الحلقة الثانية

469 36 1
                                    





حلّ المساء وتدثّرت السماء بغِطاء أسودٍ لامع .. رُغم بَهتان القمر إِلَّا أن النجوم تراصت بهدوء غريب نثرت الكثير من لمعانها في سقف تلك الليلة لم ينتبه لها سواهما .. وكأنها تخصُّهما بجمالها .

دلف إيّاس وسط جموع الشباب الكثيفة -منهم من يتحدث ومنهم من يُراقِص خليله- متقدماً من طاولة المشروبات المخصّصة لأبناء أثرياء المدينة التي يجلس أمامها رفاقه .. جلس مبتسماً إبتسامةً أنيقة و ألقى تحيةً جذابة وهو يهتف لصديقه قائلاً :
-أين اللوحة التي أخبرتني بها ؟

هتف صديقه بذات النبرة العالية كي يسمعه إيّاس وسط الصخّب الذي يملأُ الحانة قائلاً :
-أشرب أولاً ودعنا نستمتع الآن .. واللوحة موجودة لن تهرب .. ثم أنظر حولك هناك الكثير من اللوّح الفاتِنة .

قهقهة الجميع عَ حديثه الذي لا يخلو من دعاباته .
فتقدم الساقي مبتسماً بلباقة سائلاً إيّاس ما نوع الشراب الذي يودُّه ليهتف صديقهم الأصهّب هازاً رأسه نافياً :
-لن يحتسي الكحول ناوله عصيرَ عُنبٍ فقط . . كالعادة.

أبتسم إيّاس للأصهّب ممتناً ثم حدق بصديقه الآخر راداً بلهجةٍ نرجسّية  :
-لستُ رجلاً تملكه جميع النِساء .. ولا تفتِنُني اللّوح المكشوفة .

ضحك أصدقائه وشاركهم هو بمرحٍ غضت عيناه ..  وتحدّثوا حول الكثير من الأمور المختلفة ثم حوّل إيّاس الجلسة لمناقشة كتاب الفقراء لديستويفسكي التي قرأها مؤخراً .. مع الأصهّب الذي أبدى رأيه مشاركاً صديقه حب القراءة ، كانوا أصدقاء إيّاس يعلمون جيداً طبيعته المختلفة عنهم .. رُغم أنه ثريٍّ مثلهم ولكنه لم يرث منهم أطباعهم ، حين نوقن جيداً بأن الناس وإن تشابهوا يظلّون مختلفين .. أفكاراً وأطباعاً ، ليست كل قاعدة نصّت على أن الأربعين يوماً كفيلة ليتطّبع الفرد من طبع المحيطين به ( صحيحة ) .. كما كان إيّاس مع رفاقه رُغم أوقاته التي يقضيها معهم وإختلاف عقولهم إِلَّا أن جلّ ما فعله هو توطيد صداقتهم .. كانوا مثالاً له لأصدقاء الحياة ولم يكن هو سوى الحياة لأحدهم .

~

في طرفٍ آخر تحت ذاتِ السماء ، يقع وحيداً على ضفافِ نهرٍ بعيد بيتاً صنع من الطوب المطلي بالأبيّض ببابٍ  قُرمزيٍ داكن جانبي ونافذة زجاجية واحدة تحتل الجزء العلوّي من الواجهة الأمامية كاملاً فيعكس في النهار زُرقة مياه النهر القريب في لوحةٍ بديعة .. أمتدت أمام قبضتي الباب الرفيعة الأشجار المتسلقة حتى حّفت الأرضية الخشبية العتيقة التي تسّور البيت وتحيطه من جميع جوانبه في شكلٍ بسيط ،

وكأنّ من صنعه أراد أن يُثبت بأن القيمة الجمالية تأتي في سقف البيت التي يحمّي أصحابها .. ليس بشكلها الخارجي فقط وإنما داخل جدرانها والحكايات التي حُكيت داخلها ، الجمال الذي لا ينبع إِلَّا من دواخلنا وليس مما حاول الإنسان أن يجتّرنا عليه ويشكلنا بمظاهرٍ فانية / بالية ، الجمال الذي يصنع من الحُّب يأتي دائِماً أنيقاً ولو بسط .

إمرأة من شمس ( عن الرّوح والكتب ).  Where stories live. Discover now