16

37 4 0
                                    

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

صاعقة عقلية أصابت عقلي، فشعرت بروحي تزهق.
وعقلي يتمزق، قبل أن يهدأ كل شيء وأجد وعي
يتجسد بداخل القطار نفسه..
كيف يمكن وصف شيء خرافي كهذا بكلمة
قاصرة ك (قطار).
كنت بداخل عربة واحدة من عرباته..
لم تكن عربة قطار كما تبدو من الخارج..
بل جحيم كامل في حجم كوكب متوسط الحجم،
يحتوي على كل ما ابتكرته عقلية هذا المخلوق
الخارق من أساليب وطرق وأدوات تعذيب.. بها
الملايين من الأسرى المكبلين والمعذبين
والقائمين على الخدمة.. وسيئي الحظ الذين وقعوا
في طريق الحاصد..
إن صراخ المعذبين وحده، لو سمح له أن يغادر
جدران القطار، لتسبب فى فناء كل مخلوقات
الأرض، بل فناء الأرض نفسها من هوله وعظمته
وارتفاعه..
لا أعرف كيف لم أجن إلى هذه اللحظة..

لو واصلت ما أشاهده، من احراق وتمزيق وتعذيب،
وقهر، سأجن دون شك.
إن هذا القطار شيء مخيف حقا..
جحيم صناعي متحرك على قضبان.
دعوت الله أن يكون كل ما أراه مجرد وهم، ولكن
عقلي كان يرفض هذا المنطق، أو وسيلة الهروب
البدائية هذه..
لقد وقعت هذه المرة فى فخ لا فكاك منه.. إن
مصيري لن يختلف عن مصائرهم، وربما يكون
أشنع.

على البعد شاهدت الألاف من المخلوقات المجنحة،
يتم قص أجنحتها تباعا، بشفرات حادة مشتعلة
عن طريق رفاق لهم، وفور أن ينفصل الجناح، ينموا
أخر ليتواصل الألم الرهيب.
وبجوارهم بحيرة لا نهاية لها مليئة بمخلوقات
صغيرة في حجم الأطفال، تمتليء مرة واحدة
بسائل أسود يغلي كالقار، تحترق فيه جلودهم
السميكة ببطء شديد، ويتعذبون ويصرخون بلا
إنقطاع من شدة الألم. وقبل أن يلفظوا أرواحهم.
تكسوهم جلودا جديدة لتبدأ المعاناة إلى الأبد.


وفي زاوية آخرى، مخلوقات فيروزية اللون، تفوم
خطاطيف مسننة حادة، بنزع أطرافهم ببطء
شديد، وعندما تتفسخ أجسادهم، تلتئم من جديد
ليعود العذاب..
وغيرهم وغيرهم ..
ضجت روحي بما أرى، فصرخت وصرخت وصرخت.
حتى انهار عقلي فأظلم تماما، قبل أن يعود له
الضياء، وأشعر به يستقر، ويعود وعيي ليمتزج
بوعي سيد القطار.
الآن أنا أرى بعيناه..
أعايش كل تفاصيل الرحلة المشئومة التي
يصطحبني خلالها.
أتابع انظلاق القطار، وقلبي يخفق من الهلع، منتظر
اللحظة التي سيتوقف فيها من هول ما أشعر به.
طاقة سلبية رهيبة تحيط بي وتحترق بها روحي،
ولكني لا أملك لنفسي شيتا غير المتابعة..
القطار الشبحي ينطلق في مساره على نفس
القضبان التي يسير عليها قطار الأقاليم الذى يمر
بقريتنا، بشكل ما أعرف أنها السابعة والربع، وأعرف

أن هذا القطار الملعون يسير في الاتجاه المعاكس
بسرعة رهيبة، كما أنه يهدر بشكل عاصف، وكأن
كل محركاته عبارة عن مطارق تضرب في ألواح من
الصلب لتصدر هذا الضجيج المروع.
عيناي تمسحان الطريق في توجس، وأذناي
تسمعان أنينا مكتوما بشكل رهيب، مع هسيس
غريب متواتر، وكأن هناك من يعذب ولا يسمح له
بالصراخ .
ضوء القطار المقابل يلمع على البعد ..
القطار يهدر..
صافرته كنواح البومة، تزلزل القلوب.
عندما ظهر القطار المقابل سمعت فحيحا مخيفا
لم أعرف مصدره، كحيوان ضاري يزوم عند رؤية

ربما هو القطار نفسه..
فما أشعر به أنه يمتلك حياة خاصة هو الآخر.
القطاران يقتربان في سرعة..
ر الحا
أحدهما وحش كاسر، والآخر غافل عن مصيره
المرعب.
القطاران يقتربان في ثبات..
عقلي يستعيد مشهد أحد الأفلام الأجنبية،
والمخرج يستعرض في مشاهد متعاقبة مقدمة
القطاران..
توقعت أن يتحول الأمر للسرعة البطيئة، ولكن
حدث العكس.

فبدون مقدمات تضاعفت سرعة القطار الشبحى؛
لينطلق بشكل مروع، ولجزء من الثانية فقد هيئته
الشبحية، وتجسد هيكله المعدني المظلم بشكل
مفاجي، وحدث التصادم المروع، وطار القطار
المقابل من فوق القضبان بعد أن سحقت قاطرته،
قبل أن يقف القطار الشبحي بشكل كامل في
لحظة واحدة، ودون تدرج في هبوط السرعة.
ثم عادت البرود الشديدة، لتغمر كل شيء.
وانفصل الحاصد عن قطاره، وهبط إلى حيث انقلب
القطار الآخرالذي غرق ركابه ما بين صرخات الهلع
والألم.

كان هناك، لا أعرف ما هو بالضبط!
كيف يمكن أن تصف الشر الخالص؟
إنه كما وصفته، أخطبوط هائل من الطاقة، يرى
بألف عين ولا عين له.
يتحرك ولا أطراف له..
يشم بـلا أنف.
يقتل بلا سيف.
إن الكون يغص بالمخلوقات العجيبة التي لا يمكن
تخيلها أو تخيل هيئتها وقدراتها، وهو نوع غامض
من الزائرين الذين يعتبرون الأرض منطقة نفوذ له
تغص بالصيد الوفير.
يتحرك في المكان دون أن توقفه عوائق..
عن طريقه عرفت أن للخوف رائحة، وأنه يمنح نشوة
عظمى. وأنه يتغذى عليه، إنه مصاص أرواح كوني
رهيب، لا يعرف إلا القوة..


الظلام شديد في تلك المنطقة المتطرفة التى وقع
فيها الحادث، بين قريتنا، وتلك القرية التي تليها،

وبرغم ذلك أرى جيدا، عربة في منتصف القطار
تشتعل بشكل مروع..
إن عدم وجود رقابة على وسيلة المواصلات
الداخلية هذه، جعلت أحمق ما يصطحب معه
اسطوانة غاز، ولم تنفجر الاسطوانة بفعل التصادم،
ولا بخطأ بشري..
بـل انفجرت لأن نازع الأرواح أراد لها هذا.
هل رأيت من قبل طفل يحترق، وأمه ممزقة الأطراف
على بعد متر منه ولا تسطيع مد يد المساعدة له؟
هل رأيت زوجة فقأت عيناها، تبحث بجنون رغم الألم
عن زوجها الذي سحق تحت أحد المقاعد الثقيلة..
ذلك الشيخ الواهن الضعيف الذي علق بين الحطام
وقد انغرست في صدره قطعة معدنية جعلته
عاجزا عن التنفس، وهو ينظر بحسرة إلى علب
الدواء التي تلتهما النار، والتي كان يتسول من
أجل شرائها لزوجته، ونفس النيران تقترب منه
بإصرار غريب.
ذلك الفتى الذى كان يقبض على يد فتاته، دون أن
يعرف أن جسدها، غير متصل بتلك اليد.

مشاهد رهيبة كنت أراها، وأعيش آلمها دون آن
أمتلك ذرة واحدة من الإرادة لأنفعل معها الانفعال
الصحيح.
خارج القطار.. تطايرت الأجساد فى شكل عبثى


مروع.
لوحة مخيفة للموت المهين المفاجى..
ترى، بماذا كانوا يحلمون، عندما تمزقت بهم عربات
القطار؟!
القاطرة كانت فى حالة يرثى لها.
هل جربت من قبل أن تسحق بيدك علبة مياه
غازية
جرب في مرة أن تضعها على الأرض وتسحقها
بقدمك بكامل قوتك.
هل رأيت منظرها؟
تخيل الآن أن بداخلها السائق البدين ومساعده
العصبي..
لم يكن لديهما أية فرصة للصراخ، قبل أن تختلط
لحومهما وعظامهما بمعدن القاطرة، الذى سحق.

واحتوى بداخله انفجار المحرك.
لن يستطيعوا بأي حال من الأحوال جمع أشلائهم
أو دفنها..
الكيان الأخطبوطي الشرير يتحرك..
إنه لا يمتص فقط الطاقة السلبية الرهيبة الناجمة
عن لحظات الهلع والاحتضار، بل يمتص ذاكرتهم
وذكرياتهم..
ثم يشير إلى بعض ركاب القطار، فيهبون على
أقدامهم، ويشكلون صفا طويا، ويتوجهون صوب
القطار..
إنه يجمع غنائمه..


لقد نجا من مات من مصير مظلم، ومن بقي على
قيد الحياة، مصيره عذاب أبدي لا نهائى..
ماذا أقترف هؤلاء ليكون هذا مصيرهم؟
وما جريرتي ليكون هذا مصيرى.
ثم ما الهدف من كل هذا؟!
البرودة تتزايد..

ععلي يغلي كي راسي..
المشاهد تنعكس وكأنك تقوم بترجيع شريط
فيديو ..
القطار المهشم يعود لحالته الطبيعية بسرعة
رهيبة، الجثث المتناثرة من داخله تعود لأماكنها..
النيران تنطفى..
القطاران ينفصلان ويعود القطار الشبحى إلى
سيـرته الأولى..
ظلام ثم نور..
ثم يعود وعيي إلى عقلي لأرى نوارة تقف أمامي
على محطة القطار وسط الضباب، والقطار الشبحي
يزوم بجواري.
بشكل ما لم ينفصل وعيي تماما عن وعي ذلك
الكيان الأخطبوطي الشرير.. الآن أعرف أنه أختارني
لأنني مميز، ولأنني أشع طاقة سلبية هائلة؛ فروحي
تشبعت بالموت. وقد وصمني مندوبه اللعين كى
يحصدني سيده في وقت، لانني سأكون وقودا

جيدا لقطاره..


لماذا لم يجبرني على ركوب القطار، كما فعل مع
ضحاياه السابقين، الإجابة كانت تكمن هناك في
أعماق عقله، وعرفتها قبل أن أغادره..
إنها القوانين التي وضعها من هو أعلى منه، تمنح
لمن يتم وصمهم-وهم المميزين- فرصة ليقاوموا
مصيرهم، وهذا كان تمهيدا، لخوضهم اختبارات
أخرى، تصنع منهم في النهاية زبانية في هذا
الجحيم المتحرك.
لهذا كان من يعذبون المخلوقات المجنحة هم
رفاقهم.
.
- «هلم اصعد إلى القطار.. رحلتك لم تبدأ بعد»
الصوت صوت نواره، ولكن وقعه على روحي رهيب..
ومن أعماقي أيقنت أني لن أسمح لنفسي بركوب
قطار الجحيم هذامهما كان الثمن.. لن أحيا ما
تبقى من عمري.. أعيش لحظات الموت والخوف
والألم.
لن أصير شبكا كألاف المخلوقات التي يغص بها
القطار، والذى لا تمضي لحظة واحدة دون ان

يتعرضوا لعذاب رهيب أو يمارسوه؛ لمنح القطار
وقوده الجهنمي من الطاقة السلبية.
أواجه نوارة وأبثها أفكاري التي نقلتها لنازع الأرواح.
دون أي إضافة، وكانت رسالتي واضحة؛
«الموت أهون من أن أستقل هذا القطار الملعون..
إن أراد قتلي فليفعل، ولكن قدماي لن تخطو
خطوة واحدة نحو هذا المصير المروع، الموت أهون
وأقبله بصدر رحب».


صوت نوارة يزلزل وجداني:
- «نحن لن ننتظر إلى الأبد.. وأنت معنا لا محالة..
أنت الراكب القادم الذي لن يغادر القطار مجددا..
إنها قوانين سيد القطار.. قوانين وضعت كي لا
تكسر»
للحظة دوت في عقلي الفكرة ..
وعلى أثرها رددت بغير وعي:
«القوانين .. أنا كنت بداخل عقلك، وأعلم برغم
كل شرورك أن لديك قوانين وضعها سيدك.
وتلتزم بها.. أنت لست حر بشكل كامل، ولست
نصف إله كما خيل لي في البداية»

قلتها ثم ابتلعت ريقي وآكملت،
- «لتعلم أيها القاتل البغيض.. أنني لن أستقل
هذا القطار.. وأنك ستغادر دون تذكار جديد من
قريتي»
الصوت الغاضب من نوارة:
«لا أحد يكسر إرادة سيد القطار. لا أحد».
أنظر للقطار الذي أخذ يزوم في سخرية وأقول،
- «قوانينك هي التي ستمنعك.. وقانونك الأول أنه
لا أحد يغادر القطار. وأنا عقليا ركبت القطار..
وعشت رحلته السابقة ثم غادرت.. أنا خارج منطقة
نفوذك، وخارج سطوة قوانينك»
زئير رهيب ينطلق من بين شفتي نوارة فأكمل
قائلالا:
- «شروطك لن تنطبق علي .. ربما في رحلتك
القادمة تكون أكثر ذكاءا».


كنت أستفزه لينهي الموقف.. لينصرف؛ فروحي
تضج بوجوده، وقلبى يكاد يتوقف من الهلع رغم
الشجاعة الكبيرة التى أدعيها، فأنا أعلم أنه بشكل

ما يخضع للقوانين، إنه يخدم كيانا آكبر وأعظم
شرا..
إننا نجهل طبيعة الشر خارج عالمنا..
هذه.. أن هذه الشرور
وما أدركته فى رحلتي
المروعة ستطالنا جميعا في يوم من الأيام..
نباح كلاب عديدة يأتي من بعيد.. لابد وأنها تحذر
بعضها من الاقتراب من محطة القطار، كي لا تقع
ضحية لنازع الأرواح الشرير..
صوت نوارة الغاضب يقول فى إحباط:
«القوانين منحتك فرصة، ولكن لتعلم أنها
الأخيرة، لأنني سأعود.. وهذا ما تنص عليه القوانين
أيضا «.
تذكرت مشهدا رهيبا في أحد الأفلام، عندما أحرقوا
الشيطان، وقبل أن يموت تماما، أخبرهم أنه
سيعود، وأذاقهم الويل في ثلاثة أجزاء تالية.
ولكنى لا آبه بالقادم.. ما يعنيني أن أخرج من هذا
الفخ ألآن فروحي تتفتت من البرد والمشاعر
السلبية المحيطة بي.. أتحرر.. وأمت بعدها بلحظة..
فقط لأشعر أني أقل دنسا، وأكثر حرية من هذا.
القطار يهتز ويخور كوحش في سبات منذ قرون
وحان أوان استيقاظه..
الهسيس يتصاعد..

الصراخ يدوى في المكان..
كان هذا مصيري.. ونجوت بفضل غباء الشرير..
صافرة القطار الناحبة تنطلق..
القطار يهدر..
عجلاته تدور وتغادر..
الظلام ثم النور.
الضباب يتلاشى..
نوارة تستفيق لتسألني عما حدث، فأخبرها بصوت
يموج بكل المشاعر السلبية، والإحباط:
- «لقد ذهب»
تردد في فرحة:
- «ذهب»

فاقول فى يأس
- «ولكنه سيعود».
عن أى شيء يا ترى كان الحديث؟
عن هرة أكلت بنيها!
رباه.. كم أحببت عينيها
«إحباطات شعرية»
نجيب سرور

#سر الحانوتى لعمرو المنوفى
#كوالا

سر الحانوتى لعمرو المنوفى(مكتمله)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن