الفصل الخامس

7.7K 169 3
                                    

بقايا امراة وقفت تحدق في الطريق..

وخلف عينيها جراح اليأس..
تعصف بالبريق..........
وعبيرها يتوسد النسمات..
محمولاً كأشلاء الغريق..
والشمس تترك للضياع ثيابها..
ويغوص منها السحر في بحرٍ سحيق..
وعلى جدائل شعرها
جلس العذاب وراح في نوم عميق..
ماتت على فمها ابتسامة عاشق..
فغدت بقايا من رحيق..
فاروق جويدة
ايه يا ست البنات.. حد قالك علينا ما نفهمش في الأصول!!.. ولا باين إنك
ما تعرفيش غلاوة الريس منصور عندينا!..
كانت ليلى تجلس في ركن بالقارب بعد أن هدأت أنفاسها قليلاً..
ترمق بغضب هذا الغريب الذي قيدها, وأفزعها, واستجوبها, وفي النهاية تركها
ليقوم بمكالمة تليفونية طالباً منها الإنتظار!..

ودَّت بلحظتها أن تطرده وتهنأ ببضع ساعات من النوم إن استطاعت, ولكن
بما أن النوم اختفى ولن يعود فالأحرى بها أن تواكب ما يحدث.. على الرغم من
غضبها من حمزه إلا أنها كانت تستمع لأمين بملامح هادئة..
سمرته وكدرذاعيه يذكرانها بأبيها, طيبة بملامح اش أ ربت بشقا الدنيا قبل
هناءها, وبصر لم يرتفع نحوها ولو للحظة في تقدير قرويراقٍ..
معلش يا ريس أمين.. السفر كان مُتعب وكمان الأتوبيس اتعطل وأخرني فما
حبتش أزعج حد.
صوتها رقيق للغاية.. رفيع, تتحدث بنبرة موزونة ويبدو أنها تفكر في كلماتها
جيداً قبل أن تنطقها..
ولكن ملامحها تبدو مختلفة..
لها نظرة قاسية..
لا يعلم هل ولدت بها أم هي اختبار قسوة فراق أبيها؟..
في الدقائق التي فصلت بين مقابلتهما العاصفة وحضور أمين تركته لتجلس
منزوية في زواية القارب تراقب الطريق..
كانت إشارة واضحة أنها لا تريد التحدث معه..
وهو..
هو كان غاضباً بما فيه الكفاية ليبدأ أي حوار..

فتلك الفتاة صغيرة الحجم التي تبدو من بعيد كصبي رقيق أفسدت سهرته
المنتظرة..
والآن يبدو أنها هي من تلومه!!
ولكن هذا لم يمنعه من تأمل ملامحها..
لم تكن تشبه أبيها في شيء..
ربما هي ورثت ملامح أمها ورغم شحوبها البادي وعياء السفر تحت عينيها,
كانت تحمل جمالاً مختلفاً.
جملتها الثانية لم تخرجه فقط من أفكاره بل حالة التحديق نحوها التي بدت
غريبة فأربكتها وأغضبتها من جديد لتخرج نبرتها أكثر اضط ا رباً وهجوماً:
وبعدين أنا لازم أتعود أعتمد على نفسي مادام نويت أنزل الشغل.
بدا أمين محتا رًا فتلجلج للحظة قبل أن يستفسر بأدب:
معلش.. شغل إيه يا ست البنات؟
استقامت ليلى لتنظر نحوهما بشموخ وبقرارها الذي لا يحمل بادرة مجادلة:
أنا نويت أشغل المركب بدل بابا.. ببساطة اعتبروا إن الريس منصور ما
ماتش!.
*************************

اعتبروا إن الريس منصور ما ماتش!!
جملة تختزل الكثير وتقفز ا رفضة أي نقاش..
نقاش كان يجب أن تبدأه مع صفعة باب من شخص اسمه وجدي كان من قبل
سيكون الأقرب والآن هو بعيد..
للغاية بعيد.
كان أحد التوأمين قد رسم صورة..
رجل براس كبير يحمل فوقها قارب وابتسامته واسعة بل تكاد تقفز من وجهه..
اختزل الصغير أباه بنقش فوق ورق وأصبح يحادثه صباحاً ومساءً, بل أيضاً
يشكي أخاه الآخر..
حل سحري لفراق منصور!
ولكن بالنسبة لها الموت أكثر من مجرد ف ا رق, هو قفزة قاسية أجبرها عليها
الزمن وبعدها يتبدل كل شيء..
أمها منذ سمعت خبر وجدي واجمة..
أفرغت القليل من المصاغ وتُفكر في إكمال الزيجة بثمن بيع القارب وربما
تشتري ماكينة خياطة أو تنشأ مشروع ما يدر دخلاً مضموناً..
هناك بنود لم تكن تعلم أن لها بالحياة وجود..

مصاريف مدرسية.. صحية.. إيجار منزل سيزيد مرة أخرى في الشهور القادمة
بل هناك دين بنكي يتم تسديده على أقساط.
كما اتخذت ق ا رر وجدي اتخذت ق ا رر آخر أجزمت ألا تقبل به نقاش..
سيظل ف ا رق منصور لولديه مجرد ألم نتغلب عليه بصورة..
أما الباقي فمنصور لم يمت..
كانت جملة توازي ق ا ررها العنتري بالرحيل لتحل مكان أبيها..
بُهتت أمها قبل أن ترفض باستماتة, ولكن هل هناك جدال مع ابنة منصور!!..
في الصباح كانت هي وحقيبتها والتوأمين ووداع..
قبلة على هذا الخد وعناق الأقوياء..
وابتسامة مكتومة وأمل في غد أفضل حتى إن لم يكن لها.
رحلت صاحبة ال أ رس الحجري غير مبالية بشيء سوى راحة أخويها..
***********************
علمتها رقية تعويذة سحرية..
رائحة الروزماري وأو ا رق الريحان فوق نافذة مطبخها هي استنشاق من عبير
الجنة كل صباح..
كانت تشرب قهوتها أمام النافذة مغمضة العينين تتذكر رجلاً..

أرادها فجذبها بقبلة غير مبالٍ..
أوقف حافلة من أجل أن يخطفها من عليها شاءت أم أبت...
وأهداها ليلة زفاف فوق ظهر حصان.
رعد..
اختلف الأمر بعد رحيل رعد..
أهذا هو الموت؟..
أعمق من مجرد ف ا رق..
حاجيبها انقبضا وهي تتذكر ص ا رخه..
فلتفعل المعج ا زت أو على الأقل تحاول!
والآن ماذا تفعل هل تمسك بأحد ذ ا رعيه؟..
تملس فوق أ رسه؟..
أم تبحث عن ضمادة سحرية للجرح بداخله؟.
فخالد يبكي..
تلك هي المرة الأولى التي تلمحه يبكي..
وكان يكفيه فقط إصبعها النحيل فوق راسه لينفجر..
ولم تكن هي نداً لهذا الإنفجار..

بل هو انهيار فوق حصون المرا ة الوحيدة المباح لها باختبار ضعفه ولكن..
ضعف القوي, ثورة.. جنون..
غضب أعمي ظنت أنها اختبرته لتكتشف أنها لم ترَ سوى الفتات..
ولملمة الفتات هينة ولكن ماذا عن الأنقاض!.
صرير باب جعلها ترتد بسرعة..
تمسح عبرة وتجذب فنجانها هروباً من النافذة..
وهو..
لا يشتم عبق بندق..
ولا يجد نفسه في شرودها هاك..
الشرود أصبح قاسٍ كسكين حاد يصر على تمزيق الحقيقة الوحيدة بعالمه وهي
حبها..
ولكن هناك كلمة..
صرخة ترن في أذنيه كلما انفرد بنفسه..
جرحها الذي لم تشفه السنون فقذفته بوجهه في أقصى لحظاته ظلمة
جملة واحدة بدلت كل شيء..
هناك..

بغرفة فرس رحل ولم يحل فيها آخر مكانه..
بذكرى هذا الأدهم الغاضب الذي فوق صهوته تصغر الحياة وتطغى النسمات
على البصر حيث لا مكان سوى لنسيم الحرية حتى ولو من أجل الغضب.
هناك قررت أن تواسيه..
وهناك قرر أن يغضب ويصرخ وينفجر في الوحيدة التي قدرها أن تتحمله..
وهناك قالتها ولا يستطيع حتى الآن أن ينساها..
"لازم تكون أقوى وتتعود.. لازم تنسى جنونك برعد زي ما أنا نسيت شريف!!"
صمت..
صمت خيم عليها وعليه..
لم تزد ولم يعقب..
كان صمت بدآه في غرفة شهدت على همس جواد..
وبمطبخها مع رائحة الروزماري وعبق الذكريات كان صرير المياه هو البطل..
خالد يسكب قهوة وهي تجلي بعض الصحون القليلة قتلاً للوقت.
أنا خلصت.
صوت صغير هو صاحب البهجة في البيت..
كانت تميمة قد استعدت مبكرًا لكي ترافق أبيها لركوب الخيل..

ساعة يكون قلب إيناس فيها وجلاً خوفاً من جراة تميمة وخالد سوياً..
طالما طلب منها أن ت ا رفقهما ولكنها كانت ترفض, فهي لا تحتمل رؤية الصغيرة
فوق صهوة هذا الجواد العالي والصورة القادمة هي عدوها مغمضة العينين
كالمجنون أبيها..
وكأنها لم تذب عشقاً بهذا الجنون..
استدارت لتجد خالد قد أنهى قهوته مع بضعة مقرمشات مالحة..
كانت قد أعدت بعض الفطائر فناولت تميمة البعض ووضعت في صحنه أيضاً
وهي تقول:
صباح الخير..
قال بجفاء:
ايه ده؟
دي فطاير خبزتها لكم للفطار.
كان ردها جافاً أيضاً..
ولما لا؟!..
فهي منذ الخامسة صباحاً مستيقظة لتعد لهم هذا الفطور الشهي وهو حتى لا
يكلف حاله ليتذوق..

بل هو يستعد للخروج لصباح آخر بيوم العطلة دونها.
حمل تميمة ليخرج وهو يجزم أنها لم ولن تفكر أن ترافقهما ولو لمرة واحدة..
تتغلب على رفضها وخوفها ولو من أجله..
تشاهد تميمة فوق صهوة تلك المهرة التي أصبحت فرسة جامحة ممنوعة على
الجميع سوى ابنته..
إيناس التي ازدادت جمالاً وأصبحت أفضل فرس بمزرعته وحتماً الأقرب له..
ولكن إيناس الأخرى تأبى التنازل متخفية خلف حائط الكبرياء.
*********************
صباح آخر وصراخ آخر يتكرر بين رقية وحسن وبسببه..
وكأن أبيه يهتم حقاً!
تسلل للمطبخ ليبتلع إفطارًا سريعاً قبل أن تعرض عليه رقية الطعام ويرفض..
تود أن تصطنع دور أم حانية فوق بقاياه..
الأخرى صاحبة الخصلات الفاتحة أتت مبكرًا يبدو أنها باكية مثل رقية.. ولكن
تلك تحمل ملامح أجمل, الصغيرة تميمة تشبهها ولكنها شريرة ماكرة تكرهه كما
يكرهه خالد.
صباح الخير يا إيناس.

كان صوت رقية متحشرجاً ربما من صريخ أو بكاء ولكن إيناس لم يكن لها
طاقة حقاً في أن تستمع بل كانت تموت شوقاً لتجد من يستمع إليها.. والنهاية
لم يتحدث أحد.
رقية صامتة تعد إفطارًا..
حسن رحل..
خالد يصطنع النوم..
ومحمود يجلس أمام كوب حليب دون أن يمسه..
بدأت تشعر أن هذا الطفل يمتنع عن الطعام من أجل أن يفتعل المشاكل لها
أكثر..
زفرت دون صبر قبل أن تحادثة بلهجة صلدة غريبة عليها:
محمود.. اشرب اللبن وكمل فطارك.
أنا مش جعان.
كانت نبرته صارمة توازي قسوتها الحديثة أم ربما أكثر, وتبعتها رقية بتهديد لم
يكن بغرض الأمومة:
لو ما شربتش اللبن هتتحبس في أوضتك طول اليوم.
لم يعلق الفتى فقط استقام ونظر نحوها بتحدي, ف ا زد غضب رقية لتصرخ تلك
المرة:

قولتلك اشرب اللبن..
وأنا قلتلك لأ.
صراخ الطفل موازي ولو بعد عام لن يستمع لها..
جذبت إيناس رقية ورمقتها بنظرة حتى تهدأ قليلاً..
تلك هي المرة الأولى التي ترى فيها رقية بهذا الإغتياظ..
هل تكره رقية محمود حقاً؟!
أم هو حسن الذي قرر أن يضغط عليها كالعادة؟..
أم أنها لا تملك حق الإنفجار؟!
فلتغضب رقية.. وليرفض حسن.. ولينزوي محمود بالغرفة منفذاً عقابه بتلذذ..
******************
صغيرة بخصلات أصبغتها الشمس ذهبية, كلما صهل الحصان تضحك خاصة
أن العدو ظاكثر متعة عندما يكون بين ذراعي أبيها..
كان خالد يمتطي فرسه وتذكره خصلات الصغيرة بتلك الهادئة التي تمردت بين
ذ ا رعيه ولكنه كان تمرداً محبوباً رقيقاً جداً فوق قلبه.
الوقت لم يتخطَ العاشرة صباحاً ومن فوق صهوة الجواد لمح صبغة قرمزية لا
تليق بالصباح وتنورة قصيرة واسعة لا تليق حتماً بالمكان.

شيرين..
رغم أنها تقف بعيدة عن المضمار إلا أن ملامحها ظاهرة بوضوح..
تشبه نجمات المسرح اللاتي يثقلن في التبرج بغية أن يلتهم الجمهور
ملامحهن دون جهد..
وهو الآن جمهورها المنشود.
اقتربت بخطوات محسوبة أجبرتها عليها الرمال حول المضمار خاصة مع
حذاءها الشاهق المرهق حتماً لقدميها وأعين الرجال..
عدة عمال تعلقوا بساقيها وهي تقترب في غنج مبتسمة لتميمة وله..
والتحية له..
والتنهيدة دون مبرر له..
والعرق المتصبب فوق قميصها الحريري بفتحة زر تنفرج من الحرارة له!
تميمة شاطرة قوي.. واضح إنها طالعة لباباها.
كانت قد جاورته بعد أن نزل من فوق صهوة جواده ليتابع تدريب تميمة وحدها
مع أحد العمال..
اسندت ظهرها فوق السياج الخشبي وارتكزت بقبضتها على أحد دواعمه
فخدشت يدها عن قصد ماكر..

صرخة رقيقة أطلقتها لينتبه أن أحد الأخشاب الرفيعة قد جرحتها واستقرت
تحت باطن كفها..
تألمت بتأثر:
بتوجع جداً.
نظر لكفها ثم أمسك به ليضغط على أحد جانبيه بقسوة وهو يردد:
ما تخافيش.
كان الألم خفيفاً فهو لا يوازي بهجة يديها بين تملك قبضته.. هذا القرب الشديد
منه الذي ربما يدركه هو ويتغاضى بنظره المدقق نحو كفها وما به من جرح
طفيف..
ولكن سريعاً وبحرفية أخرج ما يؤلمها لتنتهي اللحظة..
ابتسمت شاكرة وفي حركة غريبة قبلت جرحها!
نظر نحوها يخفي صدمته من منحنى ج أ رتها المنفجر ويدس مكره بسؤال
فأجابته:
مامتي كانت بتعمل كده.
كانت كاذبة وكان يعلم ولكن..
هناك.. بعيد..

كانت تقف امراة هي أقصى ما تمنى..
لا تضع تبرجاً صارخ ولا تنوي إبهار جمهور..
ولا ي ا رها الجمهور..
هي فقط هناك قررت أن تتخذ خطوة..
أن تأخذ فطوره وتقضي الصباح معه.. أن تتواجد من أجله..
ولكنه لم يكن ينتظر..
كان يقف برفقة امراة ما..
يمسك بأناملها وتقبل لمسة يديه فوق كفيها في حميمية لم يحاول حتى
إخفاءها عن ابنته..
******************
كان محمود قد قضى الوقت في التظاهر بالنوم.. كالعادة خالد تناول فط وره
واختار لعبة ما.. ورقية تشغل حالها بحديقتها.. أما الأخرى صديقتها فرحلت بعد
المشاحنة وبدت مسرعة.
ولكنها عادت..
كانت تحمل لفافة ورقية وتقف شاردة أمام الباب وكأنها لا تود طرقه ولا تنوي
الرحيل..

انتبهت فقط عندما لمحت هذا الطفل يطيل النظر نحوها من النافذة..
وحيداً.. غاضباً.. دون إفطار.. ودون أن يهتم أحد.
اقتربت منه ثم ناولته اللفافة الساخنة لينظر نحوها بتعجب فتجيب:
أنا عملتلك دي..
ظل ينظر نحوها بتوجس فتابعت بابتسامة:
يلا قبل ما تبرد.
سحب منها محمود اللفافة ليقول بصوت هادئ:
شكرًا
ابتسمت مرة أخرى بحنو قبل أن تحييه بإشارة يدها وترحل..
وشعرت حينها ب ا رحة ربما أكثر من الص ا رخ الذي كانت تنتويه على صدر
رقية..
عاد خالد
عاد بعد أن أهلك تميمته هذا الصباح..
الفتاة حقاً متعرقة وتود النوم بشدة..
حملها برقة ليتركها مع وجبة ممتعة أمام برنامجها الكرتوني المفضل.. ورحل
قبل أن تشعر إيناس بوجوده..

أو ربما شعرت فلن يكون هناك فرق!!
كان محمود يجلس وحيداً تحت ظل شجرة بعد المنزل بأمتار قليلة.. يلاحظه
خالد بين كل حين وآخر وخاصة في تلك الأيام التي يدرب بها تميمة..
دائماً يلمحه يقف من بعيد ي ا رقب الخيل ودروس الفروسية خاصتها في شغف..
يشكو حسن أن الفتى قليل الكلام..
ولكنها ميزة..
فماذا يود حسن من طفل ثرثار دون داعي؟!
لفت نظره تلك المرة ما هو أكثر من هدوء محمود وم ا رقبته..
سلة صغيرة من مطبخ زوجته, وباقت ا رب طفيف أيقن أنها فطائر الصباح. شعر
محمود باقتراب خالد فانكمش بتحفظ..
فصديق والده هذا قليل الابتسام وربما الحضور..
ناد ا رً ما يتحدث لطفل سوى ابنته وص ا رخه على مخدوميه هو الأقرب دائماً..
جلس خالد مجاورًا له ليستند على جذع الشجرة بدوره ثم قال بصوت هادئ:
مش بتاكل ليه؟
قرب محمود الطعام من خالد في تردد قبل أن يتابع:
اتفضل.. دي فطائر زوجتك اديتهالي!.

رمقه خالد بتعجب مكررًا كلمته:
زوجتك!!.. اسمها طنط إيناس.
لوى محمود شفتيه بتمرد ولكنه كرر الكلام بأدب:
طنط إيناس..
أخذ خالد فطيرة ليقضمها ثم أكمل:
مش بتاكل ليه.
أنا مش بحب الفطاير!
كانت إجابته سريعة وبديهية للغاية..
ضحك خالد ليسأله:
طيب ليه أخدتها؟
رغم بساطة السؤال شرد الطفل..
صمت طويلاً مفكرًا بحزن..
حزن ذكَّره بطفل آخر مر عليه العمر..
طفل لم يكن يطالب بأكثر من اهتمام حقيقي من أُم هي من امتلك من الحياة.
ودّ خالد أن يضيف شيئاً آخر ولكن محمود جاوبه بنبرة غليظة تحمل احتياج
يرفض الإفصاح عنه.

لأنها عملتها علشاني.
كانت إيناس كاذبة وربما لن يسامحها خالد في خديعتها للطفل لتعطه فطائر
رفضها هو من قبل ولكن..
ربما بعض الكذب قد يكون أرقى ما نقدم أحياناً..
******************
إذا كانت تلك هي زيراتك الأولى لمتحف اللوفر فتصور نفسك أسفل قاعدة هرم
زجاجي محاصر بالباحة الداخلية لقصر قطنه ملوك توجوا على عرش با ريس..
سولي, وريشيلو, ودينون..
ثلاث أجنحة ستلمح أولهم في الجهة الشمالية.. أما الثاني ففي الجهة
الشرقية.. والأخير والأكثر شهرة يقبع في الجهة الجنوبية للهرم..
عادة ما سيكون دينون هو وجهتك الأولى كهاوٍ, حيث ستتبع الأسهم بحثاً عن
الجوكوندا أو "الموناليزا"..
قبل أن تصل إليها ستمر ب "غاليري أبولون" حيث ستخطو داخل نفق سحري
محاطٍ بنقوش ثمينة تمتد حتى السقف المزين بلوحات مبهرة.. وبعدها ستتخذ
ممر اللوحات الفرنسية في القرنين الثالث عشر والخامس عشر حتى تصل نحو
الوجهة الأكثر شهرة وهي لوحة الموناليزا.

خلف واجهة زجاجية تقف وحيدة, الزوار يمرون سريعاً أمام كل نقش وأمامها
حتى إن رادوا الرحيل يجبرهم الزحام على المكوث..
ابتسمت بسخرية عندما لمحت سائحة تصر على أن تتخذ وضع ال "سيلفي"
مع غالية دافنشي وبالطبع بفم ممتد بشكل غريب بُغية تصغيره!
تخطت الجمع لتتجه غرباً نحو قاعة اللوحات الكبيرة حيث تبحث عن النقش
الأكثر أهمية بالنسبة لها تلك المرة.
"موت سردنبال"
موضوعاً سردياً اتخذه أوجين دولاكروا لينقش تلك الحالة المتوهجة من
المنتصف بأطراف معتمة وكأنها زحف الموت..
اللوحة تحوي ملكاً على ف ا رش الرحيل محاطاً بأجساد عبيده وجواري عا ريات في
حالة تبدو كوداع متعة..
فالملك أمر عبيده بذبح الخيول والنساء وحرق مملكته ليموت بجانب ثرواته
كي لا يذق مرارة الأسر والهزيمة.
بتدقيق النظر في التفاصيل ستلمح ملامح من انتصار على وجه سردنبال وهو
ي ا رقب هلاك ثراوته بيده قبل أن ينالها العدو..
أما النساء فصورهن دولاكروا بعري يوازي نظرة المتعة للجواري بهذا العصر..

أما العبيد فلن تجد في ملامحهم سوى الإص ا رر على تنفيذ أمر ملكهم ولو كان
الموت!..
بين شرودها في حُمرة اللوحة الساطعة مع تدرج الني ا رن القاتم خرج صوتاً هادئاً
بثبات لا تنساه يقتحم أحد أذنيها باقت ا رب لا يبالي:
كنت عارف إنك حتكوني هنا!
استدارت كارمن نحوه لتلمح بريق مثير بعينيه..
حدقة زيتونية تشع بغموض ترهبه ولا تعلم لما؟..
عادت خطوتين للوراء لتجلس على أحد المقاعد المقابلة للوحة وعندما جاورها
سألته وعينيها ما ا زلت معلقة بالملك وجواريه:
أنت بقى شايف شهر ا زد متعة رخيصة.. تموت وتعيش بأمر الملك.
مش أنا.. إنتِ!
كانت عبارته مقتضبة وكأنه يخبرها بدواخلها دون جهد..
بنبرة أكثر غضباً نظرت نحوه مردفة:
أنا مش شايفة شهرزاد مومس.
بس أنتِ بتقتليها كل يوم علشان هي مجرد متعة!
أنا بقتلها علشان..

توقفت..
نظر نحوها بملامح بدت قاتمة..
داخله شهريار آخر كل رجل به شهريار محبوس يود استدعاء مسرور كلما
ملّ.
كارمن تقتل شهرزاد أم تقتل متعة شهريار بها كل ليلة..
شهريار الذي لم يكن مهتم يوماً بالحكايا, سيجبرها على الف ا رق عندما يريد
ولهذا فلترحل هي برغبتها حتى وان رحلت خاسرة..
تركها ليترجل نحو اللوحة مرة آخرى, أشار بيديه فوق ملامح إحدى الج واري
ليتحدث ببحة تحمل تأث ا رً غامض:
شايفة.. الخوف واضح في ملامحها إ ا زي, الرومانتيكية في الفن مش إنك
ترسمي تفاصيل جسد أو حتى تسردي تاريخ لوحة.. الأهم المشاعر.. وعارفة
إيه أجمل مشاعر يا كارمن؟
استقامت لتجاوره ولكن لم تتحدث ربما الإجابة البديهية..
الحب ولكن كيف؟!
هي نفسها لم تعد تؤمن بذلك..
تابع وقد وضع أحد ذراعيه فوق أحد كتفيها ليكمل بضمة قاسية انعكست على
نبرته فبدت أكثر توحشاً:

الخوف.. الألم.. هي دي الحاجة الوحيدة اللي مستحيل ينجح فيها الكدب.
تركها ومشى عدة خطوات قبل أم يستدير بحدة وبنبرة عالية بعض الشيء:
شهرزداك فاشلة يا كارمن.. عارفة ليه؟.. مش علشان شهريار انتصر.. لأ.
صمت وكأنه ينتظر منها إجابة, وربما هي تحمل جواب ورد ودفاع ومعاندة
ولكنها كانت تود أن تستمع إليه..
فشهريار أمامها يملك هو مفتاح الحكايا تلك المرة.
ابتسم بمكر واثق قبل أن يمد يديه نحوها وهو يردد:
تعالي معايا.. هتشوفي بعينك وهتفهمي إنك بتضيعي وقتك وقدامك كنز يليق
بفنانة مش مومس!.
ابتلعت ريقها..
هل تمر دقائق أم ساعات وهي تفكر..
ما بها ترهب رجل!
يبدو منمقاً.. هادئ الملامح.. وسيم.. ولكن..
مخيف!
رهبة ما تجتاحها برفقته وهو يعلم..
بدا قارئ للأفكار قبل أن يزيد:

الخوف متعة يا كارمن.. متعة حقيقية مش وهم.
نظرت نحوه بغية تحديه وسؤاله:
وأنت جربت الخوف؟
ابتسم واقترب منها.. أمام عينيها بل شفتيها ابتسم وهمس:
التجربة بالنسبة لي مش مهمة.. المهم إني أرسمه.
وحينها تبعته..
ربما رغبة في اختبار المجهول وربما حقاً تود أن تقتل شهرزاد.


صمت الجياد بقلم /مروه جمالWhere stories live. Discover now