البارت الرابع

84 48 11
                                    

بسم الله الرحمن الرحيم

* *
القسم الأوّل: تأسيس الأصل

تمهيد: طوائف الناس في المجتمعات.
الأصالة للاحتياط.
تمهيد: طوائف الناس في المجتمعات:
هناك قضية بديهية وجدانية وهي أنَّ الناس في كلّ مجتمع وعصر يصنَّفون إلى طوائف:
١ _ طائفة السُذّج، وهم بسيطوا الفكر، إذ ليس لهم بضاعة فكرية يلجُون بها ساحات الفكر، فعن علي عليه السلام: (الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كلّ ناعق...)(٢).
٢ _ طائفة الحمقى، وهم الذين يظنّون أنَّهم يحسنون صنعاً، فحركاتهم العملية والعلمية ليست قائمة على أسس ومناهج عقلائية، بل هم إلى النهج السفهي أقرب، فإنَّهم فضلاً عن عدم استجلاب ربح يستجلبون ضرراً عليهم أو على غيرهم، قال الباقر عليه السلام: (يا عبد الله بن عطاء قد أخذت تفرش أذنيك للنوكى _ أي شرعت تفتح وتبسط أذنيك للحمقى تسمع منهم _)(٣).
٣ _ طائفة أصحاب الجهل المركب، وهم الذين يكثرون في قطوعاتهم غير المصيبة للواقع، فيرون أنفسَهم أنَّهم تزيّوا بزيّ العلم وهم أقرب إلى الجهل والخطأ منه إلى الواقع، ولا يرتضون لأنفسهم أنَّهم قد أخطأوا، بل تأخذهم العزّة بالإثم، لأنَّه لازم لا ينفك عن هذه الطائفة، فتكون حركتهم العملية الخارجية على وفق ما هو المحفوظ في أذهانهم من الجهل. قال تعالى: (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الأَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ * وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِْثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (البقرة: ٢٠٥ و٢٠٦).
٤ _ طائفة المستضعفين، وهم المسلّمون للواقع الاجتماعي الخارجي الفاسد، وينعقون مع كلّ ناعق، وأتباع كلّ مذهب، فنهجهم التسليم للآخر من دون الوقوف على حقيقته، قال تعالى: (وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنينَ * قالَ الَّذينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى‏ بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمينَ * وَقالَ الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ في‏ أَعْناقِ الَّذينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (سبأ: ٣١ _ ٣٣).
٥ _ طائفة التقليديين المتعصبين، وهم الذين انقادوا لتعصّبهم وولائهم الأعمى للآخرين المقتضي لتقليدهم والترويج لهم والذوبان فيهم، والعبودية الكاملة لكبرائهم، أعمّ من أن تكون نكتة التقليد تعصّب العشيرة أو التعصّبات القبلية والقومية والفئوية ونحو ذلك، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: (ألا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَألْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبَّهِمْ،‏ وَجَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ...)(٤).
٦ _ طائفة المعاندين وأصحاب اللجّة ممَّن لا يُجدي الإنذار معهم، فليس لهم همٌّ إلاَّ مخالفة الآخر، ولم يكن مقصودهم كشف الحقّ، بل ليس لهم منافع سوى إرادة الظهور من خلال: (خالف تُعرف)، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة: ٦).
٧ _ طائفة الماديين والشهوانيين وطلاّب الدنيا ممَّن لم يكن لهم غرض إلاَّ النفعية الحيوانية الدنيوية، وهم لأجل الوصول إلى هذا المقصد مستعدّون ليسلكوا أيّ سبيل كان، فلا تحكمهم المعايير ولا تضبطهم المقاييس، بل أصبحت المدرسة النفعية الآن ذات أسسٍ إدراكية وأدلجةٍ فكرية، بل لم يكن لدُعاتها أدنى استحياء في عرضها، بل المعروض في ساحة القيم أسوأ من ذلك بكثير، فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (ليغشينَّ أمّتي من بعدي فتنٌ كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيعُ أقوامٌ دينَهم بعرضٍ من الدنيا قليل)(٥)، قال تعالى: (وَما أَرْسَلْنا في‏ قَرْيَةٍ مِنْ نَذيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ * وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبينَ) (سبأ: ٣٤ و٣٥).
٨ _ طائفة الاُحادية والاستحواذ الفكري، وتهميش وإلغاء فكر الآخر، فهم لا يأذنون للآخر في الحديث، ويسدّون الأبواب عن الحوارات العلمية، ويرون لأنفسهم أنَّهم يملكون كلّ شيء بما في ذلك فكر الآخر، بل يسعون لرسم مفردات فكر الآخر وكيف يفكّر، ويلزمونهم بأن لا يتعدّوا ولا يتجاوزوا ذلك، قال تعالى: (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً * وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) (نوح: ٥ _ ٧).
٩ _ طائفة المنافقين، وهم الذين يحملون المعايير المزدوجة، فخطابهم غيرُ واقعهم، ويضمرون في قلوبهم غيرَ ما يظهرونه على ألسنتهم، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة: ٨)، وقال تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (البقرة: ١٨).
١٠ _ طائفة المتخبّطين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهم المتذبذبون، فكلّ يوم يصطفّون في معسكر، فلم يكن لهم مسيرة محدّدة فضلاً عن أن تكون لهم بداية معيّنة ونهاية معلومة، وبهذا لم يكن لهم ميزان في المتابعة والملاحقة فلم يستضيؤوا بعلم ولم يسيروا على منهج، فيزدادون ضلالاً كلَّما مشوا، (مُذَبْذَبينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ وَلا إِلى‏ هؤُلاءِ) (النساء: ١٤٣).
١١ _ طائفة الإيغال الفكري العبثي، الذين لا يحملون هاجساً وهمّاً إلاَّ الفكر، فلم يدرسوا الفكر لأجل الواقع، وإنَّما درسوا الفكر للفكر، فهمّهم المصطلحُ والعنوانُ لا الواقع والمعنون، فيفترضون فروضاً علمية هي أقرب إلى الخيال الموهوم منه إلى الحقيقة والصواب، فليس مقصودهم بيان المعالجات وحلّ المشكلات، وإنَّما مقصودهم زيادة الشكوك والفروض، والإكثار في بيان الفكر الفارغ المنطلق من الذهن البارد ذي الجسد الخالي من الروح، فقد جاء في شرح الأسماء الحسنى للملاّ هادي السبزواري: (فانحراف القوّة الدرّاكة منه إلى جانبي الإفراط والتفريط يسمّى جربزة وبلاهة واعتدالها حكمة...)(٦)، وقال في الأسفار: (ومن أتمّ حالات النفس الشيطانية أن تكون مكّارة محيّلة جربزة كذوبة مظهرة للأمور على غير ما هي عليه، شأنها التدليس والتلبيس بإبراز المقدّمات الباطلة في صورة الحقّ، وإظهار الأكاذيب الواهية بهيأة الصدق، فهي أبداً عاشقة للمكر والحيلة والوسوسة والمواعيد الكاذبة والأماني الباطلة، كما قال تعالى في صفة الشيطان: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً) [النساء: ١٢٠])(٧).
١٢ _ طائفة السوفسطائيين، وهم الذين لا يرون وجود واقع وثبات قيم أو أنَّ الحقّ عندهم أن يكون الحقّ متغيّراً، فلا حقيقة ولا صواب ولا واقع، فواقعيّة الواقع عندهم أن لا واقع له، فالذي لا يرى أن يكون لنفسه حقّ وواقع فبطريق أولى أن لا يرى لفكره حقّاً وواقعاً. فهم اعتبار ووهم وظلّ وخيال، فقد نقل العلاّمة المجلسي رحمه الله قول الشيخ الرئيس الآتي: (... لأنّا لو جوَّزنا أن يرى الإنسان صوراً ويشاهدها ويتكلَّم معها ويسمع أصواتها ويرى أشكالها ثمّ إنَّها لا تكون موجودة البتة في الخارج، جاز أيضاً في كلّ هذه الأشياء التي نراها ونسمعها من صور الناس والجبال والبحار وأصوات الرعود أن لا يكون لشيء منها وجود في الخارج، بل يكون محض الخيالات ومحض الصور المرتسمة في الحسّ المشترك، ومعلوم أنَّ القول به محض السفسطة)(٨).
١٣ _ طائفة العبيد، وهم الذين يرون كمالهم أن يكونوا خدماً وأذرعاً للآخرين، فهم الأسوء في نوعهم، إذ أنَّ محرّكيتهم وباعثيتهم في أفعالهم الخارجية عبوديتهم لغيرهم، فصاروا محرقة ومطحنة ووقوداً لدنيا غيرهم، قال تعالى: (وَإِذا قيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى‏ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (المائدة: ١٠٤).

١٤ _ يتبع.......

العقيده المهدويه Where stories live. Discover now