الفصل الثاني

46 9 7
                                    

أيقظني أذان الظّهر.

البعض يفتح عينيه قبل الاستيقاظ، كما لو كان قد استيقظ فزعًا. ولكن أنا لا، أولاً أفكر من أنا، أعرف نفسى كما يقال، ثم أفتح أجفاني عارفة تمام المعرفة ما الذي ستراه عيناي. اليوم عند الاستيقاظ لم أشعر بأيّ أعراض، بل على العكس، ملكتُ قوة جسدية غير مفهومة.

كان تذكر ما حدث قُبيل فجر اليوم، يذكرني بدوره بمشهد شاهدته في مراهقتي من المسلسل الكرتوني «عدنان ولينا»، حيث أجبر «علّام» الفتاة «لينا» أن تصعد على حافة عمودٍ وحيدة تتقاذفها الرّيح فتكاد تهوي بها، حتى بلغ الأمر من هوله أن أغمي عليها فهوى جسدها على حافة العمود، لا أجيد وصف المشهد كما يجب، لكنه حيّ في ذهني كنا لو أنه يعادُ على الشاشة مرارًا وتكرارًا، كنت أنا «لينا» بوحشتها وخوفها من الفراغ الذي يغتالها من فوقها ومن تحتها وعن يمينها وعن شمالها. علّ هذا ما دفعني في حقيقة الأمر كي أطلق على ابنتي اسم «لينا»، كانت لينا بحزنها الدّفين ووحدتها قرينتي الغير مرئية لأحد غيري. أذكر جيدًا كيف سألني زوجي وأخي الأكبر أيمن، وحتى أمي التي حادثتني من تلقاء نفسها لأول مرّة يوم ولدّتُ لينا عن سبب اختياري لهذا الاسم بالذّات، لم أكن لأعترف أبدًا أنّني استلهمته من مسلسل كرتوني.

لا أذكر أن أمّي كانت بجانبي يومًا، كنت عندما تخزني أبرة، ألعق بقعة الدّم الصغيرة في صمت، بيد أنّه لم يعد يهمني أن ألبس تاجًا من الشوكِ الآن، إنّي أتألّم أمام صورتها.

كنتُ أملكُ صورةً وحيدة لي معها مطويّة في درج التّسريحة، شغلتني صورة أمي كثيراً خلال المرحلة الثانوية؛ ذلك الوقت الذي يصبح الألبوم العائلي فيه عتبة في بناء الصداقة بين البنات.

سمحت لي أمّي أن أزور بيت صديقة لي للمرة الأولى وأن أجلس معها في غرفتها، كنّا لا نجد ما نقوله بعد الحديث عن الزميلات والمدرسات. يحضر الألبوم العائلي أو بعض الصور على المكتب أو الحائط كمنقذ من الصّمت؛ تنفتح طاقة للسرد: عن الإخوة والأقارب، الرحلات والمصايف والأماكن البعيدة التي تعود إليها جذور العائلة، عن الفساتين وقصات الشعر وأعياد الميلاد والهدايا. كنت دومًا طرفًا مستمعًا يعيش مع كلّ ذكرى لصديقتي.

كان ألبوم الصّور طريقة لتعريف الذّات في هذه السن الصغيرة، لا بد أنّني شعرت بالغيرة من توفر الكثير من صور أمهات زميلاتي؛ أحياناً بسبب الطّبقة التي وفرت كاميرا بيتية، وأحياناً، لأنّ أمّي كانت غائبة تمامًا عن كلّ ما يخصّني.

بالنسبة إليّ، لم يكن عندي سوى تلك الصّورة الوحيدة، وكنت أقول في كل مرة أريها لصديقة: «هذه أمي ولكن صورتها لا تشبهها على الإطلاق.»

أحسست بركلة خفيفة في أحشائي.

تحسّست بطني التي عانت ويلات تشنّجات القولون والغثيان فجر اليوم، من حسن حظّي أن «عبد الرّحمٰن» كان هادئًا وقت الفجر، وكأنّه تلحّف بالسّكون رثاءً لجدّته.

كنت في بداية شهري السّادس، ممّا يعني أنّي سألد في صيفٍ شديد القيظ، لم أكن متفائلة أو متحمّسة جدًا لهذه الولادة، والآن بعد أن ماتت أمّي. تمنّيت لو أن عبد الرّحمٰن لا يغادر رحمي أبدًا.

أجبرت نفسي على القيام من السّرير الدافئ كي أصلّي الظهر وأتناول دواء القولون العصبيّ. كانت ركلات عبد الرّحمٰن تواسيني، لم أرد أن ينغّصها عليّ أيّ شيء. لأنّي على يقينٍ لا راد له، أنّ هذه ستكون اللحظات الوحيدة الهادئة هذا النّهار.

هكذا كان الحبّTahanan ng mga kuwento. Tumuklas ngayon