البارت الثاني

149 75 29
                                    

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المؤلّف:
(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالأْرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنبياء: ٤).
الحمد لله على أفضاله ونواله وأنعمه.
والصلاة على مقدام السفراء الإلهيين سيّد الكائنات نبيّنا نبيّ الرحمة أبي القاسم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
والسلام على آله الكرام مصابيح الحوالك والظلم والسرج المضيئة في الدياجي البهم.
أمَّا بعد..
فإنَّ حرّية الفكر والانتخاب ونزاهة العرض وعذوبته هي مناشئ التكامل العلمي والوصول إلى القلل وإخراج الدرر والمرجان.
بيد أنَّه وعلى طول الخطّ هناك أعداء الحقيقة ودعاة الظلام يسعون إلى إطفاء ذلك النور لتنسج العناكب بيوتها وتعيش الضلالة أوكارها ولا يمسكون عن طريق الغواية والتضليل.
قال ربّنا في كتابه المنزل: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الإْنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (الأنعام: ١١٢).
فاحتجنا إلى دعاة حقّ وعلماء هدى وألسنة صدق ومشاعل توحيد ومنابر علم يجدّدون من معالم الدين ما اندرس ويرفعون من منار الإيمان ما طمس.

وكانت في طليعة تلك المساعي ولأخطر موضوع عقائدي جوانحياً وجوارحياً مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (عليه السلام) فقام باعباء تبشير الثقافة المهدوية الأصيلة ببصيرة نافذة وفكر مخلص وأريحية علمية وشفّافية خطابية ونهج حضاري وإخراج رائع وموفَّق ووساطة بين العلماء والقواعد الإيمانية والنخب، فصار من السهل وللجميع أن يتعرَّف على الإمام المهدي (عليه السلام) فيعيشه سلوكاً فقهياً ويحمله فكراً روائياً ويتبنّاه عقيدة عقلية ويتجذَّر فيه عاطفة قلبية ويسعى أن يمهّد له ويحسن الانتظار، فالانتظار ليس حالة من المشاهدة والتفرّج للحدث المستقبلي والتنبّؤ الغدي، بل هو مقدّمة ممهّدة للظهور، بل الفرج معنى سعي يشمل في طيّاته الانتظار الحالي الموصل، فبات المؤمن يقارنه (عليه السلام) مع المخلص العالمي عند الغير وينسجه في منظومة دينية واحدة متكاملة متناسقة من عطر التوحيد فيقرؤه بين أسطر المعالم ويجده بين الركن والمقام.
فقطع المركز شوطاً كبيراً بتوفيق ربّاني وإخلاص من طاقمه وأمامه الكثير وبحاجة إلى همّة عالية لتحقيق أهدافه والإصرار على المواصلة لكسب أطيب النتاج.
(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: ٤٤).
تمهيد:
المنظومة المهدوية بتجاذباتها وأجندتها من جهة، وعدم تقبّل البعض لها بسبب الخلفيات الثقافية والتاريخية من جهة أخرى، رغم دقّة وبراعة وترسيم بارئها، ورونق مصمّمها وتقنيّة مقنّنها من جهة أخرى، تعيش شيئاً من الضبابية والغموض والاستتار في ثقافتها وكيفية قراءتها.

بل ربَّما تنحرف بين حين وآخر عند هذا البعض عن مسارها الإلهي المرسوم والمخطّط لها، إمَّا انحرافاً وشذوذاً فكرياً، وإمَّا سلوكياً وإمَّا هُما معاً.

ولا غرابةَ في ذلك، بل إنَّ الظواهر الفكرية كلَّما ازدادت ثراءً عاشت افتتاناً أشدّ، فالظاهرة الدينية مع فطنة وحكمة مشرّعها ودقَّته وتبصّره وغيبيته لم تأمن من ظاهرة الانحراف، سواء أكان من بداية الولادة في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الفترة المشارفة له، أم فيما بعد، فوجدت المذاهب المتكثّرة في الشريعة الواحدة، فتعدّدها وليد إساءة فهمها وانحراف أربابها، ولا عجب في ذلك لأن الافتتان سُنّة إلهية محتومة لكل ظاهرة دينية.

فمكونها الداخلي بمقتضى معايشتها لعالم التزاحم يفسح المجال للاختبار ويهيّئ سبل الافتتان والامتحان، قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت: ٢)، وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لتمحصنَّ يا معشرَ الشيعة شيعة آل محمّد كمخيض الكحل في
العين؛ لأنَّ صاحب الكحل يعلم متى يقع في العين، ولا يعلم متى يذهب فيصبح أحدكم وهو يرى أنَّه على شريعة من أمرنا فيمسي وقد خرج منها، ويمسي وهو على شريعة من أمرنا فيصبح وقد خرج منها) (١) ، فقضية اختيار الإنسان وحريته من جانب، وفلسفة خلقه واختباره وامتحانه من جانب آخر، يفرض مساحة من الإيهام فينفتح السبيلُ للشاذّ، لأن يتحرَّك بسوء اختياره نحو الظلام، قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (الشمس: ٧ و٨) فألهمه بارئه أن يتابع الشرّ بمفتاح المتشابه، قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) (آل عمران: ٧).
فالإساءة واتّباع المتشابه من قِبَل الشواذّ الذين في قلوبهم زيغ، ليست منقصة في المنظومة الفكرية، ولا تخدش تأصّلَها وصلابَتها وحقانيّتَها وقدرةَ منظّرها وحكمته، وهكذا جاءت فصول الكون للمؤلف الواحد ذات الهدف والغرض المشترك في رسومها وأشكالها المختلفة في لوحة متكاملة، فإن واكبت المسيرة الفكرية أشواكاً وشوائب استقطعت في بعض مراحلها طابعها الفعال ونهوضها وفارقت طبيعتها التي رسمت لها وأثَّرت في بعض نفوس أتباعها آثاراً سلبية، وأوجبت دخول الشكّ والريب في قلوبهم، وانطفاء نور الشريعة من

العقيده المهدويه حيث تعيش القصص. اكتشف الآن