المقدمة

104 6 0
                                    



شقاء هي الحياة .. عناء للضعيف المكافح الذي يفتقد الدعم من أقرب البشر إليه ..
يحيا في كد ومشقة، تحيطه الوحدة ويُلهب قلبه الاشتياق والافتقاد
هكذا كان حال جاد مع أشقائه .. فالدم واحد واللقب واحد والقلب بعيد عن قسوة
وجبروت توغلا في قلوبهم ولم يكونا يوماً من طبعه

هو اختار الترحال حيث العاصمة بعد أن تخلى عن أمواله التي حصلت عليها أسرته عوضاً
عن ثأرهم القديم من عائلة السمرى .. يعيش وحيدا في غرفة ضيقة بالدور الأرضي في عمارة
قديمة بأحد الأحياء الشعبية ويمتهن أكثر من مهنة عله يحقق ما يصبو إليه من حلم محال
يتحرك ببطء في الطرقات التي تكاد تكون مظلمة في هذا الوقت من الليل،
يجر ساقه المصابة كما اعتاد طيلة حياته ..

يحمل عجزه وعاهته أينما ذهب، يتلقى كلمات السخرية وضحكات التهكم من بعض البشر
اللذين يفتقدون للإنسانية ويتلقى نظرات الشفقة والتعاطف من البعض الآخر
ولكن هو .. هو من اعتاد على سماع التعليقات الساخرة منذ نعومة أظفاره من أقرب الأقربين
إليه .. أشقاؤه فلما لا يبتلعها ويتحملها من الغريب
اعتاد التعايش مع إعاقته، تقبلها خاضعا وتجاهل سخافة المتهكمين لولا ظهورها!! ..

قطر الندى من أجلها فقط يرغب في الكمال ... يرغب في الاكتمال حتى يصير فارس الأحلام
الذي يليق بها وهي الأميرة الغالية عالية المقام
وصل إلى محل بسيط في ذلك الحي الشعبي لبيع المواد الغذائية حاملاً عدة صناديق كرتونية
فوق كتفه الضعيف ..
توقف مُلقياً نظرة داخل المحل الصغير حيث يجلس رجل كبير في السن تترنح رأسه
فوق عنقه وهو يقاوم موجات النوم التي تتلاعب بأجفانه مع نسمات الليل الهادئة


صدع صوت جاد بالتحية فانتبه الرجل من غفوته ووقف في مكانه بكسل
قبل أن يتجه صوب باب المحل مُرحبا به
:- أهلا يا جاد يا ابنى
تناول الرجل الكبير أحد الصناديق الكرتونية التي يحملها جاد فوق كتفه ووضعه أرضًا
بينما انحني جاد يضع البقية فوقه ثم استقام واقفا ينفض كفيه وكتفه عن الغبار الذي
علق بهم وهو يرد تحيه الرجل بود
:- أهلا بيك يا عم إبراهيم .. أنا چبت كل اللى طلبته منى في الصناديج ديه
ألقى إبراهيم نظره نحو الصناديق الكبيرة التي أحضرها جاد ثم أفسح له الطريق
حتى يدلف إلى الداخل وهو يقول بامتنان
:- كتر خيرك يا جاد والله شيلت عنى حمل كبير ..
كنت بتعب من مشوار طلبات المحل ديه .. العضمة كبرت يا ابنى
تحرك جاد إلى الداخل وألقى بجسده المتعب فوق أقرب مقعد خشبي مرددا
:- ربنا يعطيك الصحة يا عم إبراهيم .. أنا في الخدمة أى وجت
انحنى إبراهيم يفتح الصندوق العلوى ويتفحص محتوياته وهو يواصل حديثه مع جاد
:- لكن أتأخرت أوى النهارده يا جاد .. ده أنا قلقت عليك

ضحك جاد بمرح وقال يشاكس الرجل العجوز الذي كان نائماً داخل دكانه الصغير
:- جلجت عليّ ولا بدك تنام يا عم إبراهيم
قهقه إبراهيم بمرح وترك الصناديق ليلتفت نحو جاد مقترباً منه وأقر بمرح
:- عليك نور .. بدى أنام ما أنا لسه قايلك عضمة كبيرة يا واد
دعا له جاد بالصحة والعافية ورفع كفه يمسح على وجهه مرهق الملامح وقال بإجهاد يسرد
تفاصيل يومه إلى الرجل الذي أصبح صديقه الوحيد في العاصمة رغم فارق السن بينهما
:- أصل خلصت الشغل في المخزن وبعدين عديت على المستشفى الحكومي
التفت إبراهيم نحو جاد يرمقه بعدم رضا وقال بقلق
:- بردوا مصمم على العملية ديه يا ابنى
زفر جاد متفهما لخوف هذا الرجل الطيب عليه فهو يعتبره كابن له خاصة وأن إبراهيم
لم ينجب سوى بنات واللاتى تزوجن جميعًا وانشغلت كل منهن بحياتها
... قال جاد برجاء
:- ديه أملي في الحياة يا عم إبراهيم أن امشي كيف بجية الخلج ...
مشية سليمة من غير عرج مفرود الضهر ومرفوع الراس
نكس جاد رأسه كما أخفض صوته مهمهما بخزى
:- لو كان أبويا عنديه المال كان زماني اتعالچت من زمن ... جلة المال خلته يچيب
مچبراتى يربطها والسلام بعد ما وجعت وانكسرت وأنا بلعب الكورة مع العيال ...
الراچل ربطها غلط والعضم لحم على وضعه وفضلت أعرچ من سن خمس سنين ولحد دلوك

ترك إبراهيم ما يفعل وجلس في مقابل جاد وقال بتعاطف هادئ
غرضه النصح والتريث في التفكير
:- يا ابني ده نصيب ومحدش بيختار أهله أغنيه ولا فقرا .. بس ده يخليك
ترمي بنفسك لعملية مش عارف نتيجتها إيه؟
دلك جاد ساقه المصابة الممدودة أمامة تلقائياً ووضح ما فهمه من الطبيب وكأنه يفكر بصوت عالي
:- الدكتور بيجول إني ممكن امشي زين بعد كام عملية في العضم ...
هو ساعدني في الاوراج لاچل ما أعمل أول عملية على حساب الدولة وربنا يكرم في الباجي
عبست ملامح إبراهيم مفكرا وقال بتخوف من الأسوء
:- وأفرض أن العملية فشلت لا قدر الله .. ما ينوبك غير تكسير عضامك
رسم جاد ابتسامة ساخرة على ثغره ودقق في ساقه المصابة بقنوط وقال يائسا
:- ضربوا الأعور على عينه ...
يعني هيُحصل ايه أكتر من اللى أنى فيه كده بعرچ وكده هعرچ
تنهد إبراهيم مستسلما لرغبه جاد الذي ما يفتأ يرددها ويتمناها منذ تعرف عليه
.. نهض إبراهيم يستند على ظهرمقعده داعياً لجاد
:- ربنا ينولك اللي في بالك يا بني
فتح أحد الأدراج وأخرج ورقة ملفوفة بعناية تحتوي على مبلغ مالي
ثم عاد يقف أمام جاد مادا يده بالورقة
:- خد يا جاد .. ديه ورقة بشوية طلبات من خيرات الصعيد مطلوبة مننا ..
أنا أخدت عربون من كل واحد طلب حاجة وكتبتلك في الأخر شوية طلبات تانية
هعرضها هنا في المحل ورزقنا على الله
تناول جاد الورقة وتفحصها بعناية وابتسامة خفيفة تائقة تتشكل على ثغره ..
ابتسامة شكر على رزق الله وتوق إلى أرض المحبوب
يسعى بكل جهده في أكثر من اتجاه حتى يجمع مبلغ مالي محترم يكون
بذرة مشروع تجاري يستطيع به العودة حيث قلبه المفقود وحلمه المستحيل
سافر بخياله بعيداً إلي أرض المحبوب للثواني ثم رفع عينيه نحو إبراهيم مرددا باشتياق
لأرضه وجذوره، موضع قلبه الساكن هناك وقال بنبرة هائمة :- يبجى زيارة البلد وچبت
أومأ إبراهيم يوافق ثم أولاه ظهره وتقدم نحو ثلاجة الأجبان يقوم بتقطيع وتغليف بعض منها
أما جاد فنهض من مكانه ودس الورقة والمال داخل جيب بنطاله بعناية
ثم رفع الصناديق التي أتى بها واحد تلو الآخر ووضعهم في نهاية المحل
حتى يقوم إبراهيم بتفريغهم وقتما يشاء
ما أن انتهى حتى تقدم نحو باب المحل وسأل إبراهيم بلسان من اعتاد على الأمر
:- هنجفل المحل دلوك ولا تحب تسهر كمان شوية يا عم إبراهيم
أنهى إبراهيم ما يفعل والتفت نحو جاد بابتسامة ممتنة فقد اعتاد على مساعدة جاد له
يوميا في غلق المحل إلى جانب مساعدته في مهام البيع وشراء البضائع
قال إبراهيم بمرح مشيراً في الهواء صوب منزله القائم بالأعلى
:- لا كفاية كده الرجل خفت على المحل وأنا أتأخرت على الحجة أوى وأنا مش حمل زعلها
ابتسم جاد بمحبة، قلبه يرنو للحب والونس بدوره ولكنه غارق في بحور الوحدة بمفرده ...

بدأ في غلق الأنوار وجذب باب المحل المعدني استعدادا لغلقه وإبراهيم في أثره
يحمل أطباق الأجبان حتى إذا ما انتهى جاد من غلق القفل الحديدي للمحل
واستقام بجسده حتى وضع إبراهيم الأطباق المغلفة في يد جاد قائلاً بنبرة أبوية
:- خد عشاك يا جاد
لم يتفاجئ جاد بفعله إبراهيم فهو كثيرا ما يفعلها وفي كل مرة يعرض جاد
دفع الثمن كما فعل الآن
:- كتر خيرك يا عم إبراهيم .. بكام دول؟
ضربه إبراهيم على كتفه موبخاً بمشاكسة أب لولده
:- أنت مش هتبطل المخ الصعيدى ده .. ما أنت بتساعدنى في كل حاجة كنت
بتطلب التمن يعنى
اندفع جاد يقول بحمائية وشهامة متأصلة في طبعه
:- ديه واچب يا عم إبراهيم .. هو أنا كنت بعمل إيه يعنى
ربت إبراهيم على كتف جاد ممتناً قائلاً بود
:- بتعمل كتير يا ابنى كفاية وقفتك جنبى .. ربنا يعلم بعتبرك زى ابنى بالظبط
:- ربنا يكرمك يا عم إبراهيم
سارا متجاورين بضع أمتار حتى باب منزل إبراهيم الذي يسكن فوق محله الصغير
ودعه إبراهيم مغادراً ثم أكمل جاد طريقه على بعد عدة بنايات أخرى حتى العمارة التي يسكن بها
صعد بضع درجات قليلة وتهادى لسمعه صوت مواء قطة
نهضت من مكانها منتشية في استقباله،
ابتسم بحبور وقال مداعباً
:- مساءك جشطة يا جطر الندى .. أتأخرت عليكِ إياك
توقف أمام باب شقة جانبية على يمين السلم والقطة تدور حول ساقيه
وتتمسح بهما وهو يواصل تدليلها والحديث معها كرفيق وفي يؤنس
وحدته وهو يدس المفتاح في ثقب الباب
:- حماتك بتحبك .. عم إبراهيم متوصى بينا اليوم
سبقته إلى الداخل بمجرد أن فتح الباب واستدار يضيء أنوار الغرفة الأرضية
المتواضعة التي يسكن بها والتي تحتوي على فراش صغير وطاولة خشبية يحيط
بها كرسيين خشبيين إلى جانب حمام ضيق وحوض خارجي بجوار
وحدة مطبخ صغيرة وموقد مسطح فوق طاولة خشبية أخرى
أغلق الباب واتجه نحو الطاولة الجانبية الملاصقة لشباك الغرفة المطل
على الشارع والتي سبقته القطة وقفزت فوقها وكأنها تعرف طريقها
ومدركة لتصرفات جاد معها
وضع حمل يده فوق الطاولة فاقتربت تتشمم محتويات الكيس الصغير
في حين أحضر جاد طبق بلاستيكي صغير يخصصه لطعامها ثم فتح الكيس
يتفحص محتوياته وابتسم حين وجد كيس آخر صغير يحوي بعض قطع من بقايا
تقطيع اللانشون لم ينس عم إبراهيم الاحتفاظ بها لقطته
وضع القطع في طبق قطته البيضاء ذات البقع البرتقالية التي سارعت إلى التهام طعامها
وجاد يقف بجوارها يمسح على فرائها الناعم هامساً بشجن
:- كتر خيرك والله .. مفيش غيرك بيسأل عليا ويأنس وحدتى في الچب اللى عايش فيه ديه
تنهد بعمق يطلق نيران اشتياقه ولوعته ..
مقلتيه تسبح في الفراغ ترى بعين القلب مؤنسة فؤاده وردد بشجن
:- اتوحشتها جوى جوى .. عينى مشتاجة لها وجلبى مفطور عليها ..
كدب اللى جال البعيد عن العين بعيد عن الجلب ديه البعاد نار والفرجة عذاب
تنفس مطولا ينفث بعضا من نيران قلبه المستعرة قبل أن
ينتبه من جديد إلى القطة التي ترمقه بين الوقت والآخر أثناء تناول طعامها
تركها واتجه إلى الركن الذي يمثل مطبخ صغير غسل يديه وملء وعاء صغير بالماء
ثم عاد يضع الوعاء أمام القطة
ثم انتحى جانباً يفتح خزانة الملابس الصغيرة المتهالكة القابعة بركن الغرفة
ووقف يتأمل الصورة الملصقة داخل ضلفة الخزانة ..
صفحة نزعها من أحد المجلات خُط عليها بخط الثلث اسم (قطر الندى)
وتحتها صورة لأميرة مرسومة بألوان زاهية تتدلى ضفيرتها العريضة على كتفها بأريحية

مد أنامله يمررها فوق الصفحة الملونة يُلقى تحية المساء عليها غارقاً في ندى قلبه
التي يحيا من أجلها ... زفر بحرارة أنفاسه الملتاعة قبل أن يمد يده ويجذب صندوق خشبى
صغير يضع به مدخراته، فتحه ووضع به محتويات جيوبه من أموال
وورقة الطلبات التى أعطاها له عم إبراهيم
ثم عاد يجلس مقابل قطته ومد يديه يصنع لنفسه شطيرة من الجبن ولم ينسى أن يمنح قطته
بعضا منه ثم شرع في تناول شطيرته أثناء نقاشه أحادى الجانب مع قطته الصغيرة
التي تبادله النظرات من حين لآخر
حاد بنظره نحو مجموعة من الكتب المتراصة على حافة الطاولة وابتلع محتويات فمه
ثم قرب بعض الكتب منه وبدأ في ترتيب أفكاره ووضع جدول زمنى لمهامه الكثيرة
فهو يعمل نهاراً بشكل أساسي في مخزن للمنتجات الغذائية والحلويات ويقوم بتوزيع
بعض من هذه المنتجات على بعض المحال التجارية لحسابه الشخصي في المساء
كما يقوم بجلب بعض المنتجات الغذائية من بلدته لبيعها من خلال محل عم إبراهيم
وبجانب كل هذا انتسب إلى معهد زراعي أربع سنوات ليكمل دراسته بعد الدبلوم الزراعى الحاصل
عليه لعله بذلك يقترب خطوة ولو صغيرة إلى حلمه البعيد وينول الرضا والقبول من محبوبته الغالية
فتح أحد الكتب يقلب في أوراقه محدثاً نفسه
:- لازمن أراچع المادة ديه الامتحان جرب
رفع رأسه يطالع القطة التي أصدرت مواء خافت تمسح حول فمها بلسانها بعد
أن تجرعت القليل من الماء قبل أن تقفز برشاقة من فوق الطاولة ومنها إلى الفراش الصغير
لتتكور حول نفسها وتغمض عيناها باسترخاء بعد أن ملئت معدتها
اتسعت بسمته وهو يجيب عليها وكأن هناك نقاشا دائرا بينهما
:- والله عنديك حج يا جطر الندي ...
أني لازمن أنام وارتاح وعلى الفچرية أجوم أصلي وأذاكر
قضم جزء من شطيرته التى أوشكت على النهاية ولاكها ببطء
ثم نهض يغلق الإضاءة داسا باقي الشطيرة في فمه واتجه صوب الفراش مستطردا لنفسه
:- بكره لازمن أعدى على المعهد أصور المحاضرات المتأخرة ...
لازمن أنچح وما ضيعش ولا سنة ... جطر الندي ما شاء الله عليها
كيف الجطر الجشاش في العلام ولازمن أحصلها ولو حتى في السبنسة ..
كل أملى أكون چارها ولو من بعيد يكفينى إنها ماتغبيش عن عينى واصل
تمدد فوق الفراش بجوار القطة الصغيرة بعد أن أبتلع محتويات فمه يتأمل السقف
كشاشة عرض سينمائي تعرض صور محبوبته من ذاكرة خياله الخصب بكل لمحة
ولفتة منها حتى غط في نوم عميق يغمض جفنيه على صورتها التي لا تفارق خياله
وخافقه العامر بعشقها يردد اسمها بلا انقطاع

**********
بعد ثلاث سنوات

أنهت أوراق تعينيها فى مبنى الكلية وكادت تنصرف حين ارتطمت نظراتها بكريم
يقف أمامها وكفيه داخل بنطاله بخيلاء وقال بابتسامة بلاستيكية
:- مبروك يا دكتورة .. أنا كنت واثق من تفوقك لكن خسارة أنتِ مكنتيش واثقة من نفسك
رفعت ذقنها تناظره بتعجب ... لا تعلم لمَ يطاردها حتى الآن رغم زواجه بمن توافق مواصفاته القياسية
رسمت ابتسامة هادئة على ثغرها وقالت بهدوء واثق تجيب على تهكمه الخفى
على رفضها الزواج منه
:- متشكرة على تهنئتك يا دكتور كريم .. أنا كنت واثقة من هدفى وعارفة إنى هوصله
وعشان كده لازم اختار شريك حياة ثقة عارف قيمتى ويقدرها
مش يفاضل بينى وبين أخريات واللى تكسب تنول الرضا
استأذنت بخفوت وتركته يقف مكانه يحترق من غضبه وواصلت طريقها إلى ساحة الجامعة،
ضمت بعض الأوراق ودستها فى حقيبتها ثم رفعت رأسها تواصل سيرها السريع والذى بدأ يتباطئ أمام ما تراه أمامها
هذا الشخص الذى يقف فى منتصف ساحة الجامعة مشدود القامة ببنطال من الجينز الأزرق
وقميص من اللون السماوى ليس غريب عن عينيها .. ربما رأته مسبقاً ولا تتذكر أين؟؟
زاوت بين حاجبيها وعادت تتفحصه وهى تقترب منه ببطء، شعر أسود ناعم قصير مصفف على جانب واحد، وجه حليق وعينيه ترصدان حركتها بشغف
توقفت على بعد أمتار قليلة تفصلهما .. حائرة فى شخصه .. تلك الملامح تعرفها جيداً، أخفضت نظرها إلى قدميه اللتان تختفيان داخل حذاء طبى مصمم بشكل خاص
ثم رفعت مقلتاها إلى وجهه الذي تزين بابتسامة جذابة وتقدم نحوها بخطوات سليمة إلا من عرج خفيف تكاد العين لا تدركه
اتسعت عيناها ذهولاً وانفرج فمها هاتفاً باسمه بعدم تصديق :- جاد!!
اتسعت ابتسامته حباً و أملاً .. مازالت تذكره رغم تغير مظهره ورغم طول سنين الفراق ..
قال بتأثر
:- مبارك النجاح يا دكتورة ندى
حركت رأسها بعدم تصديق وقد انعقد لسانها عن الكلام .. حتى لهجته تبدلت بلهجة أهل العاصمة، ابتلعت ريقها ثم قالت بنبرة متعجبة
:- أنت اتغيرت أوى يا جاد حتى لهجتك اتغيرت
حرك رأسه نافياً ووضع كفه فوق قلبه مؤكداً بعاطفة جياشة
:- القشرة الخارجية بس اللى اتغيرت لكن اللى فى القلب فى القلب يا قطر الندى
انحبست أنفاسها وزاغت عيناها فى المكان تهرب من سخونة دمائها
التى لونت وجنتيها بوهج أحمر قانى،
صوته الهادئ انتشلها من تخبطها وهو يقدم نحوها ورقة مطوية قائلاً
:- هدية نجاحك يا قطر الندى
عادت تنظر نحوه وتناولت الورقة المطوية من يده بعدم فهم ثم فضتها بارتباك
وتجولت بين حروفها وصوت جاد يوضح محتويات الورقة
:- ده جزء من هدية نجاحك .. مش نجاحك فى الكلية وبس لأ نجاحك فى إنك تعملى منى شخص جديد
رفعت مقلتاها عن الورقة تناظره بعدم فهم فأشار إلى الشهادة القابعة بين أناملها
:- ديه شهادة نجاحى فى معهد التعاون الزراعى .. أربع سنين
فتح كفيه فارغتين أمامه مستسلماً واستطرد موضحاً
:- عملت معادلة بعد الدبلوم والتحقت بالمعهد ..
للأسف مقدرتش أحصل على شهادة أعلى من كده تليق بمقامك العالى
ناظرته فاغرة الثغر لا تصدق ما ترى وتسمع، كيف ومتى حصل ذلك ولماذا؟
.. لماذا يبقى على حبها وهى التى لم تظهر نحو أى عاطفة أو اهتمام خاص؟؟
هزت رأسها بحيرة تضاهى نبرتها متسائلة
:- ليه يا جاد .. ليه كل ده!!
رفع كتفيه وأخفضهما باستسلام ثم قلص المسافة بينهما بخطوة أخرى
وطأطأ رأسه يشرح مشاعره
:- كل سنة وقت النتيجة كنت باجى هنا انتظر يوم ورا التانى لغاية ما تيجى وأشوف فرحتك بنجاحك .. كان نفسى أشاركك حتى ولو من بعيد
زفر بعمق وأردف بقلة حيلة
:- وكان نفسى أرجع بقافلة محملة بأثمن الهدايا زى مهر قطر الندى .. لكن ما باليد حيلة
طوت الشهادة بين يديها تحدق فى وجهه بحرج وحيرة لا تدرى كيف تجيبه؟
كيف تستوعب ما يقوله وأى مهر يتحدث عنه قالت بتعاطف وفخر لما وصل إليه
رغم نبرة الحرج التى وضحت فى حديثها
:- كفاية شعورك يا جاد .. وألف مبروك على نجاحك
حملق فى ملامحها يشعر بحيرتها وتخبطها فأراد أن يرفع عنها الحرج،
سحب نفس طويل ثم أخرجه ببطء ثم قال بنفس نبرته الهادئة
:- أنا مش بطالبك بأى حاجة ولا أقصدى إنى أحرجك ..
أنا بس عاوز أوضحلك وأنتِ احكمى فى النهاية
تناول شهادة تخرجه التى أرجعتها إليه وطأطأ رأسه يروى ما مر به
خلال السنوات السابقة
:- أنا اشتغلت ليل مع نهار .. شغلة واتنين وتلاتة اتعلمت كتير أوى وتعبت كتير أوى أوى .. كنت بحط القرش فوق القرش وأحرم نفسى من كل شئ عشان أوصل لهدف واحد
رفع رأسه يحدق داخل عينيها العسلية يؤكد أنها هدفه الوحيد،
صمت لبرهة ثم لوح بالشهادة في الهواء واستطرد روايته
:- الشهادة جزء من هديتك زى ما قلت .. الجزء التانى أنى بدأت تجارة صغيرة
شركة توزيع بضايع من الصعيد وبنقلها وأوزعها فى القاهرة والأسكندرية
تنهد بخفة أمام عينيها التى تراقبه بحيرة وفخر فى نفس الوقت وابتسم برضا يواصل حديثه
:- وأخر جزء إنى رجعت القرية وقابلت أحمد بيه السمرى .. طلبت منه إنى أرجع أعيش وسطيكم
وأبدأ فى مشروع صغير هناك والحقيقة فاروق بيه ما نسيش وقفتى مع ابنه
لما كان مخطوف ورحبوا بوجودى فى البلد
شبكت أصابعها بتخبط وعقلها يدور فى أفكاره المتدفقة عليه وقلبها يعلن طبول الخطر،
من قبل تمنت قلب جاد ومكانة كريم وهاهو جاد يعود بمظهر جديد وقلب لم ينسى
شرد ذهنها بعيداً فجذب انتباهها حين نادى باسمها بنبرة عشق خالص،
التفتت نحوه فى تيه فابتسم برقة فى وجهها يطمئنها
:- اطمنى يا قطر الندى أنا مش بطالبك بأى حاجة غير الشراكة
هزت كتفها تتساءل بتعجب :- شراكة إيه؟
شد قامته وبدأ فى شرح مشروعه بثقه جادة
:- إن شاء الله ناوى أعمل مزرعة دواجن وأرانب وحالياً بدور على قطعة أرض
أنفذ عليها المشروع وطبعاً مزرعة زى ديه هتحتاج دكتورة بيطرية شاطرة
تشرف على المشروع
أنصتت إلى حديثه بتفكر وطال صمتها، أمال رأسه قليلاً يناظرها بعشق
لم تستطع عيناه أن تخفيه وقال مطمئناً
:- شراكة المشروع هتقرب بينا يمكن نعرف بعض أكتر .. ووقتها..
قطع عبارته يتواصل مع نظراتها الحائرة، لتكمل العبارة فى رأسها وتتفكر قليلاً
جاد الرجل الذى عاش من أجلها طوال السنوات الماضية يعطيها الحرية
فى معرفته وتقيمه وربما بعد ذلك .. تأتى الموافقة
جاء صوته هامساً راجياً
:- كل غرضى أكون جنبك وحواليكِ .. أعطينى الفرصة ديه وأوعدك مش هتندمى
التقطت نفس طويل يملأ صدرها ثم أخرجته ببطء حين مد جاد كفه نحوها
يتوسل موافقتها بخفوت
:- موافقة على الشراكة يا دكتورة
تجولت نظراتها على ملامحه الوسيمة .. هذا الرجل تحدى نفسه ليقف على قدميه
وعاد محمل بحلمه وقلبه العامر بحبها، اتسعت بسمتها ببطء قبل أن تمتد أناملها الرقيقة
تذوب داخل كفه الحانى كموافقة على بداية جديدة

**************

نهاية المقدمة 

لا أحلل نقل أو نشر الرواية في أى مكان حفظا لحقوق النشر

غيـوم البـعادWhere stories live. Discover now