الفصل التاسع والعشرون

46.8K 2.1K 554
                                    


الفصل التاسع والعشرون

فُرض عليها دون تكليف أن تكون الراعي -الذكوري- لأسرتها في غياب الأب المنوط بتلك المسئوليات الشاقة، تولت خلفًا للراحل هذا الثقل القاسم للأظهر دون شكوى أو كلل، كانت كدرع الحماية لأمها وتوأمتها، فكلتاهما تتشاركان في سمة ترفض أن تتصف هي بها؛ الخوف من المواجهة، تنفست "فيروزة" بعمقٍ وأعادت ترتيب أفكارها في رأسها لعشرات المرات حتى لا تنسى ما اتفقت عليه مع أختها قبل بضعة أيام، أرادت أن تكون الأمور واضحة منذ البداية حتى لا يُساء فهمها، أو يظن الطرف الآخر أنها تنازلت عن حقها وفرطت في كرامتها، جابت بنظراتٍ متفحصة الواقفين عند الدكان، لم تجد بينهم الحاج "بدير"، وقفت حائرة تفكر فيما ستفعله، رغبت في الحديث معه هو فقط أولاً ليكون شاهدًا على ما سيحدث لاحقًا، تشجعت وقررت السؤال عنه، وبخطى ثابتة تقدمت نحو مدخل الدكان متسائلة بصوتٍ تعمدت أن يكون قويًا:

-سلامو عليكم.

تصلب جسده، وإن كان لا ينظر نحوها، بمجرد أن رنت نبرتها المميزة في أذنيه، لا يعرف ما الذي ينتاب كيانه حين تطل عليه بغتةً، وكأن تيارًا كهربيًا قوي الشحنة يسري في أوصاله، تشبث "تميم" بكلتا يديه بالقفص الذي يحمله رافضًا الاستدارة ناحيتها، بينما دنت هي منه لتناديه:

-يا معلم.. "تميم" .. صح؟

لعبت على أعصابه بتلفظ اسمه لا إراديًا، شعر بتلك الرعشة تجتاحه، أليس من الغريب أن يكون لوقع صوتها فقط كل هذا التأثير المهلك عليه؟ وبمجهودٍ ذهنيٍ خــارق التفت برأسه نحوها مقاومًا رغبة عينيه في تأمل وجهها، بلع ريقه وتساءل بصوتٍ مال للخشونة:

-خير.. في حاجة؟

سألته بوجهٍ شبه عابس، ونظرات ضيقة:

-الحاج "بدير" فين؟

أجابها وهو ينظر في أي شيء إلا عينيها:

-في مشوار وجاي.

ضغطت على شفتيها وكأنها تبتسم بصعوبة لتضيف بعدها:

-طب أنا هستناه.

أحس بخفقة موترة تداعب قلبه وتغازل مشاعره غير المفهومة نحوها، حبس أنفاسه وقد خانته عيناه وتركزتا مع ملامحها الحادة، تنفس الصعداء حين استدارت وبحثت عن مقعد شاغر لتجلس عليه حتى لا ترى تلك الربكة الظاهرة على محياه، اتجه إلى الخلف وهو لا يزال حاملاً القفص بيديه، ثم نادى على أحد عماله ليأمره بصوت خفيض لكنه صارم:

-هات حاجة ساقعة للأبلة، دي مستنية الحاج "بدير"، وخليك قريب منها عشان لو عازت حاجة.

رد وهو يومئ برأسه:

-حاضر يا معلم.

نظرة أخيرة من الخلف ألقاها "تميم" عليها، عاد هاجسه المعاتب ليؤنب ضميره من جديد، كيف يولي الاهتمام لغير زوجته؟ لم يطقه مطلقًا، ولهذا ترك عمله هاربًا من الدكان حتى لا يظل محاصرًا في ذلك التخبط المُربك والذي على ما يبدو بات غير محتملٍ بالنسبة له.

الطاووس الأبيض ©️ (الجزء الأول) ✅ - كاملحيث تعيش القصص. اكتشف الآن