20 |تستمر الحكاية (14)|

1.6K 259 8
                                    

(14)

الثلاثاء 3/4/2020

دخل إلى منزله وترك الباب مفتوحاً وهو يعلم أن لوسيان خلفه، شعر به في سيارته وشعر به حين دخل إلى البناء، سمع صوت إغلاق باب المنزل ليشير بيده إلى المطبخ وهو يقول "أحضر فنجاناً لنفسكَ إن أردتَ أن تشرب القهوة."

دون أن ينطق لوسيان بأي كلمة أخرج فنجاناً ووضعه أمام صديقه، انتظر كلاهما للحظات في صمت قبل أن يصدر الإبريق الكهربائي صوتاً معلناً عن انتهاء القهوة، سكب فنجانين كبيرين له ولصديقه ثم مشى ناحية النافذة ليقف بجانبها وهو يقول "كان ذلك هو الشيء الذي أبقيتُه مخفياً عنكَ وعن الجميع لفترةٍ طويلةٍ من الزمن، حتى والداي لم يعرفا أنها على قيد الحياة!"

"كان يجب أن تخبرهما." لوسيان تحدث وهو يجلس على الأريكة رمادية اللون ليضحك بسخرية ويجيب "لماذا؟ هل عليهما أن يتحملا كل هذا الألم معي؟ كل ذلك التأمل نحو اللانهاية؟ هما كبيران في العمر وقد فجعا أولاً بخبر الحادث، كنتُ قد وضعتُ بعين الاعتبار أني لا أريد أن أؤذيهما أيضاً بخبر موتها وأسبب لهم حزناً جديداً بعد مرور فترةٍ من الوقت."

"لهذا لم تعد إلى وطنكَ بعد الحادثة؟" سأله ليومئ وهو يرتشف من فنجان القهوة بيده ثم نظر له وأجاب "لم أستطع أن أخبر عائلتي، ولم أستطع أن أعود، فكرتُ أنني لو درست الطب فهذا سيجعلني أتعرف على شتى أنواع الأمراض، وأقابل كل أنواع المرضى، ولكن سأكون عاجزاً أمام مساعدتها على الاستيقاظ، كنتُ سأغرق في الشفقة على نفسي للأبد!"

"لهذا أنتَ أصبحتَ طيَّاراً؟ تريد أن تذكر نفسكَ بهذا الحادث حتى في وقت عملك؟!"

رسم على شفتيه ابتسامةً صغيرة قبل أن يجر جسده بوهن ليجلس على الأريكة المقابلة للوسيان، لا يمكنه أن يصدق أنه يتحدث حول هذا الأمر لأول مرة بعد مرور كل هذه السنوات، الأشياء التي كان يخفيها باتت مكشوفةً وواضحة بكل سهولة لصديقه الشاب، وضع فنجان القهوة على الطاولة وعقد يديه أمامه وهو يجيب "في الحقيقة.. نعم، لم أكن أريد أن أكمل في دراسة الطب، وبالطبع كنتُ أريد أن أعمل بشيءٍ يدر عليَّ الأموال حتى يكون بوسعي تحمل نفقات المستشفى، وفجأة لمعت بذهني الفكرة، العمل ككابتن سيتيح لي دخلاً مادياً جيدة، في فترة الدراسة لم نكن ملزمين على البقاء في الجامعة لفتراتٍ طويلة لذا كان بوسعي أن أعمل في أعمالٍ عدة بدوامٍ جزئية، كانت أياماً صعبةً في البداية، ولكنها انقضت ما إن تخرجت وتم الاعتراف بي رسمياً."

أنهى كلامه ثم مرر يده في شعره ورفع رأسه محدقاً بالسقف وهو يتابع "كان قراري هذا أصعب شيءٍ أتخذه في حياتي، عارضه والداي لأنها مهنةٌ صعبة وفيها خطرٌ كبير وغير مناسبةٍ لي، أو على الأقل هذا ما رأوه من حادثة تحطم الطائرة، وأنا أيضاً لم أظن أنني سأكون قادراً على ركوب طائرة دون أن أتخيل باستمرار لحظة تحطمها، ولكن لاحقاً شعرتُ أن هذا العمل مناسبٌ لي أكثر من أي شيء آخر، ربما لأنني أحد الناجين من حادثة السقوط الأخيرة فأنا أدرك أشد الإدراك أن الحذر هو أهم شيء، وأن الصراع مع التقلبات الجوية يشبه محاربة الطبيعة، ولكن أنا أعترف في داخلي أيضاً أنني أملك قلباً شجاعاً أكثر من أي شيءٍ آخر، هكذا أردتُ أن أواجه المصيبة التي واجهني بها العالم."

لم يكد ينطق الكلمة الأخيرة حتى شعر بثقلٍ عارم يزاح من على صدره، كل تلك الأشياء كانت تشكل ضغطاً هائلاً، ولسببٍ ما هو لم يكن يشعر به أبداً، ربما لأنه اعتاد عليه، اعتاد أنه يحمله وحده، أو يجب أن يحمله وحده، لم يكن يشعر أنه بالفعل كان يتحمل الكثير حتى تحدث، لذلك أراد أن ينطق بالمزيد بلا توقف لعل المزيد من الراحة تتسلل لقلبه، لعل هناك أثقالاً كثيرة لم يكن يشعر بوجودها!!

"لقد كانت كل شيءٍ في حياتي، كنتُ صبياً أحمقاً وصغيراً كثير الشجار مع والديه وغير منسجمٍ بشكلٍ عام مع إخوته، حين رأيتُها كل شيء تغير، شعرتُ أن لحياتي معنىً أخيراً، كل الأمور الدافئة بدأت تتسلل إلى قلبي وتمنحني السكينة ربما للأبد، فقط لأنها كانت معي، كان هناك ألوانٌ في الحياة لم أدرك أنها موجودة حتى ساعدتني على رؤيتها، حين تزوجنا وأتينا إلى هنا بهدف أن ندرس معاً تعاهدنا أنه مهما رأينا من أشخاص وأمور جديدة وإغراءات قوية، فنحن سنبقى دوماً معاً، سنحب بعضنا بلا توقف!!"

"لا بد أنها كانت امرأةً استثنائية.." قالها صديقه وشعر به يواسيه، أومأ بضحكةٍ صغيرة متجاهلاً فنجان قهوته الذي قد برد ورد بصوتٍ حالم بداخله الكثير من اليأس "كانت كالشمس، وأنا كنتُ ليلاً، هكذا فقط كان وجودها قادرٌ على تغيير حياتي بشكلٍ جذري!"

"أنا آسفٌ لأني لم أكن أعلم، ولأنكَ كنتَ تواجه كل هذا وحده."

نظر له وهز رأسه نفياً وهو يجيب "بل أنا من عليَّ من أعتذر لأنني كنتُ أخفي كل هذه الأشياء عنك، وبالمناسبة فإن زوجتكَ أنيكا تعرف، في تلك المرة حين اتصل بي المستشفى، كان أول تطور في حالتها منذ سنوات.."

"هل أبدت استجابةً للعلاج؟" حرك رأسه نفياً مجدداً وازدادت نظرة البؤس ازدادت على وجهه وقال "توقف قلبها لثلاث دقائق."

"رباه!!" كان هذا التعليق الوحيد الذي قاله لوسيان، ولم يجد المزيد ليواسي به صديقه بعد قوله هذا، ساد الصمت بينهما مجدداً لدقائق كانت تبدو لساعاتٍ لكل واحدٍ منهما، كل شابٍ قد غرق بأفكارٍ كثيرة وبعيدة، قطع الصمت نهوض ملهم من مكانه وتوجهه للمطبخ لينظف فناجين القهوة الفارغة، أو على الأقل فنجان لوسيان الفارغ وفنجانه الذي برد ولم يعد صالحاً للشرب!

"عليكَ أن تغادر، أنيكا تنتظرك!"

"أنا حقاً لا أريد أن أترككَ لوحدكَ في هذا اليوم المريع." قالها وهو يحك رأسه بتوتر ليبتسم ملهم ويرد "اذهب إلى زوجتكَ فلا بد أنها قد عادت من العمل وتنتظرك، لا تجعلها تقلق أكثر من هذا، سأكون بخير فقد اعتدتُ قضاء الوقت لوحدي في المنزل."

"هل أنتَ متأكد؟"

"أجل لوسيان، أنا متعب ولدي يومٌ طويلٌ غداً مع اللجنة التأديبية، لذا غادر من فضلك."

أومأ له لوسيان واقترب منه بينما أغلق ملهم صنبور المياه، التفت إليه وتبادلا نظرةً طويلةً ذات معنى قبل أن يقترب منه ويعانقه بخفة وهو يقول "أنا حقاً آسف، اعتني بنفسك."

"احظَ بنومٍ جيد." أجابه وهو يبادله ذلك العناق للحظات ثم أبعده عنه وابتسم مطمئناً، غادر لوسيان ومازال بعض التردد على وجهه في حين توجه ملهم لغرفته ليبدل ملابسه ويرمي بجسده على سريره، والأفكار تطرق في كل زاويةٍ من جمجمته!!

"من حق هذا الوقت ألا ينقضي إلا وسود حظوظنا بيضاء."
"حذيفة العرجي"

To be continued

R.M

Two stars in the galaxy | نجمتان في المجرةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن