6- حدث يشبه الوداع

47 2 0
                                    


وفي اليوم التالي كانت جولي قد تمالكت نفسها ,وسرها ألى حد ما أن رأت المرأة مع مانويل , فقد أوضح لها ذلك أكثر من أية كلمات , يلوكه الخلقي أتجاه النساء .
كانت مارلين هي أيضا قد شاهدت التلفزيون , وقالت :
"جولي! هل شاهدا مانويل كوؤتيز ؟ لقد عاد ألى أنكلترا!".
هزت جولي كتفيها وكأنها لا تعبأ بما تسمع وقالت:
" يعود أو لا يعود الأمر لا يهم".
ورمقتها مارلين بنظرة ذات مغزى وقالت :
" يا عزيزتي جولي , أنك بكل تأكيد لست على هذه الدرجة من عدم الأكتراث , أنا أعرف أنك رفضت الخروج معه غير أن ذلك كان من أجل بول بانستر".
" لماذا هذه الضجة؟ أن بول يساوي أربعة من أمثال مانويل كورتيز ".
وضحكت مارلين وقالت :
" لا بد أنك تمزحين , في أية حال لم أكن أعرف أن بول أصبح هاما ألى هذا الحد , ماذا حدث؟".
وأمتنعت جولي عن الرد فلم ترغب في مناقشة شأن بول , لأن ذلك يعني أنها ستذكر أشياء ليست صحيحة في الواقع , صحيح أنه وسيم وطويل القامة وصغير السن , ألا أنه ليس مثيرا , ولم تستطع جولي في يوم من الأيام أن تفهم منطق الفتيات اللواتي يعتقدن أن جمال الرجل كاف , بل أن الشخصية القوية هي العنصر الهام في الرجل.
وأبان فترة أستراحة الغداء أقترضت جولي جولي الجريدة من صديقتها فيثرستون أملا في قراءة بعض التفاصيل بشأن المرأة التي يصطحبها مانويل , غير أنها لم تجد سوى صورة له في المطار ومقال صغير.
كان الثلج يتساقط عند الخروج من المتجر في المساء , وكان الجو عاصفا , فأحست جولي بالبرد الذي نفذ ألى عظامها , وأحتضنت حقيبة يدها بينما لفت حول جسمها المعطف الأزرق القاتم من الصوف الدافىء , وأتجهت ألى الطريق العام في صحبة دونا ومارلين وتطاير شعرها حول وجهها فلم تكن ترتدي قبعة , وفجأة أصطدمت برجل تعمّد الوقوف في طريقها وقالت بسرعة:
" آسفة".
ثم أشرق وجهها بأبتسامة وقالت:
" أنت!".
وأبتسم مانويل وخفق قلبها , وتركت ذراع دونا من فرط أرتباكها , غير أن دونا ومارلين حملقتا بدهشة في وجه مانويل , بينما أمسك هو بذراع جولي وقال بهدوء وسخرية.
" عن أذنكما".
وجذب جولي وأتجه بها ألى السيارة الخضراء المألوفة .
وقالت جولي :
" أنتظر!".
ولكن مانويل فتح باب السيارة وأدخلها بينما آلمتها أصابعه القوية التي أمسكت بذراعها , وهمس :
" لا تجادلي!".
ولم ترغب جولي في أثارة ضجة في الشارع , فدخلت ألى السيارة الفاخرة الدافئة وأنسلت عبر مقعد السائق وجلس هو ألى جانبها , وأغلق الباب بقوة وأدار محرك السيارة في هدوء.
ألقت جولي نظرة أليه بينما أتجهت السيارة ألى الطريق الرئيسي ووجدت أنه لم يتغير , بالعكس أزداد جاذبية عما تذكره , وألتفت أليها بينما وقفت السيارة أمام أشارة المرور وقال:
" كيف حالك!".
تأملت جولي أظافر يديها وردت:
" أنا بخير , كيف حالك أنت؟".
هز كتفيه ولم يرد , وأحسّت بالرغبة في ضربه , كيف يجرؤ على مصاحبتها وهو يعلم أنها لا بد شاهدته مع الفتاة بالأمس! ونظرت من النافذة السيارة , وفجأة أدركت أنها لا تعرف أين يأخذها وأنها لم تبد أية ملاحظة في هذا الشأن .
فقالت بصوت حاد:
" ألى أين تذهب ؟".
" ألى منزلك , ألى أين تظنين؟ لقدرأيت أن أجنبك ركوب الباص في مثل هذا الطقس البارد كيف تتحملين هذا الجو؟ أنه فظيع؟ أنا أحب الشمس والبحر والسباحة في المياه الدافئة".
قالت جولي بحدة :
" كلنا نحب ذلك , حسنا , سوف أنزل هنا".
وكانا قد وصلا ألى نهاية شارع فولكنر .
فهز مانويل رأسه وقال:
"أين هو المنزل؟".
" في آخر الشارع , ولكن أرجوك ألا تصل أليه , لأن ذلك سوف يثير الأقاويل أذا تعرف أحد عليك".
وقال مانويل ببرود وهو يقود السيارة حتى باب المنزل:
" ذلك غير محتمل في هذه الليلة".
وأحنت جولي رأسها وهي تجيبه قائلة:
" شكرا".وألتفتت أتجاه الباب لتخرج من السيارة ولكن مانويل وضع يده عليها وضغط أصابعه بقوة على ذراعها وقال بصوت ساخر:
" ألست مسرورة لرؤيتي؟".
نظرت أليه جولي وقالت:
" لا أعتقد ذلك".
" لماذا؟".
" السبب واضح بالتأكيد وليس هناك ما يقوله أحدنا للآخر".
" أصحيح هذا".
" وهو كذلك".
وأزاحت جولي شعرها ألى الوراء أذ تساقط في موجات على وجهها , وكان متألقا بقطرات الثلج الصغيرة التي ذابت فوقه ولم تدرك أنها بدت رائعة الجمال .
وهزّ مانويل كتفيه وقال:
" أذهبي أذا".
وأحست جولي بالغضب فأن اللقاء بينهما كان ينتهي دائما بأحساسها بأنها المخطئة , وألتفتت أليه وقالت بسخط:
" لا تتخيل لدقيقة واحدة أنني أصدق أهتمامك بي ولديك أمرأة أخرى".
حدّق مانويل في وجهها وقد أمتقع وجهه.
صاحت جولي بغضب وبشيء من الرضى.
" أخيرا أستطعت أن أثير غضبك , غير أنني أنا أيضا على قدر من الذكاء , وأن لم أكن ماكرة مثلك".
وخرجت من السيارة وأغلقت الباب بعنف ولم تسمعه وهو يتحرك ولكنها فوجئت به بجانبها بينما لمعت عيناه العسليتان ببريق الغضب الذي فاق غضبها .
أستدارت جولي وكادت تجري داخل البوابة ,ولكنه أعترض طريقها وكان الغضب باديا عليه.
قالت وهي على وشك البكاء:
" أتركني أمر!".
ولم يرد مانويل عليها , غير أنه خطا ببطء نحوها وأحست بشعور غامض بأنه سوف يضربها.
وصاحت وهي تتوسل أليه:
" مانويل ! أنت لا تشعر بأي شيء أتجاهي , ولا أهمية لما أقوله , أرجوك أتركني".
وفجأة وقفت سيارة خلف سيارة مانويل ورأت شخصا يخرج منها ,ولم تعد تحس بساقيها من فرط الوهن الذي أصابها وصاحت:
" أبي!".
وبدون أن يلفظ بكلمة أخرى , أتجه مانويل بسرعة ألى السيارة وأنطلق بها بعيدا وقد بدا أضطرابه في قيادته.
وعقد والد جولي حاجبيه وسألها وهو يتجه معها ألى باب المنزل:
" من هذا؟".
وردت جولي وهي تكذب بشيء من الحرج :
" أحد الزملاء من المتجر أوصلني ألى المنزل , هل قضيت يوما حسنا يا حبيبي؟".
ولم يشك والدتها فيما قالته.
غير أن جولي كانت تدرك تماما ما أوشك أن يحدث , ألا أنها لم تعرف الآن كيف كان مانويل سيعاقبها , كان كل ما تعرفه أن غضبه فاق غضب أي رجل آخر ألتقت به , ولسبب ما حزنت لذلك حزنا شديدا , ولم يعد يهمها الآن ما ردت على أبيها بالصدق أو بالكذب , كان كل ما يهمها أن مانويل يكرهها وأنه كاد أن يعاقبها لولا حضور أبيها في الوقت المناسب.
وبعد العشاء غسلت شعرها بينما أستعد والدها للخروج مع والدتها لزيارة أصدقائهما , وكان بول سيمر عليها وكانت تعرف بماذا سترد عليه بشأن أقتراحه بزواجهما المبكر , وتمنت من كل قلبها أن تجيبه ألى طلبه , وأعتقدت أنها لو لبست خاتم خطوبتها فأن ذلك سوف يحميها من أنتقام مانويل.
غير أن الحظ لم يحالفها أذ أحضر بول أخته الصغيرة أليسون , وهكذا لم تجد جولي فرصة للحديث مع بول على أنفراد , كانت أليسون في الثامنة عشرة من عمرها غير أنها بدت أصغر من سنها , فهي لا تزال تذهب ألى المدرسة وتتطلع لدخول الجامعة بعد عطلة الصيف , كانت طفلة ذكية تعبد الموسيقى الشعبية وهي متعتها الوحيدة , ولذلك قضوا المساء يستمعون ألى الأسطوانات وقد هال جولي أستمتعهم ألى عدد كبير من مجموعة أبيها من أسطوانات مانويل كورتيز , فمنذ أن تعرفت على مانويل تعمدت عدم الأستماع ألى أسطواناته , أذ أن صوته يفرض وجوده حتى وهو غائب , وكانت الموسيقى تارة من موسيقى الغجر العاصفة , وتارة حزينة ثرية بالنغم , وقد أضفى الغيتار جوا سحريا على الغرفة.
وأحست جولي بالهلع , وفكرت , يا ألهي , لم ألتقيت به ؟ لماذا أنا بالذات , وبعد فترة ذهبت لتعد القهوة وبعض الشطائر هاربة من الغرفة التي بدت أشبه بزنزانة وتبعها بول تاركا أليسون تختار الأسطوانات.
وأمسك بها في الممر الضيق بين غرفة الجلوس والمطبخ , وأسندها ألى الحائط ثم عانقها بحنان , وتحت تأثير الموسيقى تصورت لبرهة أنه مانويل الذي يعانقها , ةتحرّك فمها بقلق فأثارت حواسه , وصاح بول وهو يزيحها بعيدا عنه ويكاد لا يصدق أستجابتها له.
" جولي!".
وشدّت جولي قامتها وكأن ماء باردا قد ألقي عليها ...لم يكن هذا ما يتوقعه بول منها , وقد هاله ما أقدمت عليه.
أخذت جولي تخاطب نفسها قائلة :
" يا ألهي هل أظل دائما تحت تأثير مانويل حتى عندما أكون مع بول؟".
أما بول فرمقها بنظرة غريبة وسألها بصوت بارد:
" من الذي علّمك أن تعانقي رجلا بهذه الطريقة؟".
وأحمر وجه جولي وردّت بأرتباك :
" يا لك من أحمق يا بول , كنت نصف نائمة , ثم أنني تأثرت بالموسيقى , أتركني لأذهب وأعد القهوة".
وتركها بول , غير أنها أدركت أنه لم يقتنع بتفسيرها , أن هذا الحدث أذا أقترن بالملاحظات التي أبدتها منذ بضعة أسابيع لا بد سيجعل بول يدرك أن ثمة شيئا خطيرا يقلق جولي , وتنهدت بعمق بينما هزّ بول كتفيه وأتجه ألى غرفة الجلوس لينضم ألى أليسون.
أمسكت جولي بالأأبريق وملأته بطريقة آلية , ثم أخرجت من الخزانة فناجين وفتحت وعاء القهوة ووضعت ملعقة منها في كل فنجان ثم مرت بيدها على عينيها , شاعرة بأعياء شديد ,كانت تشعر بثقل وراء عينيها بسبب الليالي المضطربة التي تقضيها وقالت لنفسها بصوت خافت : كم يتعذب القلب حين يحب.
كان اليوم التالي يوم السبت وظلت ترجف طوال الصباح خوفا من مجيء مانويل ألى المتجر ليؤنبها , غير أنه لم يفعل ذلك , وأغلق المتجر أبوابه عند الظهر , فأسترخت حينئذ ولم تقاوم دونا ومارلين الرغبة في سؤالها عن مقابلتها لمانويل في الليلة السابقة , ألا أنها كذبت عليهما وقالت أن لقاءهما كان مجرد صدفة , وبدا عليهما عدم الأقتناع بما قالته ولكنهما لم تستطيعا أرغامها على أن تقول أي شيء آخر وقالت دونا :
" على فكرة ,هل قرأت في الصحف أنه قد أحضر أبنته معه في هذه المرة , لم أكن أعرف أن له أبنة ! ثم أنها في السابعة عشرة من عمرها".
وسألت جولي بصوت خافت:
" أين قرأت ذلك؟".
" في الصحف كما قلت , في كل حال , شاهدنا بالتلفزيون فتاة رائعة الجمال ترتدي معطفا من الفراء وتبدو وكأنها في الخامسة والعشرين , رائع أن يصطحبها مانويل كورتيز أينما ذهب".
وقالت مارلين وهي تضحك:
" أنني لا أتمنى أن أكون أبنته !".
وقهقهت دونا أيضا فأتجهت الأنظار بعيدا عن جولي التي شجب وجهها وحدّثت نفسها قائلة ( أبنته ), لا عجب أنه غضب منها لأنها قفزت ألى النتائج!
وعادت جولي ألى منزلها ظهرا , وقد أحست بأعياء شديدا جسديا وذهنيا على السواء , كما أحست بالكآبة , وفزعت أمها لوجهها الشاحب وعينيها المتعبتين , فصاحت بها:
" جولي! ما بك! هل أنت مريضة؟".
وأخرجت جولي ذراعيها من المعطف بعناء وقالت وهي تصعد السلم المؤدي ألى الطابق العلوي :
" أعتقد أنني أصبت بالبرد , هل يضايقك أن أذهب ألى السرير , فلا أرغب في تناول الغداء".
" بالطبع لا يا حبيبتي ,سوف أصعد أليك بعد قليل وأحضر لك زجاجة ماء ساخن لتضعيها ألى جانبك , أديري البطانية الكهربائية قبل أن تختفي ملابسك".
كانت جولي مريضة فعلا وأتضح أثناء النهار التالي أنها تعاني من الأنفلونزا , ولم يكن تعبها مجرد فعل لملاحظات دونا عن مانويل كورتيز مع أنه لا علاقة له بالأمر.
بقيت جولي بقية اليوم وطوال يوم الأحد في السرير , حيث زارها بول وقد هاله أن يرى ظلالا سوداء تحت عينيها كما أقلقته أيضا حالتها العصبية .
ولم تذهب ألى المتجر يومي الأثنين والثلاثاء , غير أنها شعرت بتحسن كبير بحلول يوم الأربعاء , فصمّمت على الذهاب ألى عملها , برغم معارضة أبيها وتحذيره من الآثار الاحقة للمرض ,وذهبت مباشرة ألى سامنتا في مساء يوم الأربعاء ووجدتها ترضع الطفل , ووافقت سامنتا على أن تعتني جولي بتوني بينما تقوم هي بأعداد العشاء لثلاثتهم , وتبعت صديقتها ألى المطبخ وجلست على مقعد مريح , ثم روت لصديقتها كل شيء عن مقابلتها مع مانويل فقالت سامنتا:
" حسنا..... هل تغيّرت مشاعرك نحوه؟".
وهزّت جولي رأسها وهي تربت على ظهر توني وتقول :
" كنت فظة معه! يا ألهي! ترى ما رأيه فيّ الآن؟".
" حسنا , ماذا ستفعلين؟".
" لا أعرف , ربما أعتذر له".
" مستحيل!".
" أعرف ذلك , لنترك الموضوع , متى تغادران البلاد ألى الولايات المتحدة".
" بعد أسبوعين يا عزيزتي , ولم أجد مربية بعد , هل فكرت في الموضوع؟".
" تقصدين ذهابي معكما؟".
" بالطبع".
" لقد فكرت في ذلك بالفعل , كما أن والديّ يعتقدان أنها فكرة طيبة ".
وقالت سامنتا بصوت المنتصر:
" ألم أقل لك ذلك".
" أعرف , فالفكرة مغرية , ثم أنني بحاجة ألى التغيير بعد أصابتي بالأنفلونزا , ولكن هل سأكون جبانة وأهرب من مشكلاتي؟".
" أنك لا تهربين من مشكلاتك يا حبيبتي فسوف تجدينها هنا عندما تعودين ,فكيف تسمين هذا هروبا ؟ ألى جانب أنها قد تبدو مشكلات عندما تعودين!".
"ما الذي سيقوله بول , فلم أخبره بالأمر".
" ليتني أعتقد ذلك!".
ودخل بن ألى المطبخ وأبتسم لجولي وقال وهو يضحك :
" هل تتدربين على رعاية الأطفال أستعدادا لسفرنا؟".
وهزت تدربين على رعاية الأطفال أستعدادا لسفرنا؟".
وهزت جولي رأسها بالنفي وقالت:
" لم أوافق على السفر بعد".
وعقد بن حاجبيه وقال:
" ظننت أن ........ سامنتا".
ونظرت جولي ألى سامنتا التي أخذت تشير ألى زوجها بيديها فوق رأس جولي وسألتها:
" ما الذي قلته؟".
هز بن كتفيه وقال:
" قالت أنك سوف تسافرين معنا وسوف تتولين العناية بتوني ".
" هل قالت ذلك بالفعل؟".
وتأوهت سامنتا وقالت:
" بن! لا تتسرع ...جولي ستسافرين معنا , أليس كذلك؟".
وهزّت جولي كتفيها بشيء من اليأس وقالت:
"أنني أرغب في السفر ولكنني لا أعرف ما الذي سيقوله بول , فلم أخبره بالأمر ".
وقالت سامنتا وهي تضع شرائح اللحم فوق الشواية :
" أسأليه أذا , في كل حال أنه لم يخطبك بعد".
وأومأت جولي برأسها وهي تفكر بعد موقف والديها وسامنتا وبن لو تستطيع أن ترفض السفر حتى أذا رغبت في ذلك .
وفي بحر الأيام القليلة التالية , شاهدت جولي الأعلانات عن العروض التي يقدمها مانويل كورتيز في ملهى الغرديانوس لفترة محدودة , وتساءلت عما أذا كان يفكر فيها الآن وعما أذا كانت المشاداة الأخيرة بينهما قد أنهت علاقتهما , أنها لا تلومه أذا لم يرغب في رؤيتها مرة ثانية , قد عاملته معاملة فظة بصرف النظر عن وجود المبررات أو عدم وجودها.
وطلبتها سامنتا في التلفون لتخبرها بضرورة الذهاب ألى السفارة الأميركية لتحصل على تأشيرة الدخول و وبأنها تحتاج أيضا ألى شهادة التطعيم ضد الجدري.
ووافقت جولي بدون أهتمام كبير على أعداد الأوراق اللازمة , على الأقل هذا سيشغلها بعض الوقت , ما سيؤخر القرار النهائي , ويتعيّن عليها أخبار بول بسفرها , ثم عليها أيضا شراء بعض الملابس المناسبة , فالجو في كاليفورنيا دافىء ولن تحتاج ألى كثير من الملابس الشتوية.
وفي مساء يوم السبت ركبت جولي الباص ألى جون وود , ولم تكن تعرف ما الذي تعتزم القيام به بالضبط غير أنها شعرت برغبة قوية في رؤية المبنى حيث يعيش مانويل , وكان الجو شديد البرودة ألا أنها لم تعبأ بذلك , أذ بدت السماء صافية , ولبست سترة من فراء الخروف وبنطلونا باللون الأخضر القاتم , وبدت طويلة رشيقة وجذابة , ووضعت يديها في جيبي سترتها وسارت بخطى بطيئة ألى المنتزه المجاور لليبانون كورت ,ونظرت ألى أعلى المبنى وتعرفت بسهولة على نوافذ الشقة , ثم أظلمت السماء مهددة بسقوط الثلوج , وأما من الداخل فظهرت أضواء تنبىء بوجود شخص في الشقة , ومن يكون هذا الشخص ؟ هل هو مانويل ؟ هل هو وحده؟ أو أن أبنته معه ؟ ثم ما فائدة وجودها في هذا المكان أذا لم تعتزم الصعود لتوضح له موقفها منه قبل أن تسافر ؟ وأدركت أن ذلك ما أعتزمت في قرارة نفسها أن تفعله , كانت الفكرة في عقلها الباطن طوال الوقت , ولكنها رفضت الأقرار بالحقيقة لنفسها , وأشعلت سيكارة وأخذت تدخن بعمق , وفكرت حالمة كم يكون الأمر رائعا لو نظر مانويل من النافذه ليراها واقفة أمامه , فينزل أليها ويحيّيها قائلا : أنني سعيد لرؤيتك , وأنني أتوق لرؤيتك؟
ومرت دقائق , وأدركت أن شخصا يمشي على العشب في أتجاهها , وخفق قلبها ,ولكنه هدأ عندما سمعت حارس مبنى ليبانون كورت يقول :
" ماذا تفعلين في هذا المكان يا آنسة , أن المنتزه خاص بالعمارة".
وأحمر وجهها وقال :
" أنني أنظر ألى المبنى , لأنني مهتمة بفن العمارة".
" أحقا ذلك يا آنسة؟ أن الجو بارد عصر هذا اليوم , وأنصحك بدراسة فن العمارة في مكان آخر وفي يوم أكثر دفئا".
وأومأت برأسها للحارس ومشت على العشب فأخترقت المنتزه ألى الطريق العام حيث وجدت السيارة الخضراء القاتمة واقفة بجوار الرصيف.
وأتجهت وأنفاسها تلهث بأضطراب واضح ألى مدخل العمارة , غير أن الحارس أعترض طريقها وقال:
" نعم! يا آنسة! ماذا تريدين؟".
" أنني أريد الصعود ألى شقة السيد كورتيز".
" كلا , لن أسمح بذلك يا آنسة!".
" لماذا؟ يا ألهي أنني أعرفه".
وقال الحارس وكان واضحا أنه لا يصدقها :
" أصحيح يا آنسة؟".
" بالطبع! فأسمي جولي كيندي , أطلبه بالتلفون الداخلي وأسأله".
وتفحّص الحارس جولي ثم قال :
" حسنا سوف أفعل! أنتظري هنا".
وترك جولي ودخل ألى مكتبه بالمبنى , وأضطربت أعصابها , ماذا تفعل لو رفض مقابلتها؟ ماذا تفعل حينئذ ؟
ونظرت من خلال الباب الزجاجي ألى المدخل , فوجدت مكتب الحارس على الجانب , فأذا دفعت الباب وجرت ألى المصعد, فسوف تكون في مأمن ,ونفذت الفكرة الطائشة وسمعت الحارس يصيح بها بغضب وهي تمر أمام مكتبه , لم يكترث بما فعلته لأنه يعلم أن لا جدوى لما أقدمت عليه.
صعد المصعد ببطء ألى الطابق الأول ثم الثاني ثم توقف فجأة بين الطابقين الثاني والثالث , وقالت وهي تشعر بالأحباط:
" يا ألهي , لقد أوقفه بالطبع , لم أفكر في هذا الأحتمال".
وأنتظرت وهي تشعر بالأسى هبوط المصعد الذي أستأنف صعوده , بعد فترة وجيزة , وأجتاز الطابق الثالث ثم الرابع , تركها الحارس تصعد لأن مانويل وافق على مقابلتها.
ووقف المصعد أمام شقة مانويل , وأتجهت جولي ألى باب الشقة وطرقته وفتح الباب على الفور , غير أن مانويل كورتيز لم يقف بالباب كما توقعت ,بل وقفت الفتاة الجميلة التي كانت في صحبته في مطار لدن , وأخذت تتفحص جولي بنظرها وكأنها تقييمها , وبدت أكثر جمالا عن كثب , فشعرها أسود كالليل وبشرتها ناعمة وجسمها مكتمل النمو وكأنها تكبر سنها بكثير.
وقالت لجولي:
" نعم؟ يقول الحارس أنك ترغبين في مقابلة أبي , ماذا تريدين؟ أنا بيلار كورتيز".
وبلعت ريقها ريقها وقالت :
" والدك ..... هل هو موجود؟".
" كلا , أنه في المدينة , لماذا؟".
وكان سلوكها ألى حد ما سلوك طفلة ولكن عينيها المركزتين على وجه جولي بدا فيهما الفضول والوقاحة المتعمدة.
وشبكت جولي أصابعها وقالت:
" متى يعود؟".
" بعد فترة وجيزة , فقد فات موعد عودته , غير أنه مع دولوريس أريفيرا , وهو ينسى الوقت في رفقتها ".
وخطت جولي خطوة ألى الوراء , وقالت :
" حسنا , شكرا يا آنسة".
" لا....... أنتظري ,هل تريدين أن تدخلي وتنتظري أبي ؟".
" شكرا لن أنتظر , فالأمر غير عاجل , وداعا يا آنسة".
" أقول له من حضر؟".
وأتجهت ألى المصعد وقالت وهي تدخل أليه مسرعة :
" شخص لا أهمية له".
ونزل المصعد بهدوء وبسرعة تفوق سرعة صعوده , وخرجت جولي منه فواجهها الحارس قائلا ببرود وتهجم:
"هل كانت الآنسة شديدة الغضب؟ كيف تجرؤين عل الدخول بدون أذن؟".
" أسفة , فقد أعتقدت ....... لا أهمية لذلك , قلت لك أنني آسفة , لا يمكنني أن أقول أكثر من ذلك؟".
" بل يمكنك أن تقولي أكثر من ذلك بكثير ؟ وأين تقيمين ؟ فأنني أنوي أن أخبر السيد كورتيز بما حدث عند عودته".
وأحست جولي بتيار هواء يخترق البهو وأرتجفت .. لقد دخل شخص .
وسمعت مانويل يقول:
"ما الذي تعتزم أن تقوله لي ؟ ..... جولي!".
وحملقت جولي في كورتيظ وكأنها تحت تأثير التنويم المغناطيسي , غير أن الحارس قال بشيء من الأرتباك :
" هل تعرف هذه الفتاة يا سيد؟".
" بالطبع".
وحاول الحارس أن يواصل الكلام , ألا أن مانويل قاطعه قائلا:
" فيما بعد يا كورتيس فيما بعد".
ثم قال لجولي بأدب وأن كان ببرود:
" لماذا جئت ألى هنا يا ولي؟".
وهزت جولي رأسها وقالت:
" مانويل .... أنا..... أنا.... هل يمكننا الذهاب ألى مكان نستطيع التحدث فيه ".
وتردّد مانويل وتمتم وهو يفكر :
" بيلار في الشقة".
" أعلم ذلك , لقد قابلتها على التو".
" أحقا ذلك؟ يمكننا أن نذهب ألى السيارة , فهي باردة ولكن سنكون بمفردنا ".
" حسنا".
وكانت السيارة باردة ألا أن مانويل أدار المحرك وقال :
" سوف نقوم بجولة بالسيارة حتى ننعم بالدفء".
وأنطلقا في شارع أيدجوير في أتجاه سناتمور حيث أوقف السيارة بعد أن أصبحت دافئة , ثم قال :
" حسنا , قولي ما عندك".
وتنهدت جولي ونظرت أليه بضعف وقالت:
"أعرف أنني أتصرف بغباء ولكنني أشعر بضرورة الأعتذار أليك ".
" لا داعي للأعتذار".
" بل يوجد ما يدعو أليه , لقد أسأت التصرف , ثم أعتذر لك أيضا لأنني لم أكن أعلم بأمر بيلار".
" حسنا , فأنت الآن على علم ببيلار , كما قمت بالأعتذار أليّ ,هل هذا ما تريدين قوله؟ أنني أقبل أعتذارك , هل هناك شيء آخر؟".
نظرت أليه جولي وقالت:
" لا شيء".
" حسنا".
ألتفت ألى الخلف فوجد الطريق مزدحما وقال:
" هل هناك طريق آخر نسلكه لنعود ألى وسط المدينة ؟".
ورغم أن السيارة دافئة أحست جولي بالبرد وقالت :
" نعم , هل أرشدك ؟".
" أرجوك أن تفعلي".
ثم أخرج علبة السكائر وأخذ سيكارة وقال لها:
" هل ترغبين في سيكارة؟".
وأومأت جولي برأسها , وأخذت نفسا عميقا من السيكارة وأسندت ظهرها على المقعد ,ووضع مانويل السيكارة بين شفتيه وفك أزرار معطفه السميك , وكان شعره قد طيره الهواء عند خروجه قبل ذلك , وأحست جولي برغبة جامحة في أن تتحسس شعره , غير أنها تمالكت نفسها وأدارت وجهها , ترى هل حضر لتوه من عند دولورس أريفيرا؟ ولم تتمكن من التغلب على هذه الفكرة , ثم أنه بدا باردا متباعدا وأرادت أن تنتزعه من كراهيته لها ولكنها لم تعرف كيف تحقق ذلك.
ولم تستطع منع نفسها من الكلمات فقالت :
" قالت لي أبنتك أنك كنت مع دولورس أريفيرا".
فردّ بأقتضاب وهو يعدل مرآه الرؤية الخلفية:
" نعم ".
" هل تحبها؟".
ونظر مانويل بطرفي عينيه وقال:
" الحبّ! ما هو الحب؟".
ثم أدار المحرك وقال:
" هل نعود الآن؟".
ورمت جولي السيكارة من النافذة , وحملقت فيه بيأس وصاحت:
" مانويل!".
وتفحّصها بسخرية ثم قال :
" ما هذا ؟ هل هو شعور بالأحباط ؟".
وأرتعدت جولي وقالت:
" أرجوك يا مانويل لا تغيظني , جئت لأراك لأنه كان يتعيّن على ذلك , فلم أتمكن من ترك الأمور على ما كانت عليه".
وقال وقد فطن ألى تفكيرها:
" والآن تودين لو أنك تركت الأمور على حالها!".
وهزّت جولي رأسها وقالت:
" كلا....أعني... نعم...على الأقل .. ... ألم يسرك أن تراني ؟ أعني هل تهتم بي؟".
وهز مانويل كتفيه وقال:
" ماذا تريدين أن أقول ؟ كنت معجبا بك , كما أنني كنت أرغبك , هذا كل ما في الأمر , أنت تكرهينني , وقد صارحتني بكراهيتك لي".
ومّد يديه وقال:
" أنتهى الأمر بيننا , لست في حاجة أليك يا عزيزتي".
" ولكن في تلك الليلة....".
"كنت غاضبا , كدت أجن , وكدت أضربك و لأنك جرحت كبريائي , هذا كل شيء".
وصرخت جولي صرخة من قلبها :
" لا أصدقك".
" حسنا يا عزيزتي , صدّقي ما يروق لك , لكن لا تتوقعي أن تحولي تخيلاتك ألى حقيقة واقعة , أنني مسافر ألى الولايات المتحدة بعد أسبوع , بعد أسبوع , وداعا يا جولي!".
وأدار المحرك بحزم وقال :
" والآن أرشديني ألى الطريق".

الغيمة أصلهاء ماء  ♡ رواية عبير♡Where stories live. Discover now