2|في الذّاكِرة

127 19 13
                                    

«في لحظةِ ما بين الموت والحياة، أمنيةٌ واحِدة قد تُحقّق، إن آمنت بكُل قِواكَ أنها ستفعل.»

لقد ارتكبتِ من الخطايَا والآثامِ ما ارتكبتِ..
عِشتِ حياةً رغِيدةً وكُنتِ كثُقبٍ ابتلع شخوصًا بلا أيّ شعورٍ نادِم، حتّى لو كان كاذِبًا أو مُزيّفًا.
أمّا الآن، حان الوقت للآثمِ أن يدفَع ثمن خطَاياه، حتّى تنفذ.
فكَم ذنبًا علّقتِ بروحكِ المسكينة؟

كانت مُكبّلةً بأصفادٍ خفيّة، تَشدُّ بإحكامٍ على رسغيها وقدميها، بينما لا تَعرِفُ أين تكُون، ومن أين تأتي هذه الأصوات والأحاديث المُرعِبة.

لم ترى شيئًا سِوى ظلامًا على مدّ البصَر، ووحشةً لم تخَف منها في الماضِي، لكِنها ولسببٍ مجهول، تُرعبها حدّ الموتِ في هذه اللحظة.

بأنفاسٍ هادِرة، ردّدَت:
«هل من أحدٍ هنا؟»

كان الصّمت جوابًا، بصفيرٍ يعُجُّ أذنيها فآلمها، تئِنُّ بغيرِ وعيٍ، وهيَ تُتمتم تراتيلًا تُنجيها من شيءٍ يجعل قلبها يخفق رُعبًا، رغم أنها تجهله.

اقترب الصّوت الوحيد المُتردّد في المكان، قائلًا بعلوٍّ:
«وأين تهرُبين من كل هذه الأحمال الثّقيلة؟
فلا مكان سيأويكِ من عِقابٍ يتربَّص بالزاوية بكُل نهمٍ، مُنتظِرًا لحظةً حاسِمة.
ولا مكان سيُرحّب بروحٍ مُدنّسة، خرقت بكُل جحودٍ قوانين الإله.
فهَل من أمنيةٍ أخيرة؟»

أطبقت جفنيها بكُل قوةٍ تكفّ أذنيها عن سماعِ ما يُقال، خوفًا، لكِنّه عُنوةً يدخل داخِلها فيُجلجل قلبها بعُنفٍ، وتُذكّر نفسها بأن هذا ليس سِوى مجرد بداية.

- انظري! انظري لما بطشته يداكِ، ودمّرته روحكِ، وعزمت على قتله أعينكِ المُسمّمة.
فكُوني شاكِرةً أنّ رحمةَ الإله حبَت المُدنّس قبل الطائع.

انظري لكُل هذهِ الأنفس والأرواح التي عانت بسببِ قلبٍ مُتحجّر تجزّأ منكِ، وجشعًا أعمى عينيكِ فلوّن فيها هذه الحقيقة البشِعة بلونٍ ورديّ.
فما نفسكِ إلا خادِعة لنفسكِ، وقد خانكِ الزّمن في لحظةِ غدرٍ دون أن تدري.

في الذّاكِرة، رأت أُناسًا كادت أن تنساهم، وأفعالًا كانت تتناساها، رُبّما خوفًا من أنينِ ضميرها إلى أن قتلته؟

زادت سرعة أنفاسها حين لَمحت والدتها، كانت تقف بمكانِ عملها، بينما مُديرها يُعزّيها بأسفٍ على موتِ ابنتها الوحيدة.

«آسفٌ لخسارتكِ.» تمتم الرّجل الأربعينيّ بنبرةٍ آسفة، مُخفِضًا عينيه أرضًا، أومأت الأم ببُطءٍ، وتحدّثت بخفوتٍ:
«اسمح لي، سآخذ مُقتنيات ليليانا.»

تنحّى الرجل عن طريقها جانبًا، مومِئًا بتفهّمٍ، فدخلت هي مكتب عمل ليليانا بخطواتٍ مُثقلة، وأغلقت الباب خلفها.

تأمّلت المكان بعينينِ دامعتينِ حزينتينِ، تتخيّل ابنتها تجلس بكُلّ زاويةٍ فيه، تعمل هنا، وتجلس هناك، وتتناول الطّعامِ في هذه الزاوية، تحسّست الأثاث ببُطءٍ وبأنامل ترتعش، إلى أن انفجرت مشاعِرها فاجهشت بُكاءً.

شاهدت ليليانا والدتها من خلالِ ضوءٌ أبيضَ لَمع فعرض لها عِدّة مقاطِع من ذاكرتها، وحين أتى دور والدتها، توقّف المشهد للحظاتٍ، فتتأمّلها فيها الأخيرة قليلًا.

تحرّكت والدتها نحو المكتب، أمسكت بضع ورقاتٍ وُضِعت عليه، كانت أوراق لقضَايَا تعمل عليهم، فهي كانت مُحامية مخضرمة في عمرها الثامن بعد العشرين.

«اذهبي للجحيمِ أيتها الساحِرة! تستحقّين الموتَ وما بعده من عذابِ الجحيم!» لفت نظرها ورقةً كُتِبَ عليها عِدّةُ كلماتٍ وقِحة بنظرها، لكن من سيكتب هذا النوع من الرسائل لشخصٍ ميّت؟ أهو أحد الأشخاص الذين يكرهونها كما ذكرت لها ابنتها؟

لكِنها أوقفت كل الاحتمالاتِ حينَ لمحت ورقةَ مُلاحظةٍ أخرى عُلِّقَت على حاسوبها النّقال، فالتقطتها تقرأ مُحتواها:
«وأخيرًا أصبح العالم عادِلًا مرّةً، كُنتِ سببًا بتدمير حيوات الكثير من الأشخاص، الآن حان دور العقاب.»

اتّسعت حدقتيّ الأم بصدمةٍ، فتراجعت للخلفِ قليلًا بلا وعي، تكاد تنسى كيف تتنفّس بينما تُعيد قِراءةَ الرّسالة.

بحثت بين باقيَ الأوراق فوجدت العديد من المُلاحظاتِ دُفست بين قُصاصاتٍ كانت في صندوقٍ مرميٍّ جنبًا، حملت الصندوق بأكمله وسارَت بثقلٍ نحو أقرب مِقعد، هي خائفة في هذه اللحظة، الرسائل التي وجدتها منذ قليلٍ لا يُمكن بأن تكون مجرد رسائل بلا قِيمة، أكيدٌ أنها لسببٍ ما، وهي خائفة من كشف ذلك السبب.

أفرغت ما يحويه الصندوق على الأريكةِ أمامها، علّها تهتديَ لشيءٍ ما يُثبِتُ لها عكس ما تُفكّر فيه الآن، أمسكت بقُصاصةٍ مطويّة بشكلٍ أنيقٍ، بدت أكبر من الباقيات، فتحتها بيدينِ مُرتعشتينِ، وقلب ثائِر.

..

«وانكشفَ السّتار، حيثُ يرجعُ لكُلّ ذي حقٍّ حقّه
.
يُتبع.
تصويت 🌟.
585 كلمة.

غَيث: غمامةُ رَوح√.Where stories live. Discover now