البارت السادس

67 37 10
                                    

بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الأوّل: مقام الإمام المهدي عليه السلام.
الفصل الثاني: آلية معرفة المنظومة المهدوية.
الفصل الثالث: رؤية الإمام الغائب ومشاهدته بين الصدق والدجل.
الفصل الرابع: للمهدي حيرة وغيبة.
الفصل الخامس: الثقافة المهدوية بين المبالغة والاستخفاف.
الفصل السادس: علائم الظهور.
الفصل السابع: المنقذ العالمي في الأديان.
الفصل الثامن: أسرار الانتظار.
الفصل التاسع: أزمة الفكر غير الشيعي في المنظومة المهدوية.
الفصل العاشر: اعتماد الموازين في العقيدة المهدوية.
لا بدَّ من الاعتراف مسبقاً أنَّ هناك غموضاً بدوياً في المعايشة مع القضيّة المهدوية ولذا لمستها يد الطامع، واخترقتها من مناطق الفراغ الكامنة في الثقافة المهدوية لدى جمهرة من الناس، وأثَّرت أثرها، وسرقت رونقها، وصوَّرتها في زاوية من الرهبانية المنحرفة، وسلبت جمالها، وعطَّلت العقل فيها، وفسحت المجال لفقراء العلم أن يدلوا بدلوهم فيها، وضعافِ العقل أن يتجوَّلوا في أزقَّتها، وأصحاب النفوس الواهية التنظير لها، وألَّبوا أتباعهم على مقاطعة مجالس العلم، وأوحوا إلى أوليائهم مفاهيم مقلوبة، فضاعت القيم واختلطت الأوراق، فتنعَّل الحافي، وقُدَّم وتقدَّم المفضول، ودخلوا البيوت من غير أبوابها، وقرَّبوا الشريد والطريد، وصار النكرة معرفة، والبوّال على عقبيه فقيه الأمّة، ورعاة المعزى نُخَب الفكر، ولبسَ العاري جلباب العلم.
فلا محيص من فتح الطريق باستضاءة المصابيح وكشف الستار، وتوضيح المفاهيم وشرح المفردات ودفع الغموض، وبيان الصورة وإملاء الفراغ وتحديد المعيار، وطريق الارتواء وكيف تسقى الأرض الخصبة بماء الحياة من العترة الطاهرة.
وهذه بعض المفردات التي أردنا توضيحها، ورفع الغموض عنها، وسنذكر كلاً منها في فصل مستقل.

* * *
الفصل الأوّل: مقام الإمام المهدي عليه السلام

خصائص الإمام المهدي عليه السلام.
النتائج المستفادة.
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الفكرة والعقيدة المهدوية عند الشيعة قضيّة خارجية، وليست فرضية فلسفية عقلية ولا توهمات نفسية، فالإمام وجود إنساني بالفعل مرتبط بالسماء على نحو ارتباط سائر الأولياء المنصوبين، وهو حاملٌ لمواصفات أوسع من الأوصاف الجسدية والجسمانية والمادية، فله سمات معنوية وروحانية وهو امتداد لشجرة مباركة، قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (الملك: ٣٠)، فربَّما يظهر ولو بمعونة الأخبار(٢١) أنَّ المراد من الماء في الآية الكريمة ليس الماءُ بالمعنى الحقيقي فحسب، بل المراد معنى معهود.
وهذه الأوصاف هي التي ترسم لنا شخصية الإمام.
وتتأكَّد فكرة معرفة المهدي عليه السلام بخصوصه عن طريق ملاحقة أوصافه وصفاته حسب ما ورد في الروايات، لا عن طريق الاستناد التاريخي الذي هو رجوع إلى النهج البشري المتقوّم بالمحسوس والحاضر والمشاهد، فلأنَّ الإمام عليه السلام في غيابٍ واستتارٍ وعدم ظهورٍ إلاَّ في ظرف زماني ومكاني ضيّق جدّاً، فلا معنى للرجوع إلى أصحاب السير ليحدّثونا عن سماته ومناقبه، وهذا بخلافه في النهج الروائي، فإنَّه لا يتوقَّف ولا يعتمد على خصوص الحاضر المحسوس، بل يكشف عن المغيَّب، وهذا معناه أنَّ المنهج التاريخي _ بل المناهج الوصفية _ في مثل هذه الأمور ضيق، بل قد يكون مخلاً من جهة، وهذا بخلاف المنهج الروائي إذ انعكاسه عن الواقع يكون واسعاً دقيقاً، ثمّ إنَّه بالطريقة الروائية تنتظم عندنا رابطة التعرّف به وكيفية الارتباط وحاجتنا إليه، وآفاق التعامل والمسؤوليات وانكشاف بعض الفوائد من وجوده في عصر الغيبة، والتعرّف على المشروع العالمي الناهض بالاصلاح والعدل، والمحيي لقيم السماء والوصول إلى الفصل الأخير لكتاب الكون الإلهي. وعلى وفق هذه الدراسة قد نتحفَّظ على بعض الروايات ونهذّب الآثار عن المدسوس والموضوع.
فالشيعة الإمامية الإثنا عشرية تعتقد أنَّ الخليفة في الأرض لا بَّد أن لا يكون فيه نقص من كلّ كمال ممكن له، وأن لا تكون فيه جوانب عدمية، وأن لا تكون فيه جهة شرّ وحيثيات فقيرة، بل كلّه الخير والجمال الوجودي، فهو الجود والنور في قوله وفعله وأخلاقه ومعارفه، فتهفو وتنجذب النفوس الطيبة إليه.
فانتخاب الأولياء ليس عشوائياً، فإنَّهم الأنوار الإلهية قبل خلق الكون، وهم خلق الله الكامل الذي تتجلَّى به صفات الخالق، وهذا لا يعني عينية الصفات، إذ الذات المقدَّسة لا متناهية بذاتها فضلاً عن صفاتها وكمالاتها، فحيث إنَّ بين اللامتناهي والمتناهي بون شاسع فكون الأئمّة عليهم السلام أسماء الله لا يستدعي أنَّهم عين الذات المقدَّسة، لذا ورد في التوقيع الشريف: (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم، اُدع في كلّ يوم من أيّام رجب: اللَّهُمَّ إِنّي أسْألُكَ بِمَعَانِي جَمِيع مَا يَدْعُوكَ بِهِ وُلاةُ أمْركَ الْمَأمُونُونَ عَلَى سِرَّكَ الْمُسْتَبْشِرُونَ بِأمْركَ الْوَاصِفُونَ لِقُدْرَتِكَ الْمُعْلِنُونَ لِعَظَمَتِكَ أسْألُكَ بِمَا نَطَقَ فِيهِمْ مِنْ مَشِيَّتِكَ فَجَعَلْتَهُمْ مَعَادِنَ لِكَلِمَاتِكَ وَأرْكَاناً لِتَوْحِيدِكَ وَآيَاتِكَ وَمَقَامَاتِكَ الَّتِي لا تَعْطِيلَ لَهَا فِي كُلّ مَكَانٍ يَعْرفُكَ بِهَا مَنْ عَرَفَكَ، لا فَرْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا إِلاَّ أنَّهُمْ عِبَادُكَ وَخَلْقُكَ، فَتْقُهَا وَرَتْقُهَا بِيَدِكَ، بَدْؤُهَا مِنْكَ وَعَوْدُهَا إِلَيْكَ، أعْضَادٌ وَأشْهَادٌ وَمُنَاةٌ وَأذْوَادٌ وَحَفَظَةٌ وَرُوَّادٌ، فَبِهِمْ مَلأتَ سَمَاءَكَ وَأرْضَكَ حَتَّى ظَهَرَ أنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أنْتَ فَبِذَلِكَ أسْألُكَ وَبمَوَاقِع الْعِزّ مِنْ رَحْمَتِكَ وَبمَقَامَاتِكَ وَعَلامَاتِكَ أنْ تُصَلّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأنْ تَزيدَنِي إِيمَاناً وَتَثْبِيتاً يَا بَاطِناً فِي ظُهُورِهِ وَظَاهِراً فِي بُطُونهِ وَمَكْنُونهِ، يَا مُفَرَّقاً بَيْنَ النُّورِ وَالدَّيْجُورِ يَا مَوْصُوفاً بِغَيْر كُنْهٍ وَمَعْرُوفاً بِغَيْر شِبْهٍ، حَادَّ كُلّ مَحْدُودٍ وَشَاهِدَ كُلّ مَشْهُودٍ وَمُوجِدَ كُلّ مَوْجُودٍ وَمُحْصِيَ كُلّ مَعْدُودٍ وَفَاقِدَ كُلّ مَفْقُودٍ، لَيْسَ دُونَكَ مِنْ مَعْبُودٍ أهْلَ الْكِبْريَاءِ وَالْجُودِ يَا مَنْ لا يُكَيَّفُ بِكَيْفٍ وَلا يُؤَيَّنُ بِأيْنٍ، يَا مُحْتَجِباً عَنْ كُلِّ عَيْنٍ يَا دَيْمُومُ يَا قَيُّومُ وَعَالِمَ كُلّ مَعْلُوم...)(٢٢).
بل لنا أن نقول: لا تصحّ المقايسة بين اللامتناهي والمتناهي، فمن باب التجوّز والتسامح والتقريب يمكن القول: هم نقطة في أبحر الفضل الإلهي، قال تعالى: (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) (الكهف: ١٠٩)، فالظاهر أنَّ المقصود من (كَلِماتُ رَبِّي) هي مخلوقات الله، إذ من الواضح أنَّ الله لا يتكلَّم بشقّ الفمّ وإنَّما قوله فعله وما يفيضه من وجود. فالآية أوّلاً تتحدَّث عن أنَّ عالم الوجود ليس محدوداً بما يشاهد منه أو يعلم، بل هو على قدر من السعة والعظمة بحيث لو صار البحر حبراً وكتبت صفاته تعالى فإنَّ البحر سيجف قبل أن تحصى موجودات عالم الوجود. فهي تشير إلى عظمة صفات الخالق وأنَّه لا تسعه الكلمات ولو كان البحر مداداً وجاءنا بأبحر مثله، وثانياً أنَّ كلمات الله وإن كانت لا يسعنا فهمها، ولكنَّها هي متناهية وظلّ لذي ظلّ وإن بلغت لذي ظلّ وإن بلغت من العظمة ذروتها، هذا مضافاً إلى أنَّ كمال الأنوار الذين هم خلفاؤه في الأرض هي كمال فقري مستمدٌّ من الغني المطلق، فإنَّ غاية كمال الخلق هو شدّة احتياجه للغني المطلق، وإنَّ الإذعان بذلك يدفع غائلة الغلو والشرك، لكن من جانب آخر فهو مرآة صفات الحقّ، فالخليفة هو روح الله وعبده ووجهه وبابه، وله مقامات وجودية غير قابلة للتعطيل والتوكيل، بل الإمام متصدًّ لها بنفسه سواء أكان غائباً أم كان حاضراً، فهو ليس كسائر البشر وإلاَّ لِمَ كان هو الإمام دون غيره من البشر؟ أيعقل أنَّ طريق القرعة أو الصدفة أو نحوهما هو طريق اصطفائه واختياره؟
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم عليه السلام ولا حواء ولا الجنّة ولا النار ولا السماء ولا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة؟! وقد سبقناهم إلى معرفة ربّنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه لأنَّ أوّل ما خلق الله عز وجل أرواحنا فأنطقها بتوحيده وتمجيده)(٢٣).
واستتار الإمام وغيبته لا يعني تعطيل أعماله ومهمّاته ومقاماته، فكما أنَّ الباري عز وجل لتنزّهه وسموّه لا يتصوَّر معه التعطيل عند ذوي الألباب، نعم قد يتعطَّل في العقول المحسوسة التي لا ترتضي أفقاً فوق الملموس والمحسوس، ولكن بعد قيام الدليل على وجود الإمام عليه السلام لا يضرُّ جهلنا بفائدته، كيف والحكيم القدير هو الذي أعدَّه، بل منظومة الكون قد اُسّست على أساس ومنهج نظمي معيَّن، فكما أنَّ القانون المادي محفوظ وفق محاسبة علمية مقرَّرة قد جهلها العالم آلاف السنين، فموضع وموقع الشمس من المنظومة الشمسية مثلاً محسوب بشكل دقيق بحيث بتغيّره يلزم فناء النظم، وإن كنّا نجهل ذلك، وقانون الجاذبية سر انتظام الكون، ولقد أنكره العلماء في حقب زمنية متمادية والعلم لا يزال يتقدَّم ويكشف لنا عن الرموز في العالم المادي، إذ العلوم بشتّى أقسامها وأصنافها وتشعّباتها تهدف إلى أمر واحد وهو أنَّ العالم من الذرّة إلى المجرّة عالم منسجم تسوده وتحكمه أدقّ الأنظمة، إلاَّ أنَّ العقل البشري لمحدودية ساحة مدركاته لم يكن قادراً على الإحاطة بفوائد الأشياء من جميع الجهات، قال تعالى: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (الإسراء: ٨٥).
فالمهمّ هو تبيّن دليل الوجود والتحاكم إليه، ففي هذا لا بدَّ من الاستعانة بالنقل والوسائل الأخرى لإثباته، وأمَّا ما وراء ذلك فهو من نافلة الكلام وسيأتي مزيد توضيح

العقيده المهدويه Where stories live. Discover now