الفصل الرابع والعشرون

15.7K 338 3
                                    


كانت تتأمل الخضرة الشاسعة المزينة بالفراشات الملونة وهي تتذكر تلك المقابلة الكارثية مع والدتها...هطلت دمعة ساخنة علي وجنتها وهي تعود لتلك الذكري منذُ شهران عندما دخلت عليها أسيل الغرفة وتتبعها تلك التي تسمي والدتها بخطوات خائفة بينما هي لم تعطي لها الفرصة بالحديث بل إنتفضت من مكانها صارخة في وجهها بإنفعال والدموع تتسابق علي وجنتيها
نادين:أهلاً أهلاً وفاء هانم...جاية دلوقتي ليييييه ها..جاية تشوفيني وانا بتعذب ومدمنة وتشوفي إذا كنت أنفع أبقي بنتك ولا لأ؟؟...عارفة روحي إشتري بنت تانية بفلوسك بس لما يحصلها اللي حصلي عمرك ما هتقدري تعالجيها بفلوس الدنيا كلها
كانت تلوح بيديها يميناً ويساراً وعيناها تنضح بالألم الخالص بينما أسيل أخذتها بين أحضانها تحاول تهدأتها قليلاً وهي تهدهدها كطفلة صغيرة وبالفعل هدأت وهي تجلس علي الفراش وتحتضن أسيل بشدة
أمام تلك الذاهلة الشاهدة علي الموقف فقط ولم تجرؤ علي الوقوف بجانبها في أشد لحظاتها إحتياجاً لها...نظرت لها وهي تتفكر في السنوات الفائتة التي تركتها فيها بين أيدي هناء ومع صديقتها وعائلتها التي علي ما يبدو أنهم يعرفونها أكثر مما تعرفها هي...يشعرون بها وتشعر بهم..يحبونها وتحبهم شعرت بالألم الشديد عند هذه الفكرة (إبنتها لا تحبها إنها تكرهها ولكن هل لها الحق أن تلومها بعد كل ما حدث معها وبسببهم هم فقط!!)
أعادت النظر لها وجدت هذه الفتاة التي تشعرها بأمومتها تهدهدها بكلمات رقيقة كالبلسم وهي تقول بحنان بينما تمسح دمعة هاربة عن مقلتيّ نادين
أسيل:نادين ياحبيبتي هي مامتك وهتفضل مامتك مهما غلطت في حقك بس عمرها ما هتكرهك في يوم عارفة ليه..لأن غريزة الأمومة دي ربنا زرعها فينا مش بإيدينا أبداً..يمكن هي بعدت وغلطت لما دورت علي الفلوس بس يمكن بردوا ده الوقت الصح اللي المفروض هي تكون جنبك فيه
لاحظت الرفض في عينيها لذا إحتضنت أناملها ثُم إبتلعت ريقها قائلة
أسيل:عمرك ما هتكرهيها مهما حصل..مهما كنت أنا ومازن جنبك دايماً هتحتاجي حضنها..مهما حسسناكي بالأمان مش هتحسي بيه غير في حضنها هي ومعاها...أرجوكِ بس إديها فرصة علشان خاطري أنا ومازن...صدقيني يمكن ترتاحي وأنا هفضل دايما جنبك
أخفضت رأسها وهي تنظر لتلك الطفلة المذعورة الذاهلة في آخر الغرفة كأن ما يحدث بعيداً عنها...أخذت نفساً عميقاً تملأ رئتيها بالهواء النقي ثُم نظرت لأسيل بتصميم
نادين:عاوزة أقعد معاها لوحدنا بس خليكي جنب الباب ممكن !
قبّلتها من رأسها وهي تبتسم وأومأت برأسها وهي تخرج بينما نظرت نادين لوالدتها والدموع حبيسة مقلتيها ذهبت قبالتها وجثت أمامها علي الأرض ثُم نظرت لها بألم السنوات الفائتة وقالت بصوت هادئ يناقض مشاعرها المنتفضة
نادين:تعرفي إن كل اللي كان نفسي فيه هو حضنك وإني أحس بالأمان....عمر فلوس الدنيا ما كانت هتعوضني عن إهتمامك وحبك وحنانك اللي إحتجته من يوم ما إتولدت (إبتلعت ريقها وهي تضع يديها ناحية قلبها ) دورت علي الأمان اللي إحتاجته برا ولما لقيته كان مزيف وعلشان الفلوس بردوا وبسببه أدمنت ولما عرفت إني مدمنة خرجته من حياتي بس مقدرتش أتخلص منها أبداً
إنهمرت دموعها أنهاراً بعد الكلمة الأخيرة بينما وفاء تضمها رغم رفضها وهي تقول بندم حقيقي
وفاء:سامحيني يانادين..كنت فاكرة إن الفلوس ممكن تعوضك عننا وعن حناننا...كنت فاكرة إن أي حاجة بتحتاجيها ممكن تلاقيها بالفلوس بس كنت غلطانة وأوعدك إني أصلح غلطي ده
وقفت نادين وقد إستعادت رباطة جأشها قليلاً بينما قلبها يعارضها بصخبه نظرت للأفق شاردة وهي تقول بهدوء
نادين:هحاول أصدق كل اللي بتقولي ومع ذلك محتاجة فرصة ووقت أطول أصدق فيه وتثبتيلي فيه إنك أمي بجد
شعرت بقبضة تعتصر قلبها ألماً وندم شديد كيف تهاونت في حق فلذة كبدها هكذا..كيف فقدت كل حس للأمومة لديها...كيف كان جمع الأموال أهم ما تريده!!
علمت بشكل أو بآخر أنه لم يعد هناك كلام ليُقال بل تبقي للأفعال أن تثبت وستعمل جهدها حتي تثبت أنها أم حقاً....
أخذت نفساً عميقاً فمنذ تلك الهدنة التي عقدتها مع والدتها تأتي لها يومياً تجلس معها تتحدث بحنان يناقض ما كان يحدث منذُ سنوات مع الوقت تبدلت طريقة نادين الجافة في الحديثة مع وفاء إلي أخري أسهل ولكن عندما عاد والدها الذي أظهر إستيائه الشديد وخوفه مما يسمي (فضيحة) فإبنة السيد حافظ رجل الأعمال الشهير المعروف داخلياً وخارجياً (تتناول المخدرات) بينما وقف فارسها المغوار في وجهه رد عليه بكل قسوة وللعجب إتفقت وفاء بشدة مع مازن فيما قاله عندما طلب حافظ أن تسافر معه للخارج حتي تتم علاجها ثُم تعود أو تخرج من هذه المشفي وتبدأ في مرحلة العلاج من المنزل بينما هدر مازن في وجهه بعنف قائلاً
مازن:نادين مش هتتحرك من هنا لا برا مصر ولا حتي في البيت ولو ع الفلوس هي مش محتاجة منك حاجة...كل اللي كانت محتجاه حنانك ولو مش موجود متشكرين علي وجودك يا أستاذ حافظ
أردفت وفاء والدموع تتدفق من عينيها أمام عينيّ حافظ الرجل الرزين الذي لطالما حافظ علي هدوءه وبروده..الذي لم يكن لديه أهم من كنز الأموال والزواج من فتاة إبنة عائلة ثرية كوفاء...
وفاء:مازن عنده حق كفاية اللي حصلها وإحنا بعيد عنها أنا مش هعرض بنتي لنكسة تانية...ومش مهم عندي أي حد يعرف المهم صحتها وعمري ما هحسسها أبداً إنها منبوذة مننا أو من أي حد
تفاجأ من صلابتها الغير معهودة فقد كانت تستمع له دون مناقشة حتي في سفرها عندما كانت تتألم لفراق إبنتها الوحيدة لم تستطع إلا أن تخضع لأمره بالسفر معه للخارج....وافق علي مضض بينما يمط شفتيه بإمتعاض
حافظ:إنتو حرين أهم حاجة محدش يعرف ولما تبقي كويسة تبقوا عرفوني...ولو عوزتي فلوس هتلاقي في البنك
هكذا ثُم غادر بكل بساطة دون أن يكلف نفسه عناء السؤال عنها أو الإطمئنان علي أحوالها...ولكنه لم يكن يعلم أن هناك من تستمع لكل هذا الحوار المؤلم من وراء الباب فتعلم عن حق أنه وبعد مرور شهر فقد تغيرت والدتها بينما والدها مازال كما هو قاسي...بارد المشاعر لا يأبه سوي للمناظر الخادعة.....ولكن مازال لديها بطلها وحبيبها الذي لم يخن ثقتها ولو مرة واحدة دائماً يُثبت لها وجوده بجانبها وعشقه الأبدي لها أيما كانت ظروفها
إبتسمت عندما تذكرته كان قد تعوّد بعدما إفتتح عيادته الجديدة قبل شهرين أن يزوها نهاية كل أسبوع يقص عليها كل ما حدث خلاله..يُقبلها من جبينها حيث يسلب لبها بتلك القبلة الطويلة كأنه يمنحها الأمان الذي تنشده ثُم يرحل...عبست وهي تفكر رغم كل هذا هناك شئ ما يقض مضجعه ليس هو فقط بل أسيل أيضاً...تُري ما هو هذا الشئ !!
أخرجها من أفكارها صوت طرقات هادئة علي الباب علمت علي الفور أنها وفاء هذا هو موعد مجيئها وبالفعل كانت وفاء ولكن معها هذا الطبيب إياد الذي لم ينفك طوال شهرين متتباعين أن يتواجد كلما تواجدت أسيل معها بل ويحاول جذب أطراف الحديث مع تلك الصغيرة الهادئة المنكمشة علي نفسها والتائهة منذ فترة طويلة...مهلاً يوجد وجه جديد سيدة قصيرة بعض الشئ يبدو عليها الهدوء الشديد مع لمحة من الملائكية محببة للنفس بشدة
إقتربت منها وفاء وهي تقبلها من وجنتيها قائلة
وفاء:عاملة إيه ياحبيبتي ؟
ردت بهدوء ومازالت عينيها مثبتة علي تلك الباسمة
نادين:الحمد لله بخير يا ماما
قال إياد وهو يضع يديه في سترته الطبية
إياد:صباح الخير عاملة إيه إنهردة؟
ردت دون أن تلقي نظرة نحوه قائلة
نادين:كويسة أحسن كتير الحمد لله
قال وهو يشير للمرأة المثيرة للفضول
إياد:أحب أعرفك الدكتورة هدي هتقعد معاكي شوية ممكن ؟
نظرت بتساؤل لوالدتها التي ربتت علي كفيها برفق وهي تبتسم قائلة
وفاء:هترتاحي معاها أوي أنا هستناكي برا ماشي؟
لا تعلم نادين سوي أنها شعرت بالراحة لتلك الواقفة أمامها بعدما رحلت والدتها وإياد...لديها عينان تشبه زرقة السماء في ليلة مضيئة بالقمر..وجه مستدير يوحي بالراحة والإطمئنان من مجرد النظر إليه..زادها حجابها البسيط رونقاً هادئاً كالملاك الحارس..إبتسمت هدي بلطف وهي تقول
هدي:الجو حلو أوي إيه رأيك نتمشي شوية في الجنينة!!
إبتسمت بإضطراب ثُم إبتلعت ريقها قائلة
نادين:مفيش مشكلة
ذهبتا معاً بينما نادين تتأمل المنظر المحيط بهما...خضرة تحيط بها من كل مكان مُسلط عليها بخجل قرص الشمس المائل للحمرة في هذا الوقت يداعب الزهور الموزعة علي جانبي الحديقة فأعطاها جمالاً فوق جمالها خصوصاً مع رفرفة هذه الفراشات الملونة تمتص رحيق الأزهار
بدأت هدي الحديث معها قائلة
هدي:إنتي أكيد عارفة مراحل العلاج من الإدمان صح ؟
إرتجفت قليلاً فأحاطت نفسها بذراعيها ولسبب ما علمت ما هي وظيفة هدي في تلك المرحلة لذا أخفضت رأسها فغطت خصلاتها البنية شعرها وهي تقول بتحشرج
نادين:أيوة عارفة...وأظن إن المرحلة النفسية هتبدأ إنهردة صح؟
أمسكت هدي بيديها المرتعشه وهي تقول بإبتسامة هادئة
هدي:أيوه وقريب أوي هتخرجي وتبقي أحسن ألف مرة مما كنتي..تعرفي إن فيه ناس كتير لو كانوا مكانك كانوا مكملوش بس إنتي ربنا بيحبك وعندك إرادة قوية وناس بتحبك....مش نفسك تفضلي معاهم علي طول ؟
أومأت رأسها بضعف دون أن تنظر لتلك الواقفة أمامها بينما قادتها لطاولة صغيرة ثُم إقتطفت وردة صغيرة من وسط الورود وآخري ولكنها لم تكن بنضارة الأولي ثُم قالت
هدي:شايفة الوردة دي يا نادين كلنا زيها ساعات بنكون دبلانين كدا ومش لاقيين حاجة تروينا بس في لحظة بنلاقي ناس بتحبنا وتقربنا من الحياة بنقطة مية فنبقي زي الوردة التانية اللي مش دبلانة دي
إحنا بقي في إيدينا نبقي بنضارة الوردة الحمرا دي أو بذبول الوردة الزرقا دي فهماني ؟
إخترقت كلماتها البسيطة قلبها فنظرت لها والدموع تغشي عينيها شعرت نفسها في الماضي كتلك الوردة الزرقاء الذابلة التي لم تجد من يرويها ويسقيها هتصبح بنضارة تلك الوردة الحمراء بينما جاء مازن ليُعيد لها الحياة في لحظه فيرويها من حنانه وإهتمامه فأصبحت كتلك الوردة النضرة...إبتلعت ريقها بصعوبة وهي تقول
نادين:هو أنا هقدر أكون وأفضل زي الوردة الحمرا دي؟
إبتسمت هدي وأزاحت خصلات شعرها البنية بحنان
هدي:طبعاً تقدري لو عندك يقين وإيمان بالله وإيمان بقدرتك علي نفسك
إحنا إنهردة هتحكيلي عن طفولتك بس ومش هنتكلم عن حاجة تانية ممكن؟
أومأت نادين رأسها بالإيجاب بعدما إستعادت بعضاً من شعورها بالهدوء والثقة بالنفس
وبدأت طريقها نحو العلاج النفسي كما بدأته منذُ شهور نحو العلاج الجسدي
............................................
-ياعزيزي أنت غير رحيم بالمرة
-تُري أنت تعبث بأكثر الأشياء قيمة
-أنت تطرق باباً مُغلقاً دون أن تطرقه حقاً
-أيا قوي العزيمة..لقد تكسرتُ منذُ زمن مضي
-أيا كثير الرفض أسمح لي أن أراك بطرقي
نعم لقد تكسرت كل قيمة وكل مبدأ وكل معني في الحياة أمامي
ولكن بطريقة ما..لا أعلم ما هي تمثلت كل هذه الأشياء بك
يا صديقي ورفيق درب إنتقامي...لا تتركني وحيدة أحارب طواحين الهواء
يا سيدي وملجأي لا تغضب عليّ فأنا مجنونتك المتهورة علي كل حال
يا أعقل الرجال وأصدقهم..أصدقني القول أ لجراحي من شفاء!!
يا من تملك مفتاح قلبي بعد أن فقدته أنا ...قل لي أين وُجد..فلم يكن يوماً بسارق
يا عزيز النفس أري فيك نفسي التي أريد بنفس غير مشوهة
يا قاهر الشهامة أراك فأري ما كنت أنتظره ولا أستحقه
صدقني يا من لن تكن لي..أنا بقايا أنثي أبحث عن حناياي المفقودة
ليتنا تقابلنا في زمن آخر...ليتنا يا عزيزي..يا من حُرم عليّ مناداته بأكثر من هذا-أحبك-وياليتني أستطيع أن أبوح بها
سقط قلبها بين أضلعها وإهتز كيانها بأكمله من مجرد كلمة واحدة...إرتعشت أناملها تحت كفه الذي لم يتركه بينما تدفقت دموعها أمام هذا الرجل الرائع الذي يخفق قلبها له كل يوم أكثر ولكن في لحظة واحدة أدركت أنها لا تستحق منه حبه وصراحته تلك دون أن تكون صريحة معه...وكأن إدراكها هذا حدث متأخر جداً لذا هربت خارج المطعم وهي ترتعش..وضع بضع ورقات نقدية وذهب ورائها سريعاً أمسك ذراعها وشعرها الذهبي يتطاير حول وجهها يزيدها رقه وجمالاً ثُم قال بقلق
أحمد:مالك ياريما في إيه؟
لم تخفي عليه العشق الذي ينضح من عينيها ولكن ظلله ألم كبير في عمقهما ثُم قالت بإنفعال ومازالت مقلتيها ممتلئة بالدموع
ريما:أنا مستاهلش يا أحمد مستاهلش حبك ونبلك ورجولتك دي إنت تعرف عني إيه قبل ما أكون ريما اللي حبيتها
رد بهدوء يناقض ما يعتمل في صدره من قلق وخوف من القادم
أحمد:ميهمنيش إنتي كنتي إيه يهمني إنتي إيه دلوقتي
لم تستطع السيطرة علي نفسها أكثر بينما تهدر بعصبية وهي تلوح بيديها
ريما:حتي لو عرفت إني روحت شقة راجل غريب الساعة 12 بالليل ونمت عنده ؟؟
صمت خيم علي المكان إلا من أنفاسهما اللاهثة...هو بنظرات جامدة لا تعبر عن شئ إطلاقاً بينما هي مخطوفة الأنفاس ومبهورة بما قالته للتو وضعت يديها علي فمها تكبت صرخة بكاء...وجدته يغمض عينيه ويطبق فكه حتي كادت تسمع صوت إصطكاك أسنانه ثُم فتح عينيه لتجد محل الغضب لا شئ..نعم لا شئ تعبير غامض وبلهجة آمرة
أحمد:إيه اللي حصل بالظبط ياريما؟
تفاجئت مما قاله لذا تراجعت للوراء قليلاً حتي إرتجفت من لهجته الحازمة وهو يعيد عليها السؤال بهدوء شديد كأن ما ستقوله لا يعنيه
أحمد:إيييه اللي حصل ؟؟
إبتلعت ريقها ثُم أحاطت نفسها بذراعيها كأنها تستمد القوة وهي تنظر حولها بتوتر بينما هو لم يعطيها الفرصة إذ أخذها من ذراعها متوجهاً إلي المطعم مرة آخري ولكن إلي طاولة منزوية بعيداً عن أعين الفضولين ثُم نظر لها يحثها علي الحديث....أخذت نفساً عميقاً ورأسها مطأطئ بخجل والكلمات تنساب من بين شفتيها المرتجفتين وهي تحرك يديها بتوتر في حجرها تجاهد ألا تنظر له حتي تري مشاعره في تلك اللحظة
عندما إنتهت من الحديث كان جسدها يرتعد للذكري بينما دموعها تنساب علي وجنتيها كشعرها الذهبي المنساب علي وجهها
أما هو فأطبق شفتيه حتي كاد أن يدميها بينما تقلصت قبضته علي الطاولة حتي إبيضت سلامياته وطلّ من عينيه غضب شديد ثُم عمّ الصمت المطبق المكان للمرة الثانية...للحظة شعرت أنه تركها وذهب كأنه يشمئز منها ولكن صوت أنفاسه العنيفة بجانبها جعلها ترفع عينيها إليه لتري غضبه الشديد بينما يهدر بها غير مبالي بمن حوله بحدة
أحمد:علشان غبية ومتهورة ومتعلمتيش لأ ده إنتي في عز أزمتك جتيلي بردوا وباليل....وكنتي هتنتقمي منه إزاي بقي ياهاااانم ها جاوبيني إزاااي
فكرك إن صاحبه كان هيبيعه بالسهولة دي ولا فكرك إنه كان هيسكت علي اللي عملتيه .....غبية ياريما ودلوعة لأبعد الحدود ومغرورة جداً كمان
أخذها من ذراعيها وهو يخرج بها كي يستنشق بعض الهواء النقي ويسترجع بعضاً من هدوءه...إبتلع ريقه وهو ينظر لها تجهش بالبكاء... تتمتم بإعتذارات واهية رقّ قلبه لتلك الغبية المتهورة فأخذها بين ذراعيه دون تردد مما جعلها تتزداد في بكائها أكثر وأكثر وجسدها يرتعد بشدة مع صخب قلبه الذي يهدر في صدره متناغماً مع دقات قلبها التي تتراقص في صدرها لإحساسها بالأمان بين ذراعيه.....ملّس علي شعرها الحريري وهو يقول بصوت دافئ
أحمد:هشششش خلاص إهدي مفيش حاجة هتحصل تاني...أنا معاكي
........................................
كلما أعددت نفسي لإنتظار قدومك....إزددت إبتعاداً
بعد مرور أسبوع كامل لم تراه فيه حيث أمرها مازن بصرامة ألا تذهب وأنه سيُلازمه طوال فترة مكوثه في المشفي...كان الشوق يضنيها وهي تمتثل لأوامر أخيها علي مضض ولكنه قال لها بالحرف وبنبرة حازمة
مازن:خلاص يا أسيل مش عاوز نقاش في الموضوع ده تاني..إنتي هتروحي البيت وهتقولي لبابا وماما إني عند واحد صاحبي عيان..لاحظي إن مفيش أي صلة بينكم غير حبكم وأنا إحترمت ده بس مش معناه إني أسيبك معاه
كانت تعرف وبشدة أنه علي صواب في كل ما قاله لها ولكن ماذا تفعل بهذا القلب الذي يشتاقه وكلما إقتربت منه خطوة إبتعد مئات الخطوات ولكنها تعرف اليوم أن مازن قد ذهب لعيادته التي أهملها مؤخراً لذلك قررت وبتهورها المعتاد أن تذهب إليه لتراه فقط....لن يعرف مازن هكذا وبكل بساطة تتطمئن عليه لن تتحدث...ولن تضمه لقلبها كما تتمني أن تفعل...إتسعت تلك الإبتسامة الشقية ثُم إرتدت ملابسها علي عجل وأخذت حقيبتها ثُم خرجت وقلبها يرقص فرحاً للقاءه...تذكرت عندما سألتها سميحة عن وجهتها أخبرتها أنها ستطمئن علي نادين وتعود ولن تنسي أن تأخذ هذا الحارس الشخصي الذي يلازمها كثيراً وخصوصاً منذُ ما حدث أمام المحكمة قبل أسبوع....كانت قد أخبرت والدتها منذُ عودة وفاء عمّا حدث لنادين ودعمتها كثيراً حتي أنها رحبت عندما عرفت بعشق مازن لها فهي تحب نادين كما أسيل بالضبط...هكذا وبكل بساطة ولأجله أصبحت الكذبات تنساب من فمها وهي تشعر بعشقه يتغلغل في أعماقها أكثر وأكثر...حسناً لم يتبق الكثير فقط ليصبح بخير ثُم سيواجه العالم بآسره من أجلي كما سأفعل أنا.....
كل شجاعتها ذهبت أدراج الرياح وهي تطرق بضع طرقات مرتعشة علي باب غرفته التي سألت عنها في الإستقبال كان بجانبه طبيب شاب يتفحص ضغطه وهي يقول بإبتسامة
الطبيب:لأ إحنا بقينا عال العال أهو الحمد لله
تكسرت إبتسامته علي شفتيه وهو يري من كانت تؤرقه في أحلامه ويقظته طوال أسبوع كامل لم يراها به....رباه كم إشتاقها..كم إشتاق تورد وجنتيها الذي يعلو وجهها كلما رأها...كم يود لو يجعلها تخترق أضلعه فتسكن بداخل قلبه لتعلم مدي عشقه لتلك الصغيرة القوية والضعيفة في نفس الوقت....ولكن لا,ليس الأن يجب أن يري يوسف أولاً..يجب أن يعود يوسف ليوسف...يجب عليه أن يُجنبها ما يعانيه فهي بكل رقتها وبرائتها لن تتحمل ولن يستطيع هو أن يُحملها ما لا ذنب لها به...إبتلع ريقه وهو يرسم علي وجهه قناعه الجامد الذي تحلي به قبل أن يعرفها
إرتعشت من نظرته الجامدة التي لم تعهدها منه مؤخراً بينما تنظر للطبيب بإبتسامة مرتعشة وهو يقول
الطبيب:أخيراً جالك ضيوف غير صاحبك الدكتور...بلاش تجهد نفسك بالكلام كتير..هسيبكم دلوقتي..عن إذنكم
لم ينبت أي منهم بحرف كان كل منهما يبث أشواقه للآخر عبر كل نفس يخرج من صدره...عبر كل نظرة تائهة وخائفة من الماضي المؤلم والمستقبل الغامض...عبر خجلها الواضح لديه ومن خلال إنقباض أصابعه المعلقة بالمحلول أغمض عينيه بقوة...لا يريدها أن تري الإشتياق والحب في عينيه بينما هو غير قادر علي منحها سوي كلمات مجرد كلمات لا أكثر
إقتربت منه وكالعادة تخترق حصونه إختراقاً بصوتها الرقيق ونبرتها الحنونة
أسيل:حمد الله علي السلامة..
رد بإقتضاب يناقض قلبه الذي كاد أن يخرج من بين أضلعه
يوسف:الله يسلمك....إيه اللي جابك أخوكِ مسابنيش لحظة ؟
تفاجئت من رده المقتضب بشدة بينما شحب وجهها ثُم إبتلعت ريقها محاولة التماسك..قالت بتحشرج
أسيل:جيت أطمن عليك...مكنتش عاوزني أجي ؟
غامت عيناه بحزن عميق وهو ينظر للأفق شارداً
يوسف:مكنش ينفع تيجي...مينفعش يكون ليكي مكان في حياتي
نظرت مبهوتة بما قاله للتو...إنفجرت الدموع من عينيها أنهاراً فكانت سكين بارد ينغرس في صدره مرة بعد مرة فيؤلمه أكثر وأكثر ولكنه لم يظهر أي من هذا بل تماسك بوجهه البارد لأجلها هي فقط إرتعش كفه فقبض عليه بقوة وهو يكز أسنانه...بعدما إستعاد شيئاً من بروده وقسوته نظر لها وهو يبتلع ريقه
يوسف:أنا مقدرش أكون معاكِ من فضلك شوفي حياتك بعيد عني...إنتِ هتكوني في خطر وإنتي معايا (غامت عيناه بشئ من الندم وهو يكمل)غير إني قاتل دي صفتي ودي حياتي بقالي أكتر من 8 سنين بقتل ناس أبرياء ملهومش أي ذنب غير إنهم في طريقي...إنتي ذنب مقدرش أشيله معاهم
أرجوكِ سبيني أتخلص من ذنوبي لوحدي
لم تكن أبداً لتصدق قسوته وبروده بعدما رأت أي رجل هو...إلا أن شلال الدموع لم يتوقف حتي ظهر بريق الحزن في عينيها العسلتين وهي تقترب منه تتلمس كفه المنقبضة...خرج صوتها مرتجف رغماً عنها
أسيل:أنا معاك عمري ما هسيبك والذنوب دي نواجهها سوا ربنا رحيم...أنا هرجع يوسف ليوسف
أجفلت عندما نفض يديها بقسوة رافضاً ما تفعله..ورافضا ما يشعر به من إضطراب بلمستها الدافئة....بينما خرج صوته بارداً بعيداً قاسياً
يوسف:لو سمحتي إخرجي من حياتي زي ما إقتحمتيها زمان...مينفعش يكون ليكي مكان فيها دلوقتي
ظهر بريق التحدي في عينيها رغم إرتعاد جسدها الواضح وإرتعاشة شفتيها وهي تقول بعصبية
أسيل:مش من حقك أبداً تبعدني عن حياتك بعد ما بقيت جزء منها...مش من حقك بعد ما أخدت قلبي تمشي...ده مش عدل مكنتش خطفتني ومكنتش حمتني...بس تهرب مني وأنا بواجه العالم عشانك ليييييييه ؟
إبتلع ريقه بصعوبة يُغالب زرعها بين أضلعه وضرب كل القيود بعرض الحائط....ألقي نظرة علي المنضدة بجانبه وأمسك بين يديه السلسلة التي كانت أعطته له...وضعها بجانب قلبه وهو يقول بصوت مبحوح
يوسف:أرجوكِ متصعبيش الأمر علينا إحنا الإتنين...خلاص إنسي كل حاجة بيننا..إنسي إنك شوفتيني أو حبتيني عيشي حياتك البريئة من غير واحد مشوه من جوا ومن برا زيي...السلسلة دي عمري ما هسيبها وهتفضل دايماً معايا وهحافظ عليها زي ما وعدتك
أشاح بنظره بعيداً حتي لا يري الرفض والألم في عينيها يكفيه ما يشعر به من خنجر ينغرز ببرود داخل صدره فيؤلمه وكأن نبضات قلبه تشاركها رثائها فتثور عليه هو وترفض ما يقوله......كان صدرها يعلو ويهبط بوضوح ومقلتيها أصبحت مغشية بالدموع الساخنة...أطبقت شفتيها المرتعشتين حتي كادت تدميها وهي تقترب منه بعصبية واضحة وتضربه بكفيها الصغيرين علي صدره المتألم غير مبالية بآلامه الجسدية ودموعها تنهمر عليه هو قائلة
أسيل:حرام عليك...كفاية تعذب نفسك وتعذبني...إنت ليه قاسي كدا...حرااااااام متعملش فيا كدا أنا..
لم تكمل جملتها بينما هو يحيطها بذراعه الحرة فيضغط عليها حتي كاد أن يُسكنها بين أضلعه...تجمعت الدموع في مقلتيه رافضة الخروج وهو يُقبل قمة رأسها...تبكي علي صدره ومتشبثة بقميصه وكأنها علمت أنه لا مفر من الوداع
.....................

فى جحر الشيطانWhere stories live. Discover now