الفصل الخامس عشر

298 10 0
                                    

《الفصل الخامس عشر》

كثيرًا ما نخسر وتخرج الأمور عن مسارها الصحيح.
نشعر دومًا بالعجز تجاه كل شيء..
الوقت يكبلك! الصمت يقتلك والحديث حروف بالفضاء تجرحك مهما حاولت التوضيح.
صمت وهدوء من الجميع كأن على رؤوسهم الطير لكن داخلك صخب ينتشلك من ضحكتك إلى بؤرة الحزن داخلك، ألم يعتصر اطمئنانك متشفيًا بقرب نهايتك، دموع تود التحرر من أسر عينيك لكن حواجز الكبرياء تردعها معنفة، حياة تود عيشها باستقرار ليصفعك القدر متمتمًا بأنك لم تخلق سوى للألم، دوامة الخذلان داخلك تجذبك للقاع، تجبرك على المكوث لأطول فترة ممكنة، مقيد مع أنك طليق، عاجز بالرغم من كونك سليم من أي خدش لتفاجأ بأنك ميت مع وقف التنفيذ..
كثرة التفكير بأمر ما تؤكد الخوف من خسارتنا له دون إلقاء نظرة شاملة من زاوية أخرى، الرهبة من الاستيقاظ فجأة لنجد أن الأمور تتسرب من بين أصابعنا، تلك الرجفة الخفية التي نشعر بها والمصاحبة دومًا لدقاتنا الهادرة.
الخوف مرض يطرأ على العقل يزعزع الاستقرار..
يدمر الأمل ويوئد الراحة..
خوفك من حدوث أمر بعينه ما هو إلا بداية استوطان الروح بمرض العزلة عن الآخرين، الخوف من جرحهم... لم لا؟!
جميعنا مقيدون بخيط يجذبنا لنفس المسار مهما اختلفت الطرق، يوحد الدروب بعد فراق القلق، يرسم البهجة بعد عبث الحزن، هذا الخيط ما هو إلا مجموعة عقد كلما حاولنا فهم إحدى هذه العقد تتشابك أخرى بتعقيد أكبر محاولة إثبات فشلك للبقية لتبرهن أنك عاجز مهما تداعيت القوة، عجزك سلاح فشلك، تود الفرار من تسليط الضوء نحو البطل إذًا ابتعد قليلًا وأفسح المجال لآخر يثبت لك كيف تكون المحاولة مهما تعثرت بخطوات الفشل.
جلس غيث بشرود حزين في حديقة المنزل لا يطرأ بباله سوى ماحدث بآخر لقاء جمعهما معًا، كأن عقله رفض أي ذكرى بعدها، ذكرى قتلته بالبطيء دون رحمة، مر الكثير من الوقت أو هكذا أوهم نفسه، فالحياة توقفت عند هذه اللحظة، لحظة اعترافها بحبها لآخر.
كيف تفعلها وهي ستُكتب على اسمه يومًا ما! تكون زوجته المالكة لزمام قلبه، أحبها بصدق لن ينكر، عرفها من قبل كيف لا وهي أسرت لبه حينما لمح طيفها لأول مرة، أحبها بشغف حتى قبل معرفة مَن تكون تلك الجنية الصغيرة، منذ أول بسمة لها وأقسم قلبه على ضرورة وجودها قربه، فبعدها هلاك لروحه، سجن لقلبه وضلال لعقله.
لم يحاول الاتصال بها أو حتى الاطمئنان عليها، يعلم بأنه أسلوب غير مقبول لكن كيف تكون ردة فعله المتوقعة حينما تخبره بحبها لآخر، يعلم بأنها أحبته لكنه ظن بأن القلب تعلق بطيف وجوده، نزعته الرجولية أبت التحدث عن آخر من قلب عشقه بشغف، لا يعلم مشاعرها نحوه لكنه تأكد من انحراف نبضاتها الثائرة عن وتيرة المألوف بوجوده، نظرته العاشقة تجعلها تحمر خجلًا من وجوده قربها، لم يقل لها كلمات غزل أو غيرها، يدخرها للوقت المناسب وهي لا تقدر عنائه لضبط دقاته حتى لا تترجمها شفتيه بكلمات غزل قد تنقص من شغفه نحوها يومًا.
أراد أن يظل شغفه بها موجود حتى يشيبا معًا، يريدها قلبًا وقالبًا لكن لازال الصبر يحثه على حبس أنفاسه لفترة أطول حتى يأتي الوقت المناسب مُذللًا كل العقبات بلا استثناء.
أقسم بأنه لن يتفوه بحرف معها قبل عودتها متلهفة لربط الوصال بينهما رغم يقينه بأنها لن تفعلها لأنها أرادت التخلص منه بشدة.
هي أخطأت ووجب عليها الاعتراف بخطئها قبل التفوه بشيء قد يكون سببًا بخسارتها للكثير فيما بعد، يريد قلبها بلا شوائب لكن يبدو بأن الطريق لقلبها مشابه للطريق إلى إيلات نظرًا لوجود الألغام الشائكة، مدرعات تقتل حديث بلا رحمة، فوهة سلاح مسلطة ناحية رأسك متمنية صمتك للأبد.
قلبها ملغم..
عقلها مشوش..
كلماتها متأرجحة..
ضحكاتها مهزوزة..
تريد قربه لكنها تبتعد دومًا..
تحزن لبعده لكن تود منطقة أمان بينهما..
يحبها لا والله لقد تمكن العشق منه حد النخاع، تملك حبها بقلبه ورفض مشاركة أخرى به، تُعذبه لا بل تدمي قلبه من الألم حينما يجد بعينيها نظرة اشتياق لآخر تخلى عنها بكامل قواه، حررها من عشق واهم ظنته حقيقة ليصفعها القدر شامتًا بأن الحب لم يخلق للبلهاء أو أصحاب الإشعارات المزيفة مستغلًا ثغرات خديعة تسللت إلى القلب دون إشعار مسبق وهي اطمأنت حتى غادر عالمها دون وداع.
الحب راحة بالقرب وهوس بالبعد..
أملًا باللقاء ورغبة بالبقاء..
تجديدًا للوعد وتحديًا للعهد..
اكتمالًا بالسعادة واسْتِهْلالًا بالحزن..
الحب أمل.. وعد.. لقاء.. حنين.. اشتياق.. تمني..
الحب في جوهره يحمل كل معان البهجة للروح.. تجديد الأمل للنفس وخفقان القلب بالطرب.. الحب أعواد ثقاب حينما تحتك بما يناسبها فإنها ستطلق شرارات السعادة داخلك لتفيق على حقيقة واحدة أنه حان إرساء سفينة فرحتك على مرساها المناسب بعد إلقاء أحمال حزنك الزائدة ببحر النسيان دون الحاجة إلى تذكر تفاصيلها لأنها وببساطة مقيدة برابط الوداع دون الالتفات إليها أو حتى وداعها.
فتح غيث هاتفه ليشبع اشتياقه من بعدها الجافي موجهًا كافة حواسه لتأملها بشغف كأنه يتعرف عليها لمرته الأولى، تنهد بألم قبل قوله الشارد
- القلب يخفق، الروح تئن، الجسد هلك والنبض افترق، الحديث ماسخ، اللسان عاجز والشفاه مكبلة.
صمت يتابع صورها الواحدة تلو الأخرى ليُكمل بعدها بألم
- العين تئن، الجفن يبكي، الدموع تهطل والرِمش يزجر، الشعر شاب، العمر طال، الود غاب واليد تجعدت، الوقت يفنى، الطير عاد، النظر خفت والرجفة تسري.
لم يعرف خطوته التالية بعد فهو يشعر بأنه لازال رضيع يحبو ليكتشف ما يحدث بالأرجاء رغم فشله في التملص من ذراعي والدته، تنهد بحرارة تبعها تحدثه المعاتب
- أما آن الأوان ليخفق قلبك طالبًا عشقي، يتنازل كبريائك راجوًا قربي، ألم يحن الوقت للهبوط من برج العاج ذاك مولاتي لإطلاق سراح معتقل بجريمة حبك، ألم تكتفِ التعذيب سيدتي لترفعي راية الحب فوق جذور قلبك المستعمرة من آخر، ألن تصدري فرمانًا بتسليم حصون قلبك لآخر أحبك بشغف، لا تكوني جلادة مولاتي لكن كوني قاضية بالعدل مع وجوب تنفيذ قرار المحكمة بالاستسلام مرحبة بالحياة في كنف آخر يعشقك بصدق، ندبات قلبك سيعالجها حبي أقسم لك، كوني على ثقة بأن حبي سيتغلغل لتلك الندبات لتُزهر شجيرات من السعادة ترتو بنبض قلبك مهما حييت.
تمدد على الأريكة بتمني واضعًا هاتفه جوار قلبه كأنه يوصي صورتها بالاستماع لدقاته وإخبار صاحبتها بمدى عشقه لها، ظل يفكر كثيرًا حتى باغته سلطان النوم ليقع أسيرًا لطيفها.

"من بين الرماد"- "أسماء رمضان"Where stories live. Discover now