8 |تستمر الحكاية (5)|

2.1K 310 50
                                    

(5)

الثلاثاء 3/3/2020

لم يتوقف هاتفه عن الرنين في الصالة حتى أيقظه، فتح عينيه بنعاس وحاول النظر للساعة التي اعتاد عليها بجانب سريره، ولكنه فوجئ بأنه ليس في غرفته، نهض من مكانه وتعابير الوهن تغطي وجهه، أعاد وضع الصورة على الطاولة وخرج من الغرفة ليلتقط هاتفه الذي رماه بإهمال على الرخام الفاصل بين المطبخ والصالة من اليوم الفائت.

"أجل.. أنا مستيقظ!" أجاب بنعاس ليأتيه صوت والده من الطرف الآخر وهو يقول "في العادة ترد فوراً، هل تأخرتَ بالنوم البارحة؟"

"لا.. ولكن كان هاتفي بعيداً عني، ونسيتُ أن أضع منبهاً، أنا آسف!" أجابه وهو يجلس على الكرسي العالي ليقول والده بقلق "هل أنتَ بخير؟ تبدو متعب!"

"أنا بخير أبي، ولكني استيقظتُ للتو وحسب!"

رد متجاهلاً كل الأفكار السوداء التي كانت تعتمر برأسه في اليوم الفائت، كل ما كان يفكر به في الوقت الحالي ألا يقلق والده، يصلي الفجر، ويعود للنوم، تبادل بعض الأحاديث مع والده، أنهاها بقوله كم يحبه ليسمع دعاءً طويلاً من الطرف الآخر..

كان بالفعل يشعر بالتعب من الكوابيس التي داهمته الليلة الفائتة، أراد أن يصلي ويخلد للنوم مجدداً عسى أن يكون بلا كوابيس هذه المرة، ولكنه استرخى بجسده على المقعد وهو يسمع دعاء والده له، لم يقاطعه.. لم يخبره أنه متعب، لم يقل له أن يذهب ليصلي الآن، فقط شعر بأن هذا الدعاء يعيد الحياة بداخله شيئاً فشيئاً، ابتسامةٌ صغيرةٌ كانت على شفتيه ريثما يسمع كل كلمةٍ يقولها والده، ويردد خلفها "آمين." بحب وصدق!

هو مغتربٌ وبعيد، حياته بعد كل هذه السنوات منحصرةٌ هنا، حتى إن عودته لوطنه يعني أن يدفن نفسه هناك، لأنه لا يملك شيئاً ليعمله أو يؤسسه، ورغم ذلك مازال والداه يعيدان شعور الدفء بداخله، كل اتصال، كل كلمة، كل دعاء، يمنحانه الشعور نفسه، شعور الوطن، ودفء المنزل، ذهب لزيارة عائلته عدة مرات وكذلك اعتاد أن والديه يأتون إليه للزيارة بين فترةٍ وأخرى، وأحياناً لا يخبروه بقدومهم ليفاجأ بهم جالسان أما باب منزله يرحبون به، الحنان الذي يشعر به حين تحضنه أمه، والقوة التي تساوره حين يحادث والده، والسكينة التي تحتضنه حين يعانق شقيقه وشقيقته الأكبر سناً، كل ذلك مازال يشعره أنه بالوطن.

أغلق الهاتف بعدما ودع والده وبدوره نهض كي يتوضأ، وضع سجادة الصلاة بجانب النافذة الكبيرة التي تشرف على المدينة بأكملها، بعض أضواء المباني المتسربة من الخارج أتاحت له الرؤية بسهولة، صلى ركعتي سنة الفجر وصوت والدته وهو يكرر "لا تنسَ السنة، ركعتي سنة الفجر فهي خيرٌ من الدنيا وما فيها" ثم صلى الفرض، بسجوده الأخير فعل كما يفعل والده، وكما اعتاد أن يفعل هو أيضاً، دعا كثيراً.. دعا بكل ما لديه من شعور، دعا الله أن يجزيه أجر صبره بأن ينال ما صبر لأجله، أن تستيقظ حبيبته التي ينتظرها منذ فترةٍ طويلة، دعا الله أن ينتزع هذا الشعور المؤلم من صدره، دعا الله أن يجلب له الرزق لعله يرزقه بها من جديد..

Two stars in the galaxy | نجمتان في المجرةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن