بداية الرحلة

994 112 101
                                    


    خيوط من ضياء أبيض تسللت عبر الغيوم، لتحط على أشراف مدينةٍ لم تختلف عن غيرها من سائر المدن، زقزقة عصافير فوق أسلاك الهاتف تطن، مزعجة بعض قاطني الحي، كما أزعج طنين الهاتف صديقنا الرّاقد أسفل تلك النّافذة المظلمة، ليفتح على إثر ذلك الإزعاج سوداويتيه، مستقبِلًا صباح يومٍ غائمٍ جديد.

     فاستقام بعدما جلس على السّرير، وَأزاحَ تلك السّتائر عن زُجاج نافذته ناظرًا لمَا خلفَها مِن غيومِ السّماء، ثم تحرّك ببطءٍ ممسكًا هاتفه ذا الطّنين، ليُسكته ويبدأ في تصفح مواقع التّواصل كما يفعل عادة صباحَ كُل يوم، وإذْ بمقلتيه تقعُ عَلى عدة محادثات، ترأّس موضوعها اسمٌ واحدٌ فقط، وَقد كان «بقدونس» أو كاتبُ روايةِ "الجرجير" الذي وكَما فهمَ من أولئكَ المادحين أنّه قد  أبدع في كتابِه الأخير ذاك.
    فتبسّم صديقنا ضاحكًا من كل هذه الترّهات، مدركًا تمامَ اليقين سُخفَ تلكَ الرّواية، كمَا ابتذال كاتبِها المدعوِّ "بقدونس".

    رمى الهاتفَ مسترسلاً خطواتهِ في سبيلِ إكمالِ روتينهِ المعتاد، وكم سببت سيرةُ البقدونس ذاك لعقلهِ إزعاجاً استمرّ طوال تلكَ اللحظات، حتى بعد نزولهِ الدّرج، وجلوسه أمام التّلفاز في محاولة تغيير هذا الجو الغريب بسماعِ بعضِ الأخبار السّياسية التي يهواها فكرّه.
    لكن، ويالَ مساوئِ الصّدف، إذْ حتّى القنوات الإخبارية لم تغُضّ بَصرها عن هذا الكاتبِ المبتذل، بل قامت باستضافتهِ عندها، مادحةً إياه على ما كتب من إبداع، سائلةً إياه سؤالا كان له شأنٌ في تغيّرِ ملامحِ صديقِنا فاحِم الشعر، حين قالتِ المذيعةُ له:
«سيد بقدونس، قل لنا كيف أتيتَ بفكرةِ روايتك هذه؟»
   عبوسٌ خالطه غضبٌ طفيف، وخيبةُ أملٍ علَت معالم وجهه العابِس، ليقول بصوتٍ أجشّ نَافَسَ الهمس هدوءًا:
«متى بات الأدبُ غبيًا ومبتذلًا هكذا؟ أنّى لشخصٍ مثله أن تتم استضافته؟»
تلك الأسئلة الّتي طرحها أعرَبت عن إنكارهِ لما رأى وسيرى من كتاباتٍ رديئةٍ تلقى مديحًا ليس من حقّها، غيرَ أنه سُرعانَ ما نفضَ تِلك الأفكار حتّى لَا تُعكر صَفْوَ يومهِ الجميلِ.

    على إحدى الطّاولات الخشبية أمامَ مقهى من مقاهِي ذلك الحيِّ البسيطِ، جَلس صديقُنا أفحمُ الشّعر فَوقَ كرسي مَاثلَ الطَّاولةَ قُبالته لَونًا وقِدمًا، وبعضُ  التَّشَقُّقَاتِ الصّغيرة زينتْ سَطحهُ الأملس التَّلِيد، كَما نظيراتِه مِنَ الخشبِ.
يحتسي كوب قهوةٍ بيمناه، ويسراه احتضنتْ جريدةً كَان قد اشتراها قبل جلوسه بوقتٍ ليس ببِعيد، وبينما تلتهمُ سَوداوتاهُ كلمات تلك الصّحيفة، وقع نظره على سطر بخطّ أغمق من غيره توسعتْ على إثرهِ مُقلتاه، مُتصنمًا بعضًا من الزّمن يُعيدُ ما قرأ عدةَ مرات، وإذْ بأَماراة وجهه ِتوُحي بِغضبٍ مَازجهُ اِنزعاج شديد حِين قالَ بصوتٍ مسموع مَا كان سابقًا يرنُو إليه للحظات:
«فازت رواية -الجرجير- للكاتب -بقدونس- بجائزة العام للكتّاب المبدعين؟»
رماها بعدما أنهى جملته ليهمّ بالذهاب، فذلك الخبرُ قد زادَ مِزاجهُ تعكيراً فوقَ تَعكير.

    وإِبَّانَ مَسيرهِ بينَ أرجاءِ حديقةٍ خضراء كَانت قَد توسطتْ حي مسكنه السابق، وبينما كان منهمكًا في البحثِ عَن شيءٍ يُجذل مِزاجه الكَدِر مُقلبًا عَينيهِ فِي كلّ اتجاه، حَطَّت بِه رجلاه أمام لوحةٍ كبيرةٍ خُطَّ عَلى سطحها كلماتٌ ذهبيةٌ لامعة، حَملتْ مَعنًى جَليًا، ليفيض صَبرُ صديقنا حين تلفظَ بِه فاهُه دونَ وعيٍ مِنه:
«تجمُّعُ مُعجبِي الكاتبِ بَقدونس»
مَا سبق لم يكن كلّ شيءٍ، فخلفَ تلكَ اللّافتة صفٌّ طويلٌ تمركزَ فِي نهايتهِ طَاولة يَجلسُ عَليها صاحبُ الشّأْن «بقدونس»، يَقومُ بالتوقيع تارةً، ويلتقطُ له أحد المعجبين صورةً مع كتابهِ تارةً أخرى، ومن تلك الزّينة المحيطة بالمكان، تبيَّنَ أنه حفل قد أُقيمَ على شرفه بمناسبةِ كتابهِ الشهيرِ.
بخطواتٍ أثقلتها خَيباتُ الأملِ سار حيثُ منزله يَقبع، متسائلًا عن حالِ الأدبِ فِي هذه الأيامِ.

    وبعد ذلك اليوم الطويل، بدأت شهرةُ ذاك الكاتب في الازديادِ يومًا بعد يومٍ، حتى بَاتَ مِن أهمِّ الكُتَّابِ في العالم، يَحظى بشُهرةٍ تسبقه هو وكتابه المبتذل، فلا تكادُ صحيفةٌ تخلو من اسمه في أحد عناوينها، ولا تكاد قناة إخبارية إلا واستضافته عندها، مدلية بأسئلة متكررة عليه، حتى حفظ المشاهدون جوابها قبل أن يقوله بقدونس نفسه.
   وعلى ذكر القنوات الإخبارية والتّلفاز، ها هو ذا أسود الشعر على الأريكة قُبالة تلك الشاشة يرنو إلى ما يعرض فيها بيأسٍ خالطه غضبٌ شديد، مشمئزٌّ هو من كل هذا، وكرهه لتلك الكتابات المعطوبة يتضاعف في كل يوم،  حتى عزم لحظة وقوفه بشيء وحيد، وهو تغيير هذه الكتب المبتذلة، من أجل الارتقاء بالأدب، واندثار كل ما ينافيه من ترهات، كروايةِ الجرجير مثلا.
    أدخل يده في جيب بنطاله مخرجًا إياها بعد برهة ليرى ما فيها، وإذ به نردان بستة أوجهٍ مربعة.
ثم تحرك قاصدًا مكتبته القديمة بخطواتٍ متتاليةٍ على عجل، حتى وصلها ليلتقط كل كتابٍ نافسَ رواية "بقدونس" سوءًا وعطبًا، وبعدما جلبها كلها أمام ناظريْه، أخذ يُرقم غلاف كل واحدةٍ منها برقم مختلف عن غيره.

    تثاءب طويلا وقد أدرك أن طاقته لهذا اليوم قد استنزِفت، ليقرر الخلود إلى النّوم بعد أن رمى النّرد واطلع على كتابه المختار الذي سيبدأ معه رحلته الشّاقة في كسر قيود الابتذال مع صباح الغد، فوقت التغيير قد حان، فلا مزيد من شهرة فارغة، ولا مزيد من ابتذال سخيف، فدعم الابتذال سيتوقف بعد هذا اليوم.

     وهنا كان صديقنا ملهم قد خطا أول خطوة نحو التغيير، فدعونا نشاهده عن كثب لعل ما يفعله يعجبنا.

-كانت معكم رَحِيـل، انتظروا فصولنا القادمة أعزائي، فمن يعلم ما المفاجأة التي نحملها لكم بين طيات فصولنا؟

خلف باب الرداءةWhere stories live. Discover now