اِنتحار المنطق

201 35 38
                                    

اجتمع أولئك الخمسة في مقرهم منتظرين معلمهم بكل حماس وشوق، فأفضل أيامهم هي تلك التي يقضونها معه في تعلم الابتكار والنقد الأدبي، وكل يوم يشعرون أنهم قد اقتربوا من هدفهم.

قاطع حماسهم ظهور ملهم خلف درجات السلم الردئة، ليقول جاذبا انتباههم:
«أهلا بطلابي الأعزاء، تعلمون أن اليوم لدينا فئة أخرى أليس كذلك؟»

ذلك بالفعل لفت انتباههم، فقد رفعوا رؤوسهم اتجاهه، وعندما همت همزة بالحديث رافعة نظارتها الطبية، سبقها دال قائلا:
«لقد تأخرت اليوم يا معلم، ما عذرك؟ هل قمت بالغوص في رواية ما مجددا؟»

توتر ملهم لثوان ثم أجابه بابتسامة وصوت جهوري:
«قد كانت رواية رائعة حقا!»

«توقعت ذلك.»

رد عليه دال بابتسامة لطيفة، ليغير ملهم الموضوع فوقت العمل قد حان:
«دور من لرمي النرد؟»

أجاب ألف باندفاع :
«دوري أنا أنا»

«ولما دورك أنت؟ سيكون دوري لا محال!»

كان هذا صوت تاء الذي كان يوحي باستفزاز واضح، ليقاطعها صوت راء الذي كان من الواضح أنه يريد إيقاف النقاش قبل تفاقمه، فيبتسم ملهم إثر فعله:
«إنه دورك راء.»

رمى هذا الأخير النرد بكل حماس وتشويق لمعرفة الرقم، أما الآخرين فقد انحنوا جميعا لمعرفة رقم كتاب اليوم، فيتبين أنه رقم واحد، ليصفق ملهم بيديه قائلا:
«لدينا اليوم أعزائي رواية روبنسون كروزو، على الأغلب قد سبق لكم و قرأتموها فهي رواية مشهورة.»

أومأ الجميع كموافقة على ما قال، ليسترسل ملهم في كلامه:
«النقطة المستفزة بها هي أن بعدما قاسى روبنسون كل تلك الصعاب والعقبات التي تحداها من جميع الجهات نراه في النهاية يعود لموطنه سالما معافيا. أليس من الغريب أن الشخصيات في كل مرة تنجو من المصاعب بلا أي آثار أو جراح؟ فكيف لهذا أن يكون معقولا؟»

سأل ملهم، ليأتيه رد من صديقنا ألف وهو يلعب بخصلات شعره البنية، فهذا يساعده على التفكير.
«ولكن هكذا بدت النهاية سعيدة وأحبها القراء»

قطبت همزة حاجبيها لترد قائلة:
«بلى ولكننا لا نصبوا لرفع آمال القراء وغيرهم، فليست جميع المغامرات ذات نهاية سعيدة بل الأصح جعلها واقعية تناسب الأحداث.»

«والأحداث بدورها تمهد لنا النهاية.» أردف راء.

وهنا استكملت تاء قائلة:
«معك حق فيجدر بالكاتب مراعاة الواقعية، فالواقعية أو المنطقية عنصر مهم بالقصة فهو من يبرر الأحداث بأسبابها ويرضي فضول القارئ بتساؤلاته، كما يجعل القصة منطقية يقبلها العقل، فعلى سبيل المثال لا يمكن أن يتلقى البطل خمس طعنات ويبتسم بكل هدوء كأن شيئا لم يصيبه، هذا يجعل القارئ ينفر ليس إلا فلا منطق هنا ولا واقع، فتتحول قصة ملحمية لمسلسل هندي.» 

ضحك الجميع إثر كلام تاء الذي ومن خلاله ظهر غضبها بشأن الواقعية، فالظاهر أنها كانت تكتمه من زمن طويل، ليرد دال على كلامها:
«بالضبط، كما أن لا يمكن الإستغناء عن الواقعية، سواء في قصص الخيال أو المغامرة أو أيا كانت فئة القصة، ولذلك لا نستطيع دوما جعل الأحداث مجرد صدف، فهذا يؤدي للركاكة حتما وضعف حبكة القصة.»

قاطعه ألف وفي صوته لهفة غريبة:
«آه! الصدف عجيبة، فالبطل ينجو بعدما غرقت سفينته في أول مرة ثم في رحلته الأخرى وحده الذي نجا من الموت ولبث على جزيرة يناضل وحيدا، ثم فجأة يكتشف وجود آكلي لحوم البشر فينجو منهم كذلك! يال دهاء الكاتب، ويال غرابة الصدف!»

تبسم الجميع لأسلوب ألف في الحديث إلا توأمه دال الذي انزعج من مقاطعته لذا أكمل:
«لذا، تزيد متانة الرواية بمدى واقعيتها، فيحترم الكاتب قوانين عالم قصته، فإن كان زمان القصة بالعصر الحجري فمن العادي وجود دينصورات لكن من الغريب وجود هواتف وسيارات، فهذا ما أعني به احترام واقعية العالم الذي ينشِئه كل كاتب من خلال قصته، فهذا سيحافظ حتما على عمله وعلى حبكة قصته.» 

ابتسم ملهم وصفق بيديه قائلا:
«صحيح! أشكركم على ما قدمتموه أعزائي، من لديه أي إضافات فليخبرنا ويسمعنا رأيه.»

اندفع راء بكل حماسة، كما هو متوقع منه:
«نستطيع إضافة ملاحظات هامة خاصة بفئة المغامرة منها الإهتمام بنسج الحبكة إذ يجدر ألا تحتوي على أي ثغرات تخل بالقصة فقد يسبب ذلك كارثة، كما أن ما يميز هذه الفئة هي الأفكار اللامألوفة  وهذا يقودنا للتفكير بعناية لمكان القصة والطابع الخاص بها، كما يجب إعطاء كل عنصر حقه، فها هي رواية ذات فكرة جذابة وسرد ممتاز وبلاغة بالكتابة، لكن ما يعيبها تقصير الكاتب في عنصر الواقعية.»

كان ملهم يصغي لما يقوله بفخر ثم تنحنح قائلا:
«إذن يا أبطال، نريد اختيار نهاية واقعية تناسب قصة روبنسون، أية أفكار؟»

وبعد نقاش مليء بتعدد الأفكار وطرح وجهات النظر، توصلوا أخيرا لحل مشكلة قصتنا المميزة هذه، فاسترسل ملهم:
«بعدما اكتشف روبنسون وجود أكلي لحوم البشر على ذات الجزيرة قرر أنه من الأمن والمنطق التخفي بينهم ليعتادوا عليه، وبعد فترة قام بصنع حيل وخطط للتخبي منهم حتى نجح بذلك وبطريقة ما بعد فترة طويلة جاءت المساعدة للجزيرة إلا أن روبنسون لم يعد كما كان فكأنه صار مجنونا بعد الذي عاشه مع اولئك البشر، فأصبحت تأتيه هلاوس بشكل يومي وكوابيس تدور حول تعذيب و صرخات البشر في الجزيرة حين يعلمون مآلهم، واضطراره في بعض المرات لأخذ دور صعب حتى لا يشكوا فيه، وهنا تنتهي الرواية بأن يلبث روبنسون كروزو مريضا حتى مماته أو أنه ينتحر من فرط ما قاساه، في كلتا الحالتين هي نهايات واقعية.»

وفي النهاية، عنصر الواقعية أو المنطقية أهميته بأهمية بقية العناصر لا يصح التلاعب به، بل يجب إحترام عقول القراء واحترام فضولهم، فحتى وإن كانت قصة خيالية يجب على الكاتب وضع قوانين خاصة به تبرر مايحدث.
وهكذا ينتهي نقاش اليوم، بانتظار فصل آخر بقصة جديدة ولما لا فئة مختلفة.

-كانت معكم نجم النقد.

خلف باب الرداءةWhere stories live. Discover now