هذيان

28 1 0
                                    

لست متأكدا ما هو اليوم، الإثنين أم الثلاثاء؟ ولكني أعلم أنه اليوم الخمسون بعد المئة؛ برزنامتي طبعا، مئة وخمسون يوما تمر كأنها قطار بخاري لنقل البضائع، يتوقف حينا في كل محطة تصادفه، ويكمل مسيرته حينا آخر بعد أن ينتهي من عمله فيها، يحمل دوما معه الخبر السعيد والحزين في آن معا، هناك من ينتظر حبيبا، وآخر صديقا، وأخرى زوجا، وهي تكملة في الحياة، لا أعلم كيف مرت تلك الأيام بهاته السرعة، ولكن ما أنا متأكد منه هو أنها مرت علي تحمل دوما أخبارا حزينة، فمنذ قدومي إلى هذه الزنزانة، لم أذق طعم السعادة أبدا، مأساة ألمت بي في كل يوم، بساعاته الأربع والعشرين، أنا سجين لليوم الخمسين بعد المئة، ولكن هذا لا يختلف عن سجني وأنا أظن أنها الحرية التي سلبت مني، هناك في منزلتي ومع عائلتي وزوجي، صحيح أنني كنت سعيدا، ولكنها سعادة مزيفة، تحمل في طياتها نوعا من النفاق المتراكم، وحبا يكاد سما قاتلا، سجين في حريتي، ولست متاكدا من أن تلك هي الحرية أو هذه هي الحرية الحقيقية، فلا يختلف سجن الحياة عن زنزانة السجن، ودائما هناك سجان في حياتك تكون أنت سجينه.
كلنا نبحث دوما عن الحرية والوحدة، والعيش بهناء وسعادة، تخيل نفسك تفني شبابك في جمع الأموال والدراسة لتتمكن من الزواج، وبعد ذلك تضيف لنفسك هما آخر عليك هو الأولاد، أين الحرية التي يتحدثون عنها في الجرائد والإذاعة والتلفزيون، هل حقا نحن نعيش في حرية واستقلالية خارج أسوار الزنزانة، لا بأس بما حدث معي، فالتاريخ أوصل لنا كثيرا عن الحرية، لا أحبذ أن أطيل الكلام عن الحرية، ولكن ذقت ذرعا بما آلت إليه حياتي، فبعد أن دخلت السجن، توقعت أن حياتي ستكون أسوء مما كانت عليه في السابق، ولكن ها أنا أشعر بقليل من الحرية بعيدا عن العالم الخارجي الموحش، كنت مكبلا بأغلال اسمهم العائلة، الزوجة، الأولاد، البيت، مشاكل العمل، الدوام من الثامنة صباحا إلى الرابعة مساء، أنا أشعر بقليل من السعادة الآن التي تحمل في طياتها نوعا من الحرية، لست سعيدا لأني دخلت السجن، بل انا سعيد لأني تخلصت من تلك الأغلال التي كبلتني طيلة خمسة عشر سنة، زوجتي سعاد كانت كثيرة النكد، تتحدث دوما عن فلانة وفلانة، وجارتنا زوج الجزار، اشترى لها زوجها عقدا من الذهب المرصع بالألماس، وهذه ابنة عمها التي اشترى لها زوجها سيارة خاصة بها، تذهب للعمل فيها، بحكم أن زوجها يعمل في الجيش برتبة عالية، ويتقاضى مبلغا جيدا.
لا يمكن للإنسان أن يتحمل كل مشاكل الحياة المختلفة، نعم هو اختبار من الله، ولكن كل إنسان له حد للصبر، إذا تجاوزه انفجر، وإذا بقي فيه أصبح جمادا، لا يتحرك، لا ينفعل، لا يصدر أي صوت، يكتم غضبه وقلقه وحزنه بداخله، لن تلاحظ أبدا تلك المشاعر، ولكن يوما بعد يوم يمرض، يتقلب في الألم، يصبح أنحف، يصيبه الشيب وهو ما يزال في ريعان شبابه، ذلك التغير الذي أصابه بسبب الصبر الذي هو يتخبط فيه، العائلة، الأصدقاء، زملاء العمل، يتعاونون جميعا على إيصالك إلى حد الصبر، فقدرته على التحمل ضعفت، واتزانه ذاك قد انقلب، الإنسان يموت مرتان في حياته، مرة عندما يتوفاه الله، وهناك يصبح حرا من كل مشاكة الحياة، والمرة الثانية التي تقابله في حياته، حينما ينساه الناس، تهمله عائلته، ينبذه المجتمع، لن يعرف أن ذلك الإهمال سيغير حياته رأسا على عقب وسيصبح شخصا مختلفا في قادم الأيام والسنين.

من بين القضبانWhere stories live. Discover now