الفصل الأول

249 12 0
                                    

#رواية_وَمَا_أُبَرِّئُ_نَفْسِي

«مسكين هو المُحِب بقلبه، فهو إما مدهوسًا بالصد، أو مصفوعًا بالخذلان...»

#الحلقة_الأولى:

الساعة تُشير للسادسة إلا الربع، صوت المسجلات داخل صالة المطار تُعلِن اقتراب موعد الإقلاع من القاهرة إلى المملكة العربية السعودية، الكثير من عَبَرات الوداع، وبعضٌ غمغمات تحمل دعوات صادقة من القلب ترافق الراحل عن بلده، عيناه تأبى الانصياع لإلحاح عينين تلاحقانه من بين الجميع في رجاء بالنظر لهما. حمل معه أحضان أسرته الذين أقبلوا معه، والتي لم تتجاوز والديه وعمه وابنة عمه وأخته وزوجها، وراح يجُرُّ حنينًا مبدئيًا لهم جميعًا مع قدميه، لكنه توقف فجأة وقد أجبر نفسه على النظر للخلف، ضغط فكيه بعنف وهو يبتلع ريقه المعبأ بالخجل من نفسه على ما اقترف في حق تلك العيون البريئة، ودعها بنظراته وداعًا ظنته هي وعودًا، في حين أنه كان أسفًا على الخذلان الذي قرر أن يتركها فيه بعد اليوم. سخِر من نفسه على مسمى الخذلان هذا، لقد نوى قتل كل جميل فيها دون رحمة، فأي تعبير يمكنه وصف ما ستعيشه من بعده!

أقلعت الطائرة، وألقى بجم الأحمال عن عاتقه وهو يعود برأسه لظهر المقعد كي يرتاح قليلًا من كم الضغط النفسي الذي عاشه طيلة الشهور الثلاث الماضية، يتمنى لو أن له قدرة على إرجاع الوقت، لكان غيَّر مجريات القدر بأي شكل، ولكن من أين له بآلة إرجاع الزمن الخيالية!
استفاق من نومته على مكبر الصوت يعلن اقتراب موعد الهبوط، فرك وجهه بكفه لتصطدم عيناه برابطة يده التي أهدته إياها ابنة عمه قُبيل سفره بساعات فقط، أخبرته أن رغبتها البقاء في ذاكرته طيلة الوقت، وأن وجود هذه الرابطة سيجعلها حاضرة معه أينما ذهب. زفر شهيقًا محملًا بالذنب من جديد، وبدأ يستعد لحياة الغُربة التي تنتظره.

استقل السيارة التي انتظرته أمام المطار بعد أن أنهى جميع الإجراءات اللازمة، وبدأ يتابع بعينيه الطرق والمباني. حرارة الجو خانقة، لكن اطمئنان قلبه للمكان الذي سيتخذه مسكنًا كونه مكيفًا كما وصفه له أبوه، وكذلك الشركة التي سيعمل بها.

ترجل أمام البناية المقصودة، شكر السائق الذي هو في الأصل صاحب العمر لأبيه وعمه، لكن السائق أبى أن يذهب إلا بعد أن يساعده في حمل أغراضه إلى الغرفة التي سيقيم فيها مع شخصين آخرين، تعرف إليهما ورحَّبا به، وما إن خرج من دورة المياه حتى وجد أحدهما قد أعد وجبة من أجله، ابتسم له في امتنان حقيقي وأخذ يشكره، ليرد الآخر شكره أنهم لبعضهم ولا داعي للشكر بينهم، دقيقة أخرى مرت قبل أن يتحدث الشاب:
- سأذهب الآن للعمل، هناك بالثلاجة الصغرى مشروبات باردة متنوعة، وها هو جهاز التحكم الخاص بالشاشة، الدرفة اليمنى من الخزانة تخصك، سأعود عند المغرب بأمر الله، وإن احتجت شيئًا فرقم هاتفي دونته على تلك الأوراق فوق الطاولة.

وَمَا أُبَرِّئ نَفْسِي Where stories live. Discover now