الفصل الثالث

34 9 2
                                    

–«هل أنتِ بخير؟»

جاءني هذا السؤال بغتة من ممرضتي في العيادة.
ارتبكتُ، وما ألفيتني إلّا مجيبة عن السؤال بسؤال آخر:
–«وهل هناك شيء على وجهي؟»

أجابت الممرضة بلهجتها الرّكيكة فيما تعبث بطاقِ خمارِها:
–«ليس هذا... ما أعني... أعني أنتِ يرجف كثير.»

حينما قالت ذلك، رجعت إلى نفسي.

لم يكن يومًا مزدحمًا بالمرضى مثل عادة الأيّام، لذلك ما وجدتني إلّا ساهمة أطيل النٌظر في روزنامة التّاريخ أمامي، أمّا عقلي فقد كان مغيّبًا في مكانٍ لا أصِله، هل بدوت هائمة على وجهي لدرجة أن تسألني ممرضتي الفلبّينية قليلة الكلام عن خطبي؟ إنّ هذا لأمر عُجاب.

غير أنّي تنبّهت لحظتها إلى رجفة كانت تسري دونما توقّف في ساقي اليمنى، لقد كنتُ مشط قدمي بحركاتٍ تكراريّة للأعلى والأسفل، فتتحرّك تبعًا لها سائر السّاق كأنمّا هي نفسٌ خائفة، مُرتعدة.

–«أنا بخير... الأمر هو أنّ أمّي قد توفّيت الأمسَ.. لذلك أنا...»

نكّست رأسي أرضًا، كما لو كنت أتلفّظ بسرٍ مخزٍ.
اقتربت الممرّضة منّي حتى جلست على كرسيّ المريض، بدت متألمة حقًّا لأجلي، لقد أخذت كفّي الحرة على المكتب في يدها وقالت:

«أنا آسف... أنا آسف....»

حينئذٍ راودتني رغبة عميقة في البكاء، غير لم أرد أن أبكيَ أمام ممرضتي الفلبينيّة من بين كلّ من كان عليّ أن أذرف دموعي أمامهم، كان تفكيري مضحكًا ومثيرًا للإشمئزاز كلّما تذكّرته.
” يستحيل أن ينحدر كبريائي إلى دركٍ كهذا! إنّ ”برستيجي“ كطبيبة نساءٍ قديرة لا يوسع لي مكانًا للبكاء.“
هكذا قلتُ في نفسي.

لم أشعر في تلك اللحظة بشيء بقدر ما شعرت بالخجل، بدا لي العالم الواقعيّ جسمًا مجهولًا، يختلف كلٌيًا عن عالم مخيّلتي.

عندئذٍ ضيّق عليّ أوصالي شعورٌ باليأس، أشدّ من كلّ ما عرفته سابقًا، كما لو أنّني تُركتُ وحدي عند جنوحِ اللّيل ذات مساءٍ في صحراء لا يمكن أن يستجيب فيها أيّ صوتٍ لنداءاتي مهما تكرّرت.

نظرتُ في وجه الممرّضة، التي اصطبغ وجهها دونما سبب، بلون الأرجوان.

–«أنا لا أفهم العالم....»

لمحتُ خاطرةً طويلة في قسمات وجهها، كانت تلك أوّل جملة عربيّة صحيحة القواعد تتفوّه بها خارج مواضيع العمل.

أحسست بأنّها تخفي خلف هذه الجملة بسيطة التراكيب دروبًا طويلة من التّعاسة، لدرجةٍ جعلتها تتفوه بمثل ما قالت أمامي، وفي مثل هذا الموقف.

صِدقًا، تبدّى لي آنذاك كلّ شيءٍ متّشحًا بالموت.

–«ولا أنا أفهمه، إنني أتساءل ما إذا كان ثمّة من يفهمه. إننا جميعًا نظلّ صغارًا مهما بلغنا من العمر، أليس كذلك؟»

ابتسمتُ ابتسامةً شاحبة، ودون أن أحسّ، انزلقت عبرةٌ صغيرة من عيني.



هكذا كان الحبّWhere stories live. Discover now