إسترداد: بداية

4.5K 483 190
                                    

بين زقزقة عصافير تتغنى بيوم جديد و خرير نهر السين في إنسيابه العظيم و أشجار الحدائق و الأرصفة تحارب الرياح التي تجتازها محملة بعبقها، تنعكس أشعة الشمس على معدن برج إيفل فيزداد توهجا و وقارا، بينما تلك السيدة البرجوازية تلتقط كوب قهوتها الصباحية و الكرواسون خاصتها و تسير صوب الشرفة تتهلل بما تقابله من مناظر.

تلك كانت الصورة النمطية لعاصمة الجن و الملائكة و التي قد تخطر على بال أغلب البشر حين صف حروف اسمها جنب بعض، عكس الواقع المدسوس بين الأروقة و الشوارع و بين تجاعيد العجائز من المتسولين و المهاجرين، عكس الحقيقة التي تقبع خلف الإضطهاد و العنصرية الموجهة تجاه الأعراق الغير فرنسية أو ما جاورها.

فتحت باب شقتها بتعب مستقبلة يومها الجديد بصداع حاد إثر الساعات التي أهدرتها أمس في التفكير، هي أصلا قضت نصف الليل الأول في قراءة ما أرادته صديقتها ليلي أما النصف الثاني فقضته تفكر بما سبق.

"كيم جانغ مي ما اللعنة؟" هتفت بإحتيار.

"بل جون نيران" رفعت أنظارها زامة فاهها بثبات لتقابلها أنظار الأخرى الدامعة.

"لهذا تشابه التوقيع أسفل الرسائل و لهذا كنت تظنين أن الأمر جنون لكن الجنون هنا أني أنا من عشت في كذبة لثمانية سنوات، الشكر لك جانغ مي أم علي أن أقول نيران" ألقت كلماتها ببطء و تمهل لتفهم الصغرى مقصدها بينما تكافح دموعها.

"ليس الأمر كذلك لينا" نفت بيديها محاولة توضيح الأمور إلا أن الأخرى قد سبقتها في الخروج بينما صفعت الباب وراءها.

"أنا آسفة" همست تمعن النظر في الفراغ. 

أغمضت عينيها بعدما إنتهى شريط الأمس و الذي كان يمر طوال الليل بين عينيها ملتحفا بذكريات الرسائل و اللحظات التي قضتها مع تاي.

ترجلت نحو الشارع ببطء و كعادتها دست سماعاتها بأذنيها لتسير، كانت تلك الطريقة الوحيدة لتفسير عدم إنتباهها لما يحدث حولها و رغم مضي عشر سنوات مذ أن فقدت قدرتها على السمع إلا أنها لا تزال تعاني عقدة النقص من حالها.

و بينما هي تسير بخطا مثقلة غير آبهة لزوج الأعين التي تراقبها بتلهف، شوق و حنين، كمهاجر أبعدته الظروف عن بلده، كسجين منعته قيوده من أن يطأ الأرض، كطير امتنع عن معانقة السماء، كان ينظر نحوها بلوعة الهالك من العطش في الصحراء حين يرى الماء، لكنه تعلم من سنواته العشر التي عاشها دونها أن الأمور الجميلة تتطلب الوقت و هي كانت الجمال بأم عينه و أغلى ما قد يكسب في عينيه.

كان يرى أنها اليوم و على غير عادتها منطفأة الوهج راكدة، كان و من خلال مراقبته اليومية لها منذ مدة يجهل زمنها يراها تشق خطاها كلبوءة بالرغم من كونها نائمة في دواخلها، و عيناها البنفسجيتان و اللتان اختارهما القدر لها من دون غيرها تحمل لمعة تزيد غرق تايهيونغ فيها بالرغم من كفاحه سابقا لأن لا يفعل لكنه الآن يهوى الغوص في أعماقها، قليلون هم من يملكون لون أعينها، هم فئة نادرة و هي له ملاك فريد.

طفل القمر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن