوعين دون أن تغفو لحظة، وعوض أن تنهار أو تصاب بهستيريا؛ تزداد يقظة وتركيزا مع مرور الأيام بلا نوم. تسرد لنا ملاحظاتها عن ملامح زوجها وطفلها ولفتات من رواية "آنا كارنينا". تتأمل لاحقا فيما قد تجني من اليقظة المستمرة، فتقرّر استثمارها بالمزيد من القراءة وشرب الكحول والتسكع ليلًا - رغم تحذيرات الشرطي. المشهد الآخير كأنه من رواية أخرى.

لن أحاول إيجاد فلسفة غائبة فيها، حقًا، قد بدت لي هذه الرواية "القصيرة جدًا" وكأنّها مقدمة تشويقيّة "باردة" لروايةٍ ما فضّل موراكامي أن لا يكملها بل أن ينشرها كما هي.

إنّها الثّالثة صباحًا، بقي على أذان الفجرِ ساعةٌ واحدة ونصف، لم أكن قد شرعت في تحضير السّحور بعد، ما زال كلّ من زوجي وابنتي نائمين. أمّا أنا هنا أشبه بطلة الرّواية، وحيدةً أحدّق في الكتاب بين يديّ.

أحسست برغبة جارفة لتناول قطعة حلوى، خصوصًا بعد إذ ألهمتني لذلك بطلة الرواية حين كانت تلتهم قطعة شوكولا بالحليب فيما تقرأ، أردت تجربة شعور كهذا.

وضعت يدي على بطني، بين طيّات أحشائي، يكبر جنينٌ صغيرٌ محبٌّ للسكاكر تمامًا كوالدته، ذقتُ منه ويلات الوِحام، خصوصًا وأنا حبلى في مثل هذا السّن، بعيد سبعة عشر عامًا من ولادة ابنتي لينا.

نهضت، توجّهت ناحية المطبخ وعيناي لا تبصر سوى قطعة الشوكولا التي أبتغيها بشدّة. لكنّ جسدًا أطول منّي بقليل قد حال بيني وبين باب المطبخ.

كان زوجي، هِشام.

رفعتُ رأسي ناظرة إليه، كانت علائم النّعاس وذبول ما بعد النّوم ظاهرة على محيّاه كالعادة، بيد أني لمحتُ سيماء غريبة في عينيه، تشوّش من يحبس في حلقه أمرًا يريد البوح به.

ولم يخطئ حدسي رغم غمامة الوحام التي غشيته، فها هو زوجي يقولُ بأسى يحمل شيئًا من الصّنعة:
-هند، لقد أرسل لي أخوك خبرًا لا أعرف كيف أقوله لك.

_فلتقله ولا تخشى، ماذا يمكن أن يكون مثلًا؟

تنفّس هشام شهيقًا عميقًا، ثم قال منكصًا رأسه:
-عظم الله أجركِ، توفّيت أمّك صباح الأمس.

حالما تلفّظ بالشّطر الأول من الخبريّة، مال إليّ فيما ذراعاه تحيطان جذعي في عناق واهن.

كنت آنذاك قد شعرت بنغزة باردة لم أشعر بها من قبل في حياتي، غار وجهي في صدر زوجي، انتابني غثيان فظيع، أردت أن أتقيّأ نفسي بكل ما تحمله اللّغة من معنى.

وإذ بي أتقيّأ بالفعل.

-«ما خطبكِ تقفين كالمسطيجة؟* أحضري لأمكِ كوب ماء!»

-«حاضرة!»

كان كلّ شيء من حولي غائمًا ومشوّشًا، وكأنّ جوفي كان يتحين لحظة حاسمة ليفيض بحموضته عليّ وعلى قميص زوجي. وحتى اللحظة، تعتريني رجفة كلّما تذكرت هذا الموقف.

كنت أحسّ بأنّ دماءً تتجمّع في صدري، متخثرة كأنّما طال عليها الأمد، وتنبعث من جسدي حرارة منتشرة.

-«هل أنتِ بخير الآن؟» مسحت لينا بيدها على جبهتي بخفّة.

أومأت بأن نعم، رغم أن شعوري بالفراغ من شدّة الامتلاء لم ينحسر، وما زال العالم يدور من حولي.

-«العمر لكِ يا أمي...»

أطرقت ابنتي رأسها، ملتقطة كوب الماء الفارغ من يدي المرتجفة. كان القلق واضحًا على محيّاها.

كنت لا أدري ما يُفعل بي ولا ما يجري معي من محنة لا أعرف عنها أيّ شيء البتّة، لم أذرف دمعة واحدة، كنت عاجزة عن نفض غمار البؤس الذي أحاطني دونما هوادة. كنت عاجزة عن إبداء أي ردّة فعلٍ تشبه الطّباع البشرية في شيء.

-«يمكنكِ إعداد السّحور وتناوله أنتِ ووالدك وحدكما، سأدخل لأغتسل ثمّ أنام، قد لا أصوم غدًا إن وجدت فيّ بأسًا.»

طفقت ألفظ هذه الكلمات كمن تقرأ بين يديها خطابًا رتيبًا لا تعرف فحواه، ثمّ لم ألبث أن نهضت حاشدة قواي إلى غرفة النًوم.

داخل الغرفة، كان صوت دشّ الحمام يتناهى إلى مسامعي، هِشام يغتسل.

باغتني ألمٌ فظيع إزاء كلّ ما حدث قبل قليل، لقد دنست كلّ شيء ثانيةً.

"موتي، هيّا، فلتموتي."

غرقت في ذلك الصّوت كما لو أنّه يبتلعني.

____

*كلمة شاميّة، تعني الأحمق أو الأبله.

هكذا كان الحبّWhere stories live. Discover now