الفصل الثاني

69 8 0
                                    

#رواية_وَمَا_أُبَرِّئُ_نَفْسِي

«عجيب أمرك يا بن آدم؛ تملك ما يجعلك تحيا قرير القلب والبال، وتزهده مقابل وهم لا تعرف له أصلًا، أو لتكن صريحًا مع ذاتك ولو مرة، فأنت تزهده مقابل لا شيء!»

#الحلقة_الثانية:

تجهزت مع مطلع الصبح من أجل شراء بعض الثياب الجديدة الخاصة ببداية عامها الدراسي الأخير، لكنها كعادة كل صباح منذ أن سافر أنس للمملكة تقوم بمراقبة حسابه الشخصي لترى إن كان قد تواجد عليه أم لم يفتحه بعد، مرت أيام ثلاث على سفره، ولم يتصل بها أو يفتح حساباته التي لا يستغنى عنها في حياته الواقعية، لن تضعه في أي خانة، بالتأكيد هناك ما منعه من مراسلتها أو مهاتفتها، أنس لن يخذلها بهذا الشكل، فهي في النهاية حبيبته التي رغب بها وأرادها سكنًا له.

تبضعت بكل ما يلزمها، وعادت للبيت تجر آمالًا فيمن أحبت أن يكون قد استقر أخيرًا ويتحدث إليها، ما إن دخلت من البوابة حتى وجدتهم يتحدثون عبر كاميرا الحاسوب إليه، أشرق وجهها بابتسامة واسعة، فنادتها زوجة عمها كي تتحدث إليه وتراه معهم، تحركت تجر أميالًا من الاشتياق والحنين الذين ظهروا دفعة واحدة في نظرة عينيها له، افتقدت نبرته في الحديث ليها من ، تشتاق لسماع اسمها من بين شفتيه، تحن لغمزة عينه التي كان يهديها إياها خلسة عن الأعين فتبتسم في خجل، تتوق لبسمته التي تشكل قوسًا من قزح الحب على دنياها، ورائحته التي تسحبها لعالم يخصه، يخصه وحده دون شريك فيه، لم تكن تعلم أنها اشتاقت إليه لهذا الحد الموجع لقلبها الذي يضرب بقوة تكاد تُسمع من حولها، لم تكن تدرك أنها تذوب في طيف حضوره، وأن الأمان -كل الأمان- في ضمة سور البيت لبيتيهما وهما داخله، لأول مرة تهفو روحها إلى جرها بالركض إلى حيث تنطوي الأرض فيلتقي عالماهما، وقلبها صفع تمسك شرايينها به وراح يحتضن صورته فوق شاشة الحاسوب، لسانها انعقد عن أي حديث، عبراتها التي التهمتها عيناه هي من فسرت كل ما يفور بداخلها.

الجميع يتحدث، وهو يحاول مجاراتهم، لكن أعينه ترتكز عليها من بينهم، يرى كم الخراب الذي خلفه داخل تلك المسكينة بعد رحيله، يستشعر ضعفها الذي تركها عليه، يلتقط حبات الدمع الحارقة لضميره الذي لم يمل الهرب، ولم يستسلم له أيضًا! غريب أمره، يريدها ويقطع أميالًا بعيدًا عنها، يحبها ويجبر قلبه على نسيانها، يتنفس ضعفها بين يديه وينفر منه، يتلذذ بحاجتها المستمرة له ويزهد مذاق هذه الحاجة! عجيب أمرك يا بن آدم؛ تملك ما يجعلك تحيا قرير القلب والبال، وتزهده مقابل وهم لا تعرف له أصلًا، أو لتكن صريحًا مع ذاتك ولو مرة، فأنت تزهده مقابل لا شيء!

أجبرت قدميها على الحركة إلى الداخل دون أن تمن عليه بكلمة واحدة، ألقت عليه بحرقة دمعاتها وتركته يصارع وحده، دخلت غرفتها، وبدلت ثيابها، ثم رشفت مياه زجاجة كاملة كأنها لم تشرب منذ زمن، وجلست إلى فراشها تنظر لانعكاسها في المرآة، فتاة في مقتبل العمر، على وشك أن تكسر عامًا آخر بعد العشرين، عيون بنية واسعة، وحاجبان كثيفان مرتبان يعلوهما، بشرة نقية إلا من بعض حب الشباب المؤذي لقلبها قبل عينيها، شعر بني قصير يتناسب مع قامتها القصيرة، ضيقت بين عينيها قبل أن تتحرك واقفة أمام المرآة، أخذت تعاين جسدها المتناسق وهي تفكر إن كان وزنها قد ازداد، لا شيء قادر على جعلها تُجن قدر أن يخبرها أحدهم أنها ازدادت في الوزن، هذا شغلها قليلًا عما ألمَّ بقلبها منذ دقائق، ألقت بجسدها فوق الفراش تراقب زينة السقف المنظمة، لكن  لم يطل الأمر كثيرًا، فقد وقعت في مستنقع ذكرى يومٍ لا ترحمها ذكراه...

وَمَا أُبَرِّئ نَفْسِي Where stories live. Discover now