تكلمة الفصل 3ُ

3.8K 115 7
                                    

أنتما الاثنان – صات عليهما – إنكما تسببان لنا الإزعاج!!

صمت أيوب قليلاً ثم قال معتذرا وهو ينهض:
لم أكن أقصد إزعاجكم في هذا الوقت المتأخر على كل حال
اتجه نحو الباب وقبل أن يغادر أوقفه بحر معتذراً:
آسف كان يجب علي أن لا أشركك في هذا الأمر منذ البداية
– الأصدقاء ليسو في حاجة للإعتذار يا صديقي – رد أيوب بكياسة ثم تابع: كنتُ أعلم سلفاً أعرض حياتي للخطر، ومع هذا اخترت أن أقف معك.

   حرر أيوب المزلاج الحديدي للباب ولكنه قبل أن يدفع بجسده للخارج، التفت نحو الطفل مبتسماً وقال:
يا لك من قملة صغيرة مزعجة!!

                                  * * *

   كانت ليلة قارسة البرودة حالكة الظلام وحده شعاع القمر الناعس المُرهق هو من كان ينير تلك البقعة من كوكب الأرض، أراد بحر الدخول لغرفة نوم زوجته غير أن الطفل وقف أمامه معترضاً طريقه:
أذهب إلى غرفة أخرى هنا انام أنا وأمي فقط!!
فقال بحر محاولاً تقديم رشوة لذلك الحارس العنيد:
سأشتري لك حماراً مثل بقية الأولاد إن سمحت لي بالدخول . لم يتكلم الطفل..
سأشتري لك ثياباً جديدة لو أنك ابتعدت!!
لم يتكلم أيضاً
سأقوم برسمك لو أنك نفذت ما أطلبه منك!!
– هل تعرف حقاً؟!
– ألم تخبرك امك بأنني أجيد الرسم؟!

   كان الطفل مسحوراً بفن الرسم وكان يرسم من وقت لآخر بعض الرسومات على ورق البَردي مستخدماً الفحم والريشة و أدوات الحبر وكانت جومانا – على الرغم من سوء رسماته _ إلا أنها تشعر بالكثير من الرضاء، عندما تشاهده يمارس تلك الموهبة التي تذكرها بوالده.
هاه ماذا قلت؟! هل أنت موافق؟!
   نسى المقابل الذي يجب عليه دفعه مقابل الرسمة
نعم نعم أريدك أن ترسمنيهتف بحماس.
– سأفعل ولكن بعد أن تسمح لي بالدخول!!
– أوه لا – قال متذكراً وهو يستعيد عناده – أنت لن تدخل هنا أبداً !!

    أطال بحر النظر في عينيَّ ابنه البُندقيتي اللون واللتين وشبهات كثيراً عينيّ زوجته محاولاً أن يقرأ فيهما طريقة يستطيع من خلالها الدخول للغرفة، وقد كان مستعداً لأن يستمر طويلاً في عمليات التفاوض تلك لوقت طويل ولكن جومانا التي أزاحت ستارة النافذة وظهرت له من خلف الشباك أومأت له برأسها تخبره بأن لا يتعب نفسه؛ فالطفل يراه شخصاً غريباً وهو لن يسمح لشخص غريب بالنوم في فراش أمه.

                                * * * 
في الصباح:
   كان الطفل يغط في نوم عندما نهضت والدته من جواره وجعلت تتسحب بهدوء لخارج الغرفة..
وعندما تأكدت من أنها أصبحت في أمان وأن ابنها لم ينتبه على حركتها أكملت طريقها نحو غرفة زوجها مشياً على أطراف أصابع قدميها.. لم تكن تعلم إن كانت ستجده مستيقظاً أم أنه لا يزال نائماً؛ لذلك فضّلت أولاً أن تلقي نظرة عليه من خلال النافذة لتتحقق.. وعندما فعلت وجدته يضع لمساته الأخيرة على ثيابه وهو ينظر إلى نفسه من خلال انعكاس  المرآة المتسخ سطحها بالغبار، فعرفت أنه كان يستعد للرحيل مرة أخرى.
   لم ينتبه إليها في بداية الأمر ولكنه عندما انتهى من وضع اللمسات الأخيرة على ثيابه واستدار لينصرف وجدها تنظر إليه من خلال النافذة وما إن التقت العين بالعين حتى سقطت أول دمعة من عينيْها، ورغم أن حائطاً وبالاً كانت تفصل بعضهما عن البعض إلا أنه خُيل إليه سماع صوت ارتطام دمعتها بالأرض.

   فتح الباب واتجه نحوها بمزيد من الحذر لكي لا يكتشف الطفل الأمر توقف أمامها مباشرة تاركاً بينه وبينها مسافة قُبلة، رفع وجهها الحزين الناعم بيده الخشنة وراح يتأمل في عينيها البُندقيتي اللون واستطاع رغم الدموع المحتشدة فيهما قراءَة هذه الجملة، والمكونة من ست كلمات:
            «ابقى ففي رحيلك لا أمان لنا»

    تجاهل تلك الكلمات الست المكتوبة في عينيها وقال:
هل تعلمين بأنك ثاني أجمل امرأة رأيتها ؟!
قالت وبغيرة وقد ازداد حزنها:
–ومن عساها تكون الأولى؟!
أجاب مبتسماً:
– أنتِ – صمت قليلاً ثم أضاف: ولكن عندما تبتسمين!!
ابتسمت واختفى بريق الحزن من عينيها :
– لقد اشتقت إليك يا بحر – اعترفت بلهفة.
– وانا اشتقت إليك أيضاً – ثم تنفس ملء رئتيه وأضاف : مازالت رائحة الياسمين تنبعث منكِ!!
– أنا بستان الياسمين الذي تطاردك رائحته أينما ذهبت وتعيدك إليه مكبلاً مثل أسير حرب... أتذكر؟!
وهو يبتسم لها بحنو:
أنا دائماً أذكر
    كانت رائحة زهرة الياسمين تنبعث دائماً وبطريقة سرية من جسدها وكان بحر وبطريقة غامضة يستطيع التقاط تلك الرائحة حتى وهو في أقاصي الأرض، وعندما كان يعود إليها في كل مرة فإنه يقول:
في الغياب كانت رائحتك تصلني يا جومانا
وعندما كان يشاهد في عينيها دهشة الأطفال يبتسم ويضيف:
أنتِ بستان الياسمين الذي تطاردني رائحته أينما ذهبت ويعيدني إليه مكبلاً مثل أسير الحرب.
 
ثم وبينما كان يقفان في ساحة البيت الداخلية يتذكران تلك الأيام البعيدة إذ مدت يداً مرتعشة أمسكت بها زوجها من ثيابه السوداء، بالقوة ذاتها التي أمسك الطفل فيها خصلة شعرها النافرة عندنا حملته بين يديها لأول مرة.

     كانت جومانا فتاة طاغية الجاذبية للحد الذي جعل بحر يجد صعوبة بالثبات متوازناً في مكانه عندما شاهدها لأول مرة: عيناها البُندقيتا اللون وشفتاها البارزتان وأنفها المستقيم ووجها الابيض المرقط بحبات النمش الخفيفة المنتشرة على وجنتيها وأجزاء معينة من رقبتها كل ذلك كان يجعل من جمالها شيئاً نادراً... لها جسد نحيل يبرز منه صدر نافر مستدير يشبه فاكهة شمام ناضجة وتملك شعراً رمادي اللون طويل عندما تجعله مسترسلاً فوق كتفيها، تصبح كما لو أنها فتاة من السماء تُلقي على الأرض نظرة من وراء سُحب الليل الرمادية المتراكمة...

    أمام سطوة زوجها اخفضت جومانا خطوط دفاعاتها تماماً، اقترب بحر منها أكثر حتى بات يستطيع رؤية نفسه في حدقتي عينيها، تخالطت أنفاسهما ببعض حتى أصبح كل واحد منهما يتنفس زفير الآخر، ولكن قبل أن يضع قبلته عليها:
أنت – صرخ الطفل من ورائهما – ابتعد عنها !!

     ثم انحنى ملتقطاً فردة حذائه وراح يركض باتجاه والده والذي ما أن رآه حتى هرب نحو الباب... ازال المزلاج والتفت نحو زوجته ليلقي عليها نظرة الوداع فوجدها تضع يدها عند فمها وتضحك... ابتسم سعيداً من أجلها ثم وقبل أن يكمل هروبه وأجابها على تلك الجملة التي قرأها في عينيها والمكونة من ست كلمات:
لا أخشى عليكِ مغبة رحيلي وإلى جانبك هذا المفترس .

يتبع....

انتهى الفصل الثالث .. فوت وكومنت لنشر الفصل الرابع
                          

ابابيل Where stories live. Discover now