Part 8

2K 71 1
                                    

     ظنت جومانا أنه مهما كان ابنها غاضبا منها فإنه سيعود إليها قبل غروب الشمس… ولكن الشمس غربت من أكثر من خمس ساعات ولم يعد، فبدأ وجهها أكثر شحوبا وأصبحت نظراتها شاردة كمان لو أنها سوف تصاب بعد قليل بالعمى… مالذي أصابها حتى تصفعه على وجهه وتطرده خارج البيت بتلك الطريقة؟! هي إلا تملك إجابة عن تلك الأسئلة التي تدور في عقلها، ولكنها كانت تعرف شيئا واحداً فقط و هو أنها أصبحت شخصا آخر عندما بدأ قلبها يشتعل بالغيرة …
 
     وبينما كانت مشغولة بالبكاء والندم على ما فعلته به لم تنتبه جومانا، إلى صرير مفاصل باب البيت وهي تطلق أنّة خفيفة تشي بأن أحدهم قد جاء… ثم فجأة امتدت يد في الهواء وربتت على شعرها الرمادي الناعم:
لا تبكي
   رفعت رأسها ونظرت نحوه بندم:
آسفة لم أكن أقصد أن …
  أغلق فمها بيده الصغيرة العابقة برائحة الدموع و التراب و الحزن:
أنتِ أجمل منها – قال الطفل – أنت أجمل أم في الدنيا كلها !!
– مالذي أفعله لكي تسامحني؟!
– قصة – قال مبتسما ثم مد يده كي يساعدها على النهوض : اتفقنا؟!
– اتفقنا – قالت وهي تمسك ذراعه وتستعين بها لتنهض

  ولكن قبل أن يذهبا لغرفة النوم توقف الطفل مكانه وقال:
هناك شئ آخر أريده منكِ يا امي
– أي شئ لأجلك!!
– أريدك أن تنسيه – ثم أضاف بصوت جاد: أعني بحر
  جلست على ركبتيها حتى تصبح في مستوى طوله، وقالت:
والدك في خطر وهو بحاجة للمساعدة!
– أي خطر؟!
– لست متأكدة – قالت بتردد
  ورغم أنه لم يكن يحب والده إلا أنه أيضا لم يكن يتمنى له الشر :
إذا دعينا نذهب إليه حتى نرى ما به!!
– لقد تأخر الوقت… سننام وعندما نستيقظ نذهب إليه، اتفقنا؟!
– اتفقنا – قال.

     كانت جومانا في تلك اللحظة تشعر بالضعف أكثر من أي وقت مضى، مشتتة هي بالأحداث التي تدور حولها تخاف من كل شئ وليست واثقة من قدرتها على الصمود أو كتم الأسرار في صدرها، تشعر بأنها تائهة في فضاء مظلم حيث لا إنارة ولا إشارة تهتدي بها للطريق الصحيح، تتمنى من كل قلبها لو كان بإمكانها وضع حد لكل الأشياء التي تحيط بها، نظرت نحو ابنها وقالت :
– احضر لي بعض الماء ثم تعال لأحكي لك قصة.

  ذهب إلى المطبخ، أمسك بجهل جرة الماء البُنية التي كانت الساحرة أيار قد وضعت فيها السُم، ثم صب الماء لوالدته منها وعاد ليعطيها الكأس، وهو لا يعلم بأنه كان يقدم لها الكأس الأخيرة!!

                              * * *

     وعندما أفرغت والدته كأس الماء في جوفها، سألها ببراءة:
هل أحضر لك المزيد؟!
   ردت وهي تمسح فمها بكف يدها:
لا، هذا يكفي
   ثم ولأن موعد النوم اقترب فإنها قالت:
هل أنت مستعد لسماع القصة؟!
– ليس قبل أن أطفئ قناديل الحائط وأغلب الأبواب و النوافذ
  أما جومانا التي بدأت تشعر بزوبعة خفيفة تدور في رأسها، فإنها قالت لطفلها قبل أن يغادر:
لا تتأخر
      حين عاد إليها بعد أن أكمل مهمته التفقدية على مرافق البيت، وجدها ممددة فوق فراش النوم تمسك بطنها بكلتا يديها، وتتألم بشدة سألها :
– ما بكِ، هل تشعرين بالتعب!؟
   ولأنها لم تكن تريده أن يقلق عليها فإنها أبعدت يديها من عند بطنها، واستوت في جلستها متكئة بظهرها على حائط الطين الذي اتكأت عليه عندما حملته بين يديها لأول مرة، صنعت على وجهها المُرهق ابتسامة زائفة، وقالت:
لا تقلق أنا بخير هل أنت مستعد لسماع القصة؟!
   تمدد بجوارها مثل جرو صغير يتمدد بجوار المدفأة في ليلة شتائية:
مستعد أكثر من أي وقت مضى – قال بحماس
  بدأت جومانا قصتها :
– منذ وقت طويل… طويل جداً… كان هناك طفل صغير، وأم تحبه… تحبه جداً، كانا يعيشان في كوخ بعيد، بعيد جدا، ذات يوم رحلت تلك الأم عن ابنها الصغير، وتركت له عند صديقتها سرا خطيراً، خطير جداً…
    نظرت لعيني ابنها وسألته كمعلم يختبر تركيز أحد طلابه:
ماذا تركت تلك الأم لطفلها الصغير ؟
– تركت له عند صديقتها سرا خطيرا… خطيرا جدا…
– أنظر إلى عيني وأعد علي القصة – قالت وقد بدأ مفعول السم في الظهور
– أنت تتعرفين – همس بخوف وهو يمد يده إلى جبينها، ثم أضاف: جبينك ساخن
  وهي تبعد يده عن جبينها:
لا تهتم… أنظر إلى عيني وأعد علي القصة
  وهو ينظر إلى عينيها:
منذ وقت طويل… طويل جدا… كان هناك طفل صغير – صمت
– أكمل،لماذا سكت ؟!
   اكمل ببطء وتروَّ محاولا أن يتذكر تفاصيل القصة:
كان هناك طفل صغير… وأم تحبه… تحبه جدآ، كانا يعيشان في كوخ بعيد… بعيد جدا، ثم ذات يوم رحلت تلك الأم – تردد قليلا وكأنه نسي المقطع القادم، فساعدته جومانا خامسة وهي تهز رأسها:
– رحلت تلك الأم عن ابنها الصغير، هاه وماذا بعد؟!
– آه تذكرت… رحلت تلك الأم عن ابنها الصغير، وتركت له عند صديقتها سرا خطيرا… خطيرا جدا!!
  أعطته قبلة على جبينه مثل مكافأة ثم قالت:
لن تنسى هذه القصة يا صغيري أليس كذلك؟!
– لن انساها – همس بحيرة
  ثم ولأن جومانا لن تقل هذه المرة جملتها الختامية والتي يفهم الطفل من خلالها أن القصة انتهت، وأن موعد النوم حان فإنه قال باستغراب شديد:
– هل انتهت القصة؟!
– لا ، لم تنتهي
– أكملي إذا!!
– ستكملها انت يوماً وتصنع نهايتها بنفسك…
– لا تُجهدي نفسك ترتاحي الآن
  صحيح أن بطنها كانت تؤلمها وكانت تشعر بأن هناك سكاكين حادة تنغرس في جدار معدتها ولكنها تظاهرت بأنها بخير لكي لا يصاب ابنها بالجزع، أغمضت عينيها وهي لا تزال تتكئ بظهرها على حائط الطين:
هل تحبين بحر يا أمي – فاجأها بسؤال مباغت
– لا…، لا أحبه!!

    همست بتردد ثم مددت جسدها على فراش النوم، فذهب لكي يجلب لها وسادة يضعها أسفل رأسها ولكنه عن غير قصد جلب لها الوسادة البيضاء ذاتها التي كانت تعبق برائحة والده، وما أن دسها تحت رأس أمه حتى التقط أنفها رائحة زوجها العابقة فيها فمررت أطراف أصابعها على ظهر الوسادة، كما لو أنها تتخيل نفسها تصافح صدره ثم تمتمت بهمس خافت:
ها أنت ذا جئت يا بحر لقد اشتقت إليك كثيراً، للتو سألني الطفل إذا ما كنت أحبك أم لا، قلت له: «لا» حتى لا أثير حفيظته بينما في الحقيقة كنت أقصد ألف ألف نعم !!

    حين استيقظ من نومه مساء اليوم التالي وجد أن والدته على غير العادة لا تزال نائمة فلم يشأ أن يوقظها من نومها، وقرر أن ينتظر بجوارها في صمت حتى تفيق من تلقاء نفسها، ولكن غروب الشمس قد اقترب ومر الكثير من الوقت جوماناخلم تستيقظ بعد فسأل بشك:
– أمي!!؟
     وعندما لم تجب على نداءاته المتكررة، أزال الغطاء عن وجهها فشاهد شيئا غريباً: كان وجهها قد أصبح شاحبا تحيط به هالة زرقاء اللون، وهناك زغب خفيف عن زاوية فمها، وحين وضع أذنه عند صدرها لم يستمع لصوت دقات قلبها… انتابه الخوف فوثب قائماً وهو يقول:
– يجب أن يأتي الحكيم لرؤيتك !!

   يتبع…
تصويت ومتابعة للبارت 9

ابابيل حيث تعيش القصص. اكتشف الآن