Part 2 / لحنٌ يبكِي

144 17 27
                                    


حشدٌ هائِل العدد يصطفون بفارِغ الصبر بالقُرب من تِلك المِنصة الضخمة بعض الشيء ، كان وقتُ الغرُوب والسماء تُظلِم ، والنجُوم تتألق واحدةً تِلو الأخرى بينما الشمسُ مازالت لم تُغادر تماماً ، مشهدٌ بديع ونادِر لم ينتبِه إليه سِوى القلائِل من الناس ، الجميع كانوا مشغُولون في إنتظار عرض هذا اليوم وهُم يُصغون بجمِيع حواسهِم الجسدية والروحية مُتخذين الصمتَ إستعداداً للإنتقال إلى عالمٍ آخر ، في إنتظار عازِف البيانو الإسطوري الغامِض .

هذِه المِنصة خاصة ، مُلكية شخصِية ، مُشيّدة بالقُرب من المكتبة الأكثر أهميةً و رُقياً في بارِيس ، لا يُشرّف حضور خشبة المِنصة سِوى ذلِك السيّد ، سيّد البيانو الغامِض ، جَمِيعُ هؤلاء المواطِنون يتشرّفون بتضييع دقائِق من حياتهِم والوقوف هنا بكامِل حواسّهم لسماع تلك السيمفونيات النادِرة ، نادِرة جداً ، لا يوجد لها قرين في تاريخ الموسيقى نفسِه .

ومن ذا الذي يطاوِعه قلبه على تفوِيت عزفِ سموّ السيّد كريس وو؟ إنهُ المثالُ الأعلى في الغموض ، رجل أعمالٍ ناجح وفاحِش الثراء لكنهُ صامِت لا يبدو عليه إمتلاك المشَاعِر إلا إنك سترى طبيعة روحه وعالمه من بعيد عند سماع موسيقاه ، ولكن بشكلٍ طفيف .... طفيفٍ جداً ، أعني ' لمحة ' فقط .. لا اكثر .

يسمعونها بقلوبهِم أكثر مما يسمعونها بآذانهِم ، ومجاناً بلا ثمَنٍ ولا قانُون ولا دِعاية تدعوهم للحضور ، إنها أخبارٌ هامّةٌ جداً تتداول بين العوائِل والطلاب والمُوظفين والعاطلِين والأطباء والسياح ونجُوم السِينما والأدبّاء وحتى المُشردِين ، يأتُون خصِيصاً لإطرابِ قلُوبهم قبلَ سمعهِم بتِلك السيمفونيّات الغامِضة على ذلك البيانو الغامِض الفرِيد ، فبِمُجرد إفتِتاح الستائِر أثناء الغروب كما هو الوقتُ المُعتاد والنادِر .. يتوافدُ الناس لحجزِ أماكنِهم وتبدأ الأخبار بالتناقُل بين الجميع ليسرعوا إلى هنا ولو كلفهُم ذلك الركض على الأقدام أو حتى إمتطاء خيلٍ مسرُوق إذا كانت السيارة غير متوفرة .

الجميعُ يجهلُون السبب حقاً في عدم إعلان صاحب الموسيقى عن عرضِه؟ البعض يخمنّون في ذلك إنهُ يعزِف لنفسِه وليس لأجلِ أن يشاهِده أحد ، وفي نفسِ الوقت كان ذلك إعتقاداً غير معقول بسبب كونِه يعزِف أمام الملأ ولا يُمانع حضور أحد ! ، والبعضُ الآخر يعتقِدون إنهُ يملُك غايةٌ مُبهمة لا أحد يستطيعُ إستبيانها أو الوصول إليها ، كما إنهُ ممنوعٌ نسخ معزوفاتِه أو إقتباسها ، أو حتى تسجيلها أو تصوِيرها في آلات التسجِيل السينمائية  ، ذلِك مُحير بحق ، ولكنهُم على إيمانٍ تامّ إن الأشياء العظيمة والعمِيقة ، والراقِية المغزى ، لا تحتاجُ هدفاً للشُهرة ولا تحتاجُ كذلكَ طريقاً للإشتهار والتعمِيم .

ومع إنسِحاب آخر خيطٍ لضوء الشمس صدح صدى أولى خطواتِ ذلك العازِف العجيب ، بسترتِه الكلاسيكية الرمادية وشعرِه الرماديّ المرفوع للأعلى وكأنه شخصية من شخصيات الأساطير التاريخية ، لتتراقَص القلوب ويزداد الظلام والهدوء ، فالعازِف هذا يعزفُ تحت ضوء القمر ويرفضُ أضواء الشمُوع أو المصابيح ، فيخضَع الجميعُ تحتَ طوعِ رغباتِه وطقوسِه في سبِيل التشبّع بتلِك الدقائِق القليلة من مُوسِيقاه الخيالِيّة .

الشَيـطَـآن النَبِـيـل Where stories live. Discover now