16

21 14 0
                                    

تسللت رائحة الكعك المخبوز حديثاً إلى أنفي ومنه إلى عمق حلمي، أعرف هذه الرائحة جيداً.
هل مرّت خمس سنوات بالفعل؟.

شزراً وقع بصري على التقويم الجِداري أمامي، إنه يوم الأحد، يوم ميلادي-ميلادنا، وهو يوافق يوم افتراقنا، تماماً قبل خمس سنوات من الآن تم أخذي بعيداً وأُرسلت إلى هنا حيث تحوّلتُ شيئاً فشيئاً إلى نسخة أخرى من رابونزيل.

استقمت متجاهلاً الرائحة الكريهة وتوجهت إلى ركن الصّلاة حيث تقبع أيقونة مصغّرة للأم ماريا، خلفها نقش يمثل الصّليب المحمَّل بهيئة مخلِّص البشرية، جمعتُ خصلاتي الملبَّدة بفعل النوم مشكِّلاً بها عقدة قبل أن أشرع في الصّلاة برجاء وحيد لم يفارقني طوال مكوثي في هذا السّجن: أن ألتقي توأمي مجدداً.

تُرى ما الذي حلّ به في غيابي؟ هل أخذه أحد ما هو الآخر؟ أتمنى فقط أن يكون حظّه أفضل مني...

في الماضي تعاهدنا على البقاء سوياً، هل حقق أخي أمنيتنا المشتركة؟ ألا يزال رفقة الأصحاب؟ أتمنى أن يكون، فذلك ربما يُهوِّن عليه فراقي.

عبرت ذهني ذكرى مشوّشة تظهر خمستنا نقف على شكل دائرة بوسط باحة بيتنا الأول، يبدو أننا مستمتعون نظراً للضحكات التي أراها على وجوههم من حولي، ولكن مهما حاولت لم أتمكن من التقاط ولو مشهد واحد واضح عن الزكرى، هل نجح سجّاني بما ابتغاه وسعى إليه؟ سأتشبَّث بذكرياتي الباقية ولن أدعه يسرق أكثر مما سرقه.

حتى الآن قد أفاده جميع مَن استعان بخدماتهم من أطباء نفسيين وتجّار علوم أتقنوها، ولكنّه لا يعرفني بعد، أنا أقوى من أن أستسلم لمجرد بضع جلسات استلاب حياة أُجبرت على الخوض فيها.
قبل أن أفقد عقلي؛ لن أترك ماضيّ وأمضي فيما يريده.

«هل تحتاج كتباً جديدة؟». بهذا السؤال استقبلني خاطفي وهو ذاته مَن يدعونه جهلاً وغفلة: والدي.

«هل ستجلبها العام القادم؟». سخرتُ بينما أدلف إلى المطبخ المجهّز بغرابة ليتلائم مع طفل مختطف يبلغ من العمر عشر سنوات.

«لقد غيّرنا الخطة، سألتقيكَ كل شهر، كما أنني استغنيت عن خدمات السيدة مورنيث؛ عوضاً عنها سيوافيكَ أحد رجالي دورياً بمعدل ثلاث أيام في الأسبوع».

ضحكت بوهن ألتقط فطائري المحلاة وكوب مياه مغادراً المكان الخانق، هذه آخر المستجدات؟ مَن يتلو عليه هذه الترهات؟.

«بيتر آرثر! أنا أحادثك لا تتجاهلني فإن العاقبة لن تسرّك».

لماذا يصرّ على نسبي إليه؟، ألا يعلم أنني يتيم لعائلة معروفة الهوية؟ ولو أني بلا نسب فلن أقبل باسمه المشين واحداً، أبداً...

انصرفتُ عنه إلى برنامجي التلفازي المفضل، إذ شغّلته بمستوى صوت ضعيف نسبياً وجلست مقابله أتناول طعامي بسلام، ولكن سلامي هذا لم يدوم إذ قطعه الرجل الغاضب بضربة تلقتها منضدتي الصغيرة من كفّه الكبيرة تتسبب في جفولي وانتفاضتي مرتعباً ومتراجعاً عدة خطوات، وكذلك تسببت في تبعثر الأشياء القليلة ومن بينها طبق الحلوى المعدني الذي لم يحتمل الاهتزاز العنيف فارتطم بالأرضية العارية يُحدِث صوتاً مجلجلاً قاذفاً بمحتوياته بعيداً عن مرأى عيناي الهلعتين.

«اسبقني إلى غرفتي».

أمره ضاعف هلعي فجثوت بجوار قدميه أرجوه أن يعفو عني، ولكنه حملني بسهولة يرميني في الغرفة المقصودة ليخرج مقفلاً الباب خلفه تاركاً إياي متكوراً حيث ألقاني في وسط المكان الخالي من أي أثاث مترقباً ما سيأتيني منه تالياً محاولاً الحفاظ على ذاتي واعية فلا أدري ما قد يحلّ بي إن أنا استسلمتُ لضعفي وقلة حيلتي فسقطتُ مغشياً عليّ وحيداً سوى من شرير مجنون يتربص بي ليجذبني نحو جنونه؛ وأخشى أنّه قادر على فعلها.

شيئاً فشيئاً بدأت أشعر ببرودة زادت المكان وحشة وتمنيت لو أني ارتديت ثياباً أثقل رغم علمي بأنّها لن تنفع بعد قليل.

حفرت الأرض الصلبة بأظافري التي ازرّقت بشدة تمنحني لمحة عمّا حلّ بسائر جسدي وأعضائي، خانني لساني إذ استسلم لارتجاف أسناني من الصقيع وما عدت أقوى على النطق بأي كلمة قد تنجيني من عذابي القادم.

تشوّشت رؤيتي وخلتُني أصرخ باعتذارات لم أفهمها، مع تخدّر أطرافي علمتُ أن مقاومتي قد أزفت إلى نهايتها وأن استسلامي بات وشيكاً، وما كانت سوى هنيهات حتى خرّ جسدي وانسحبت بعيداً عن واقعي ومعاناتي.

صحوتُ في حوض استحمامي المملوء عن آخره بمياه لم أطِق حرارتها فأخذت أتخبّط بأطرافي المتخدّرة الواهنة بقصد الفرار بينما أصرخ بسيل من ترجيات واعتذارات محمومة قوبلت بضحكة ساخرة ممن دلف إلى الحجرة للتوّ وبيده منشفة بعثت هيأتها الأمل في أوصالي لقرب نهاية معاناتي.

«بماذا أفادك عنادك؟».
قال ذلك وهمَّ في انتشال جسدي الضئيل -نسبة لحجمه- من المياه قبل أن يلفنّي بالقطعة القماشية الورقية دون مراعاة أو لطف في تصرفاته؛ وأظنّ أنّه لم يخبتر الكلمات المذكورة في حياته قط.

«أنا آسف، أقسم إنّي لن أكرر ذلك مجدداً». تابعتُ اعتذاراتي التي قصدتُها تماماً، الجميع سيفعل لو قدر لهم اختبار قسوة هذا الرجل، هو يدرك هذه الحقيقة جيداً إذ ضحك بهدوء يربت على كتفي المسنود إلى جانب صدره الأيمن مرسلاً قشعريرة مؤلمة في كامل بدني المرتجف ويصدمني بسؤاله التالي: «إذاً ما هو نسبك؟».

اوه. هل أدركَ مقصدي من السّكوت وتجاهله؟. من دون تفكير أجبته بما يودّ سماعه: «آرثر. إنه آرثر».

همهم برضى. وفكرتُ؛ لن يسعني المقاومة أكثر طالما أنني سألتقيه وأفراد عائلته المخابيل مراراً طوال العام وحتى أجل لا أفقه له ميعاداً.

-

Avelos babies: High twinsحيث تعيش القصص. اكتشف الآن