الحلقة الأولى

743 44 2
                                    






غرق في ضحكاته مشاركاً باقي أصدقائه حول الطاوِلة الخارجية للمقهى الذي إعتداد إرتياده معهم بعد لقائهم في الجامعة وحتى تخرجهم منها ، وكأنّ قلوبهم طُبعت فوق طاولة الرخام بذكرياتِ أولى تعارفهم الى أبسط مقالبهم التي مارسوها على بعضهم ..

ضّحِك بصوته العميق وعينيه تغوصان في ملامحه الوسيمة منقِلةً ضِحكته من فمه لعينيه . لكمه صديقه الأصهّب مازحاً رداً على الكلمات التي ألقاها بلهجةٍ طريفة -محاكياً موقفاً حدث مع الأصهّب أيام الجامعة -.

وقف وهو يودعهم بمصافحه سريعه وإبتسامته لا تزال تزّين ملامحه ، أبتعد عنهم مفرقاً بين قدميه متجهاً للطرف الآخر من الشارع مرتدياً سماعاته اللاسلكية واضعاً راحتيه في جيوب بنطلونه الأنيق .. كان مزيجاً غريباً من رجلٌ فريدٍ بنرجسية حلّته الأنيقة وإبتسامته البشوشة التي لا تفارق ملامحه وحبه الشديد للإجتماعات والحفلات والرياضة .. كانت حياته مليئةٌ بالبهجة وبالطاقة والناس .. حياة صاخبة لم تشُبها شائبة الحُزن إلاّ من بعد أن قرأها .. في صدفةٍ غريبة ....................

وصل لوجهته تستقبله أمينة المكتبة " نازية " بإبتسامتها الصفراء متوّددة -كونه مالك المكتبة وفي مقتبلِ عمره- في ترحيبها وكأنّها توصل عبرها أمراً ما .. ذلك الأمر الذي لا يلقي له هو بالاً أبداً .. بادلها تحيةً سريعة ثم ذلف لصالة المكتبة الكبيرة متيحاً للجميع الجلوس والهدوء للقراءة دون أن ينبس أحدهم ببنت شفَّة ، رفوفٌ مملوءة بالكتب بجميع حوائطة الثلاث ذات اللون الأبيض .. في حين تميزّت واحدة دون الأخريات بضم مدفئة عريقة صممت بحرفية قديمة ذات نقوش بيضا مذهّبة بخيوطٍ من نحاس .. أحتل كعادته الطاوِلة التي تقبع قرب المدفئة التي لا يجلس بها سواه ، وقد بلغت رائِحة الكتب العتيقة أنفه في مداعبة وكأنها هي الأخرى ترحِّب بوجوده بينهم .. ولو كان مهوساً بشيء فهو بالتأكيد بكل هذه الكتب التي تحيط به وروائحها التي تزّكيه نفسها ، أخذ نفساً عميقاً منتشياً / مستمتعاً بجلوسه في الأريكة الفردية بلونها البندقّي وهو يتأمل الكتب التي رصّت بجمالية فائقة في رفوفها الخاصة ، كل كتابٍ يضم روحاً وجزءاً من ذاكرة .. كروحه التي يحملها في حقيبةَ ظهره الجلدية السوداء ذات العلامة المعروفة ، أخرج منها كتاب متوسط الحجم ثم أسند يديه فوق الطاوِلة المربعة بلونها الأبيض مذهّبة الأقدام .. ليسبُقَ شروعه في قراءته أقدام أمينة المكتبة " نازية " مناولةً إياه بميوعة وإبتسامة واسعة كوب قهوته الخاصة ، أستله من يدها وهو يسحب يده من بين أصابعها التي تتلّمس عروق كفه وهو يغتصِب إبتسامةً بدت مخيفة أكثر من كونها مجاملة واضعاً الكوب فوق الطاولة شاكراً إياها بإقتضاب .

زفر زفرةً عصبية حين إبتعدت ثم إبتسم لكتابه الموضوع أمامه وكأنه على موعدٍ من حب .. فتح الكتاب والفضول اللذيذ يوسّع حدقتّيه الزيتونية .. وغاب هو في دهاليزها مشدوهاً بكل حرفٍ يقرأه وكأنه أنتقل من عالمه لعالمها .. شارعاً في قرائتها.

•••
اليوم أيضاً جلستُ قرب النافِذة يا أمي ، معي كوب قهوتك بنفس طعمه الذي لم يتغّير منذ أن غادرتني روحك .. قلمك المفضل ، وأوراقك التي بلّت أطرافها وإصفرّت رُغم إهتمامي الشديد بها.
هل تعلمين يا أمي ؟ .. يبدو بأنّي لن أكف عن التظاهر بالمفاجأة في كل مرةٍ أرى فيها فيلم سندريلا أو أقرأ في كتاب قصتها ، ما يدهشني بأني أنتظر تلك الساعة التي يقرّع بها جرس الثانية عشر لتفرّ سندريلا هاربة فتوقع فردةَ حذائِها الزجاجي ، وكأنّ كل البدايات لا تعنيني منها سوى تلك اللحظة .. حتى هذه المرة لم يتغير شيئ ، جاب الأمير المدينة بأكملها حتى يعثر عليها ، لم تتغّير أمنيتي يا أمي في أن يجدها سريعاً فياخذها متوجاً إياها ملكته .. وكأنّي أبحث في قصتهما حكايتي ، أنتِ تضحكين الآن كما أتذكر إبتسامتك وأنتِ تخبريني بأن جميع قصص الحُّب ليست ساندريلا ..

ولكنِ ضعيفة يا أمي دونك ،

وقصتها تقوّيني بطريقةٍ ما كما لو أنني أغوص بشخصيتها واثِقة بأن الأمير الذي ترقبّته هي في صبر سيأتيني أيضاً ، سيجوب العوالم كلها ويعثر عليّ كما حدث مع أميرها ..

حزينةٌ أنا جداً من بعدِك أمي ..

أعلم بأنك ترغبين مني الخروج والتعّرف على أصدقاء والإنخراط في الحياة الكظّة بدل أن أغرق في وحدتي أكثر ، أن أبقى وحيدة هكذا .. بائسة ، حزينة .. ولكنِ سأخبرك بسرٍ خطيرٍ قد جال في داخلي الآن يُنسيكِ ما كتبت سابقاً، يساورني شعورٌ غريب وأنا أكتب لكِ بأن هناك من يقرأني سواكِ .. أشعر بأن هُنالك شخصٌ يراقب رسائلي الخاصة إليكِ ،

-يقرأني ؟

تساءلت الآن بجنوني المعّتاد إذا كان شخصاً غيرك وجدني من بين أكوام كتبي وروحي الخرساء ؟.

•••

أنهى " إيّاس " قراءته وهو يحدّق في دهشةٍ عظيمة لآخر سطرين خطّهما قلمُ والِدتها .. هامِساً بنبرة ثقيلة وعينيه تحتضنان أحرّفها التي كتبت بأناقة ..
-شعرتْ بي !!!!!!!! .

أغلق الكتاب بعد أن قرأ سطورها الأخيرة عّدة مرات دون ملل .. وتحديقه بعنوان الكتاب ما زال يشغل حيّز عينيه متمتاً بخفوتٍ شديد عنوانه :
-عن الروّحِ والكتب .
وكأنه يحاول أن يجيبها بأنه هنا .. هو الذي يقرأها كلَّ يومٍ دون أن يمّل ويقف بينها وبين والِدتها ويقرأ رسائلها المحّصنة بأشواقِها إليها .. مكلّلة بحبها العميق وشكواها ووحدتها ، خوفها ، وقدّيسية عزلتها .

أعاد الكتاب في حقيبته وخرج برأسٍ مثقل بالأفكار متجهاً بخطواتٍ رتيبة لبيته الخاص الذي يلاصق المكتبة .












أنتهت الحلقة الأولى .
" لا تغفلوا عن التصوّيت قرّائي "

يُتبع . .

إمرأة من شمس ( عن الرّوح والكتب ).  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن