الفصل الثالث

70 5 0
                                    

#رواية_وَمَا_أُبَرِّئُ_نَفْسِي

"الأب منا يحيا ما يحيا من عمره يربي ويعلم ويسعى من أجل أبنائه، ثم ما إن تأتي لحظة النصيب حتى يتمنى عودة الزمن ليستعيد لحظاته معهم من جديد"

#الحلقة_الثالثة:

تنفس الصبح من عبق سعادة قلبها الذي يهفو للحظة يجتمع فيها نابضها مع من اختارته ونيسًا لأيامها، أشرقت زيتونيتيها تلمع ببهجة انتظار لحظات الفرح، رتبت فراشها، وبدلت ثيابها وخرجت تتعقب رائحة الخُبز المُقمَّر، تبسم ثغرها وهي تميل إلى رأس والدتها تقبلها مع قولها:
- أسعد الله صباحك يا أمي.

- وصباحك يا رضا قلبي.
ازداد ابتهاج قلبها مع هذا اللقب الذي تناديها أمها به مُذ كانت في المهد صبية، وبدأت بهمة تساعدها في تجهيز الطعام قبل أن يخرج والدها لعمله. أنهت ما قدمت عليه وتجهزت من أجل درس الشريعة لهذا اليوم، روتين مُرضٍ لقلبها المتعلق برب كريم، وهذا الرضا يعود على حياتها دومًا بالربح وإن كان خسارة! ولجت لمنزلها تحمل بين جنبات روحها درسًا دينيًا جديدًا قد تعلمته وأفضت النية لأن تعمل به، فقابلها أبوها متبسمًا، تعجبت عودته الباكرة، فسألته السبب، أجاب وهو يحاوط كتفيها بيديه:
- عدت لآخذكِ معي يا حبة القلب.

- إلى أين؟
سألت في فضول، فأجابها وهو يفتح باب المنزل ليخرجا معًا:
- لمحل بيع الملابس الذي تفضلين، سننتقي فستانًا مناسبًا من أجل حفل كتب كتابكِ يا صغيرتي.

احمرت وجنتاها خجلًا دون أن يراهما أبوها بسبب وضعها النقاب فوق وجهها، خرجت معه على استحياء، فضمها إلى قلبه وسار بها وهو يردد:
- كبرتِ يا حبة القلب.

تنهد بعمق قبل أن يتابع حديثه متأثرًا بسرعة الزمن:
- أذكر يوم ولدتكِ أمكِ يا بيسان، كان يومًا ممطرًا وشديد البرودة، البرق كان يضرب السماء بعنف، وصوت الرعد يملأ الأرجاء، وصراخ أمكِ كاد يبكيني وهي تنادي باسمي صائحة بعدم قدرتها على المتابعة، كنت ألوح لها من خلف الزجاج وأحتضن الهواء مداعبًا كي أطمئنها أن بعد هذا العناء ستحملكِ بين ذراعيها فيروح عنها كل ألم...

نفى برأسه وهو يبتلع ريقه، زفر شهيقًا ممتلئًا بالوجد متابعًا:
- أذكر يوم حملتكِ بين يداي، وقتما أذنت في أذنيكِ، حينما رأيت لون عينيك.. أذكر نطقكِ لكلمة "أبي" أول مرة، ضحكاتكِ المشرقة، حبيكِ المدغدغ لأوتار قلبي، خطواتكِ الأولى التي ورَّدت أيامي...

ابتلع دمعة كادت تخدعه وتسقط، تابع وصوته يرتعش:
- أذكر أولى أيامك بالمدرسة، وكيف حصلتِ طوال سنوات دراستكِ على المرتبة الأولى دون أن تخذليني، أذكر يوم طلبتِ ارتداء الخمار تعففًا، ويوم ركعتِ أمامي تستعطفي قلبي لأقبل بالنقاب رداءً لكِ...

مسح على رأسها والابتسامة تشق وجهه بأكمله متممًا قوله:
- أخبرتني يومها أنكِ راغبة فيه حد الموت سعيًا إليه، وأنه لو كان فرضًا قدمتِ عليه مطيعة مجيبة، وستخبرين الله أني ساعدتكِ بذلك، وإن كان سنة أديتِها، فتزدادين درجة بالجنة، وستسحبينني معكِ إليها لأنني أيضًا ساعدتكِ على ذلك.

وَمَا أُبَرِّئ نَفْسِي Where stories live. Discover now