-نيلوفر-

82 16 14
                                    


|عام 1890|


في كل خريف، رُبما تَجرد الاشجار من زينتها بسقوط زهورها الملونه هو ما يملأ الجو بشعور الحنين و الكآبه الغير مُبررة، رُبما لأن المشاهد الجميلة تبدلت -ولو قليلاً- فخسرت جزءاً منها كان يزيدها جمالاً، أو ربما لأن ذلك يذكرنا بالاشياء التي خسرناها، بالاشياء التي نفتقدها، و بفكره أن كل الاشياء الجميلة من الممكن أن تنتهي.
يرهقنا الحنين، لأننا ننسي أن بعد الشتاء ستتجدد الاوراق، دائما ما ننسي.

كان يقف أمام باب المنزل، الجو ليس جميلاً  ولكن نسيم من الهواء يجعله لطيفاً، سماء رمادية، الاوراق في كل مكان، مما يدل علي أن عامل الحديقة لم يأتِ بعد، خرجت الخادمة تُقدم له بعض الورق الذي كان ينتظره، شكرها و رحل.. في أيام كتلك، يحب آيفان أن يُنهي أعماله سريعاً، لِحبه الشديد للخريف و تلك الأجواء، يُفضل قضاء وقته في القراءة بجانب نافذة غرفته لا بالعمل و الذهاب و الإياب إلي نفس الاماكن المكرره، و لكن ذلك المنزل ما يزال وحيداً، قديماً، لا يسكنه أحدٌ غيره هو و والدته التي أهلكها المشيب، و رغم حبه و تعلقه بِعُزلته و تكريسه أغلب الأوقات إليها، الا أنه -مِن حين لآخر- يفتفقد وجود احدهم.

و في طريقه إلي بوابة الحديقة لاحظها، كانت تقف هناك عند بركة الماء، بفستان أبيض يبدو أنها غير خائفةً من إتساخه بالوحل -بل إن آخره قد إتسخ قليلاً بالفعل- تميل إلي تلك البركه لتقطف زهرة، كانت تبدو كأنها لا تنتمي لذلك المكان، أو لأي شئ في عالمنا، لم يرَ  ملامح وجهها بوضوح ولكنها كانت منشغله بتأمل تلك الزهرة كأنها أم تنظر بعنايه لملامح ابنها الذي ولد للتو، أدرك أنه وقف اكثر من اللازم وأنها لاحظته، فرحل مسرعاً قبل أن تراه، و قبل أن تتسني له فرصة أن يراها..

~~
"سيد ليدجر، البضائع التي تقدمها لنا مؤخراً ممتازة، و اعجبت العديد من شركائي، احسنت صنعاً"

"شكراً سيدي، أعدك بأن تكون الجودة دائما علي هذا الحال، إنني اعمل بنفسي لأتأكد من أن كل البضائع بأحسن حال"

عبر السيد آلين الغرفة ليجلس علي مكتبه، ثم تابع حديثه

"لا اشك في ذلك، و لهذا تحديداً قررنا أن نأخذ ضعف الكمية، شكراً لتعاونك معنا"

خرج آيفان ليدجر من المنزل سعيداً لتجديد صفقته، ولأنه سيحقق ربحاً أكثر و زبائن أجدد، مما يتيح له فرصه أن ينتقل لمنزل أكبر بحديقة جميلة، و كان ذلك كل ما يطمح له. و قبل أن يصل إلي بوابه الحديقة، نظر إلي ذلك المكان حيث رأي تلك الفتاة، لم تكن هناك هذه المرة.

شىء ما دعاه، ومن المؤكد أنه فضوله، ليذهب إلي تلك البركه الصغيرة، نظر إلي حافتها حيث كانت تقف الفتاة و نزل علي ركبته ليلمس الزهرة علي حافة البركه..

"نيولفر..."

"ماذا؟"
ظهرت خلفه فجأه، كانت في فستان وردي منفوش الأكمام، أقصر من الفستان السابق و لكنه طويل رغم ذلك حيث يصل إلي كعب رجلها، كانت تقف بثقة، و بوجه متسائل تظهر عليه علامات الفضول، و هنا كان قد اتيح له أن يتأمل وجهها، شفاه ورديه صغيرة، خدود ممتلئه قليلاً و اعين رماديه، شعر أسود منسدل، كانت جميلة، جميلة لدرجه أنك لا تستطيع إشاحة نظرك عنها، وتحديداً عن أعينها..

"نيلوفر، تِلك الزهرة، تسمي نيلوفر، تظهر تلك الزهور علي البرك.."
قال، متحاشياً النظر في أعينها بإرتباك

"إنها جميلة.."
قالت بإنبهار و هي تنظر إليها

"بالتأكيد، ترمز النيلوفر البيضاء للنقاء، و البدايات الجديدة، أتعرفين ذلك؟"

"يبدو أنك تعرف كثيراً عن الزهور، هه؟"
قالت رافعةً حاجبيها في ذهول

"كُنت اقرأ عنها في وقت فراغي، أُحب الزهور كثيراً، أحب لغتهم"
أجابها و هو يقوم من مكانه و يرفع قبعته في مكانها مجدداً

"هل للزهور لغة؟"

"بالتأكيد، كل زهرة تعني شيئاً ما، يستطيع المرء أن يبعث رسائل لأحدهم، عن طريقهم، الزهور جميلة.. و معانيها أيضاً"
قال ناظراً للجانب الآخر متحاشياً الوقوع في أعنيها الجميلة.

"هل يمكنك أن...تخبرني عن ذلك اكثر؟"
سألته بإرتباك ، ربما مع شعور بأنها تسرعت في فعل ذلك حتي قاطعها صوت من منزلها

"روزالين!!"

نظر إليها

"روزالين؟ إسمك ج.. جميل"

"رُبما نكمل حديثناً لاحقاً؟"
قالت ثم مضت مسرعة إلي منزلها قبل أن يتسني له حتي أن يلقي عليها الوداع، رُبما لتخفي إحمرار خديها.. إسمها جميل.

"روزالين..."
قال بصوت خافت بينما ينظر إلي المنزل مجدداً خارج بوابة الحديقة.

لُغة  الزهورحيث تعيش القصص. اكتشف الآن