البارت الخامس

63 41 3
                                    

بسم الله الرحمن الرحيم

١٤-طائفةالمؤمنين، وهي الطائفة التي نظَّمت مسيرتها الفكرية والعملية، وحدَّدت غاياتها، ورسمت طريقها، وترفَّعت عن عالم المادة والمحسوس، وعاشت في الأفق الوسيع والمناخ الطبيعي، واستنشقت من عبير عطر رسالات الأنبياء والمصلحين والأحرار، فوقَّروا العلم والفكر، وكرَّموا أهله، وعملوا به، وجدّوا في المسيرة، وترفَّعوا عن الحدود المرسومة والفواصل والحجب المانعة عن الظفر بالخير المنشود. قال تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة: ٣ _ ٥).
فوجود مثل هذه الطوائف قضيّة وجدانية فطرية لا يختلف فيها اثنان، إلاَّ إذا صار المبنى التنظير بالقيم المثالية، لئلاَّ نجرح عواطف أمّتنا ومجتمعنا، لكنّنا نريد أن نكون واقعيين ونعمل الوقاية والعلاج في الثقافة المهدوية قدر المستطاع، فنعالج ما يمكن علاجه من الانحرافات من خلال سد الثغرات، وإيجاد السبل للفهم الصحيح. وهذا يحتاج:
أوّلاً: التسليم باشتمال المجتمع على هذه الطوائف بأشكالها.
ثانياً: تحديد وتأسيس الأصل، والمرجع الذي يُلتجأ إليه عند عدم تحصيل الحلّ والجواب، والعلاج الشافي.
إذ لا بدَّ لنجاح الطبيب قبل النهوض في تشخيص المرض ومعالجته من الاعتراف بأنَّ مجتمعه حامل ومعايش للمكروب.
فعن مولانا الإمام الحجّة عليه السلام:
(قد آذانا جهلاءُ الشيعةِ وحمقاؤهم، ومَن دينُه جناحُ البعوضة أرجحُ منه)(٩).

الاصالة الاحتياط
بعد قبول هذا المقدمه الوجدانيه اشتمال المجتمع
على تلك الطوائف _، وأنَّنا نعيش مرحلة الاختبار والافتتان، وبعد ملاحظة التاريخ والإذعان بسقوط وفشل الكثير في الامتحان، ولا بدَّ من الاعتراف أنَّ الأمر صعبٌ يحتاج إلى الاجتهاد البليغ في الفهم، وإلى الذوق الحسن السليم. فأمر الدنيا بحرٌ واسع لا يقطعه كلّ سابح طامع، وهدف سام لا يُصيبه كلّ رام.
فعن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام في رواية طويلة مخاطباً هشام رضي الله عنه قال: (إنَّ لقمان قال لابنه: تواضع للحقّ تكن أعقلَ الناس، وأنَّ الكيّس لدى الحقّ يسير، يا بُني إنَّ الدنيا بحرٌ عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتُك فيها تقوى الله وحشوُها الإيمانَ وشراعُها التوكّلَ وقيمُها العقلَ ودليلُها العلمَ وسكّانُها الصبرَ)(١٠).
واتَّضح أنَّه لا بدَّ أن يندرج كلّ فرد تحت طائفة من الطوائف السابقة، بل ربَّما أكثر من طائفة سواء أقصد هو ذلك أم لا، وسواء أعلم بذلك أم لا، حيث إنَّ الإنسان لا بدَّ له من حركة وسير، ولا بَّد لكلّ حركة غاية حتَّى ولو كانت الغاية هي التقاليد والأعراف والانصياع للشهوة والتحرّك نحو ملائمات الطبع، فعن أمير المؤمنين عليه السلام في كتابٍ له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامله على البصرة وقد بلغه أنَّه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها: (فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ‏ مِنْ هَذَا الْمَقْضَم، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ، ألاَ وَإِنَّ لِكُلّ مَأمُوم إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، ألاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ. ألاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أعِينُوني بِوَرَع وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ)(١١).
فلتحقيق الغاية لا بدَّ من اختيار مدرسة فكرية وإيدلوجية خاصَّة ذات رؤية كونية جليّة تُدرس وتقيَّم ضمن أقرانها ونظائرها، وهكذا لا بدَّ من انتخاب قائد روحي وفكري يرسم طريقنا في القيم والعمل ويؤمَّن سلامة الطريق ويحفظ لنا الوصول إلى المنتهى والغاية السليمة السعيدة، ولا بدَّ أن يتَّجه الماشي ويعرج إلى الصرح المتشامخ الجلي وأن لا تخفى عن بصره الكليل نهاية الطريق.
لذا فلا بدَّ من تأسيس الأصل في تحديد الفكر وانتخاب القائد، فهل الأصل هو الاحتياط أم الترخيص؟
والحقّ أنَّ الأصل هو عدم التسليم بسهولة، وعدم التسامح وعدم الانقياد، فالأصل الجاري هو أصالة التفحّص والتحقيق والاختبار والتدقيق، وأصالة التوقّف للترويّ والتأمّل، وأصالة التفكّر والتعلّم والتحفّظ، فالأصل هو الاحتياط وليس الترخيص، والبساطة والتسامح والركون لكلّ داع، والتعجّل والذوبان السريع ورخص الثمن، فلا ينبغي له الدخول في صفقة معاوضها ومبيعها تافه أو محقَّر، وضعف بضاعة المفكّر إمَّا لوهن دليله، وإمَّا لضعف معطياته وخسَّتها، وإمَّا لموهوميّة فكره.
فعن علي عليه السلام: (كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْن اللَّبُونِ لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَلاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ)(١٢).
فلا ينفع التمسّك بسلوكية التفرّج وعدم التدخّل والتحاشي والابتعاد عن العراك، ولا ينفع طلب حركة وفكر خالٍ من رؤية كونية وبعيدٍ عن الفلسفة والتفلسف، والاكتفاء بنظرية سطحية بعيدة عن التعقيدات.
لأنَّ ما نحن فيه سلاح ذو حدّين لخضوعه لأمور متنافية، فهو لا يفسح المجال لمحض المشاهدة واللامبالاة، لما تقدَّم من أنَّ كلّ حركة وخطوة لا بدَّ لها من محرّك ووقود دافع، وهو مجموعة من الأمور الفكرية والرؤى الكونية والحالات النفسية، فتخلق هذه المجموعة منسوجاً متقارباً من الطموح واختيار الحياة وأنماطها والملبس والمأكل ونوع العلاقات والارتباطات الاجتماعية، بل الفردية أيضاً، وبالتالي فلا مفرَّ من اختيار القائد الروحي الفكري، ولا بدَّ أن يكون الاختيار وفق معايير خاصَّة ومشخَّصة، بل لا بدَّ من اختباره في مرحلة التأسيس وما بعدها وأن يكون الاختبار شمولياً، وهذا ما كنّا نعنيه بأصالة التفحّص.
ويدلّنا على هذا الأصل _ مضافاً إلى حكم العقل الفطري الوجداني فإنَّ العقلاء يلومون من يسير في وادٍ مجهول _ قولُه تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: ١٩٥)، وقوله تعالى: (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء: ٥٩)، أو قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (حلال بيّن، وحرام بيّن، وبينهما شبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتَّقى الشبهات فقد استبرى لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى، يوشك أن يقع فيه. ألا وإنَّ لكلّ ملك حمى، وإنَّ حمى الله محارمه)(١٣) فإنَّ المراد من (اتَّقى الشبهات) أي حقَّق في الحال والأحوال، أو قول أبي عبد الله عليه السلام: (لا يسعكم فيما ينزل بكم ممَّا لا تعلمون إلاَّ الكف عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتَّى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى، ويعرّفوكم فيه الحقّ، قال الله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل: ٤٣])(١٤).
فلا تجري أصالة السلامة في اختيار القائد، وفي اختيار لوحة الفكر، لاسيّما إذا كان شأن الفكر شمولياً داخلاً في كلّ حركات وسكنات الفرد، وفي جميع الأزمنة حتَّى لما بعد هذه النشأة، فالمحتمل قوي يستدعي شدّة الاحتياط.
وأمَّا ما ورد من حمل فِعل الغير على الصحَّة كما عن أبي عبد الله عليه السلام حيث قال: (قال أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتَّى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظننَّ بكلمة خرجت من أخيك سوءً وأنت تجد لها في الخير محملاً)(١٥) وغيرها من الروايات في هذا المضمون، فإنَّما يراد بها رسمُ خارطة الحياة والتنظيم على مستوى التعايش السلمي والتآخي، لا على أساس تحديد القائد والنموذج في المتابعة. فكلّ فرد لا بدَّ له من أسوة وإمام وميزان لتحديد نموذجه ومساره السلوكي، ولذا قال عليه السلام: (من هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه)(١٦) فلا بدَّ أن يستند إلى ركن وثيق.
وقد ورد في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام: (وَإِنَّمَا سُمَّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لأنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ فَأمَّا أوْلِيَاءُ اللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى، وَأمَّا أعْدَاءُ اللَّهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا الضَّلاَلُ وَدَلِيلُهُمُ الْعَمَى، فَمَا يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ مَنْ خَافَهُ، وَلاَ يُعْطَى الْبَقَاءَ مَنْ أحَبَّهُ)(١٧).
وعنه عليه السلام: (ألاَ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَألْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبَّهِمْ‏ وَجَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَمُغَالَبَةً لآلاَئِهِ، فَإنَّهُمْ قَوَاعِدُ أسَاس الْعَصَبِيَّةِ، وَدَعَائِمُ أرْكَانِ الْفِتْنَةِ، وَسُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تَكُونُوا لِنعَمِهِ عَلَيْكُمْ أضْدَاداً، وَلاَ لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً، وَلاَ تُطِيعُوا الأدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَربْتُمْ بِصَفْوكُمْ كَدَرَهُمْ، وَخَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ، وَأدْخَلْتُمْ فِي حَقّكُمْ بَاطِلَهُمْ، وَهُمْ أسَاسُ الْفُسُوقِ، وَأحْلاَسُ الْعُقُوقِ، اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلاَلٍ، وَجُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاس، وَتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى ألْسِنَتِهِمْ، اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ، وَدُخُولاً فِي عُيُونكُمْ، وَنَفْثاً فِي أسْمَاعِكُمْ، فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ، وَمَوْطِئَ قَدَمِهِ، وَمَأخَذَ يَدِهِ...)(١٨).
وعنه أيضاً عليه السلام: (ألاَ وَإِنَّ أخْوَفَ الْفِتَن عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَني اُمَيَّةَ)(١٩)، والظاهر أنَّ المراد من فتنة بني أميّة معالمُ هذه الفتنة المتحقّقة في كلّ عصر، فتشمل فتنة بني العبّاس أيضاً.
ولقائل أن يقول: إنَّ كثيراً من الناس ليس له تصوّرٌ ورؤية فلا يحتاج إلى تأسيس الأصل وإتعاب النفس وإرهاقها، وصرف العمر في مثل هذه الأمور.
ولكن ذلك لا يأتي، لأنَّا نرى أنَّه حتَّى هؤلاء لهم منهج، وهو عدم الاهتمام بما وراء الغيب، وعدم التأمّل في إعداد زاد السفر، والمكث إلى المحسوس وطلب العاجلة وترك الآجلة، وإشباع الغرائز الحيوانية الشهوانية، قال تعالى: (إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَْنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان: ٤٤).
وبكلمة لا يشذُّ عنها أحد قطّ، إنَّه ما من أحد إلاَّ وله رؤية وفلسفة وقواعد فكرية وإن لم يصرّح بها، أو خادع نفسه بعدمها، قال تعالى: (بَلِ الإِْنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (القيامة: ١٤ و١٥).
وبهذا اتَّضح أيضاً أنَّ فلسفة البعض القائمة على أصالة الطوبائية واستحسان الأفكار المتضادة والقيادات المتناحرة مردّها إلى أصالة التسامح وخمول الفكر وعدم إتعاب العقل، وإلى الزهد في حديث الآخرة وعدم تكيّف النفس على قبول ساعة الحساب والجزاء، ومؤشّر ذلك أنَّهم لا يُجرون هذه القواعد في أمورهم الدنيوية، فإزدواجية المعيار بين النشأتين _ بأن يعملوا تمام العناية والدقّة في الأمور الحقيرة من أمور الدنيا، مع عدم الخوض في جزء من معرفة مصير الآخرة _ كافية عندهم في الخوض في المسلك الانحرافي الشططي، فعن مسعدة بن زياد، قال: سمعت جعفر بن محمّد عليهما السلام وقد سئل عن قوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (الأنعام: ١٤٩)، فقال:: (إنَّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنتَ عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملتَ بما علمت؟ وإن قال: كنتُ جاهلاً، قال له: أفلا تعلَّمتَ حتَّى تعمل؟ فيخصمه، وذلك الحجّة البالغة)(٢٠)، فإنَّ مخاصمة الله للعبد غير المتعلّم دليلٌ على وجوب المعرفة وعدم معذورية الجاهل.

... يتبع

العقيده المهدويه Where stories live. Discover now