الفصل الرابع عشر

56.5K 2.2K 542
                                    


الفصل الرابع عشر

لا يعرف كم دخن من السجائر لينفث بها عن حنقه المكبوت والمشتعل في رأسه، ناهيك عن الأحاسيس الجديدة التي اُضطرمت بداخله وزادت من تأجج غضبه غير المفهوم، لم يكن السبب فقط موضوع السرقة الذي أُخفي عنه، بل إهانة تلك الفتاة الثائرة له. استثاره أنها لم تهابه، ولم ترتدع من سمعته التي ربما تجعل البعض يفكر مرتين قبل أن يقترب منه، كانت على النقيض من بني جنسها من النساء، أنثى قوية، شجاعة، لا تهتز بسهولة، وقادرة على الدفاع عن نفسها بشكلٍ يثير الإعجاب والفضول. أحس "تميم" بدبيب شيء ما يناوشه من بعيد، لكنه لم يفقه إليه بعد، ورغم ذلك ما زال حانقًا لعدم إفراغ غضبه .. كان وجهها المتشنج بنظراتها النارية لا يزال محتلاً لمخيلته، وكأنها طيف حي يزداد سطوعًا مع استمرار تفكيره فيها، قاوم تلك الأحاسيس الغامضة التي استحوذت عليه مستعيدًا موقفها الأخير بإلقاء الماء العكر في وجهه أمام الحاضرين، استغله ليقضي على تلك اللمحة المحيرة التي تشوش ذهنه وتجعله غير قادر على اتخاذ موقفًا صارمًا .. نفخ في غلٍ، ردد مع نفسه في استنكارٍ مستهجن وكأنه يُفكر بصوتٍ مسموع:

-مش أنا اللي يتعمل فيا كده، مين دي أصلاً؟!

قذف بقدمه حجرًا مهملاً كان موجودًا على مقربةٍ منه، ثم تقدم خطوة نحو السور المنخفض لسطح منزله، ورفع قدمه ليستند به عليه، تطلع بغير هدى في الفراغ المعتم أمامه بعينين تقدحان شررًا وقد أدرك أنه في حيرةٍ من أمره، فليس من شيمه أن يقتص لحقه من النساء، وإن كانت مذنبة، فهذا يناقض ما نشأ عليه، فلو كانت رجلاً لأبرحه ضربًا ولجعله عبرة لمن في المنطقة، لكنها امرأة! عاد ليفكر مليًا وبعمقٍ فيما فعلته مختلقًا لها الأعذار، ربما لم تكن كما اعتقد وأساء الظن بها، وما تطاولت به عليه كان دفاعًا مشروعًا عن حقها في الحصول على لقمة العيش، لكن ليس من المعتاد أن تمتهن النساء بتلك الأعمال المثيرة للريبة، خاصة وأنها تمتد لساعات متأخرة من الليل، كذلك هو رأى بعينه تجمعات مختلفة لمجموعات من الشباب الضاحك المحتشد بجوار عربتها، ناهيك عن وجود بدائل أخرى من الأعمال النسائية مما لا تثير الشبهات، عاد تفكيره ليدينها وقد ظن أن ذلك ربما يكون ستارًا خفيًا لاصطياد الرجال وارتكاب المحرمات تحت غطاء العوز والفقر، كور قبضة يده وضغط عليها بشدةٍ حتى ابيضت مفاصله، همس مع نفسه في ضيقٍ مزعجٍ:

-أنا كده متكتف، هاتصرف معاها إزاي؟

.............................................................

في تلك الأثناء، ضجرت "خلود" من انتظارها غير المجدي بمفردها في المنزل تضرب أخماسًا في أسادسٍ تترقب عودة زوجها إليها، أحست بضرورة وجودها إلى جواره حتى وإن كان معترضًا، ومع تغلغل تلك الرغبة فيها فقدت آخر ذرات صبرها، لذا قررت الذهاب إليه متحملة تبعات تلك الخطوة، ربما تنجح بدلالها وغنجها الأنثوي في امتصاص عصبيته وتثبيطها، ومن ثمَ استدراجه ليبوح لها بأسراره .. لفت الوشاح الصوفي حول كتفيها، وأحكمت ربط حجاب رأسها ثم سحبت مفتاح المنزل ودسته في حافظتها الجلدية الصغيرة، أغلقت الباب خلفها واتجهت للدرج، كانت تعدو صعودًا بأنفاس متهدجة، وقفت عند مدخل السطح تتطلع إليه بعينيها الساهمتين، خُيل إليها أنه هدأ قليلاً بعد مكوثه لساعات بالأعلى، لكنها سمعته يهمهم بكلماتٍ غير مفهومة، دنت منه بهدوءٍ تام عل أذناها تلتقط ما يقوله، باتت على بعد خطوتين منه، ولم تستمع إلا لأصوات أنفاسه الغاضبة وسبابٍ حانق يلعن به أحدهم، سألته بتلقائيةٍ:

الطاووس الأبيض ©️ (الجزء الأول) ✅ - كاملTempat cerita menjadi hidup. Temukan sekarang