الفصل الاول

38.1K 728 38
                                    

أضواء مصابيح الشارع تصدر انعكاسات زرقاء على زجاج نوافذ البيوت التي ألقت ببعض البقع الفضية المتناثرة على الأرض حيث خلّف المطر خلفه غدرانًا صغيرة من الماء فأضفت على الشارع الساكن مظهرا خلابًا، رائحة التراب المبتلّ ، وصوت المطر، وهواء
بارد... إنه نوفمبر.حين كانت الساعة قد شارفت على السادسة والنصف مساءً كانت "رحمة" تسير في طريقها عائدة إلى بيت عمتها، لم تنتبه إلى "عمر" الذي كان يسير خلفها من بعيد، وعلى مهل سالكًا نفس الطريق، كان قلق ً ا عليها، فالشارع بدا خاليا تماما من المارة،
إنه الشتاء عندما يطلّ بهيبته. كانت أوراق الشجر الجافة التي تحملها الريح تلسع وجهه كشفرات حادة، أما هي فكانت تحتضن كتبها وتسير بهدوء تكاد تطير مع الهواء لرقتها... ترفع يدها من آن لآخر محاولة تفادي أوراق الشجر التي تشاكسها وهي تسير.
ّ من بعيد ثمة رجلين على الرصيف المقابل، حطام يتسكع بثياب رثّة ودبقة تثير الاشمئزاز، عبرا الطريق واقتربا منها، وفجأة..انبثق أمامّ عينيها نصلٌ براق كالشعاع من يد أحد الرجلين، ووقف الآخر خلفها
ّ حيث شعرت وكأن صوته الغليظ يخترق قفصها الصدري ويرتج فيه:
- أعطني الحقيبة...وإلا..كان وجه اللص مثقوبًا بعينين ضيقتين مخيفتين تلمعان جنونًا، أماّ الآخر فكان وجهه يبعث الرعب..فك مجوف وعيون محتقنة بالدم..
ً لم تفعل شيئا سوى إغماض عينيها وضم يديها إلى صدرها بخوف ثمّ الوقوف متسمرة في مكانها..
ركض "عمر" ثم وثب من خلفها برشاقة وارتمى بشراسة علىّ أحدهما وأسقطه أرضً ا وجرده من سلاحه، هرب الآخر فنهض"عمر" بوثبة واحدة، وقنص على اللص الذي كان على الأرض من ياقةّ معطفه، ثم جره ورفعه وألصقه بالحائط بقوة، ثم أمسكه من
بلعومه ونشب أظافره في قصبته الهوائية..
ً وشدد من قبضته مضاعفا من ضغطه على رقبته، في تلك اللحظة كانت "رحمة" تصرخ صرخات مكتومة..
فجأة أرخي "عمر" قبضته وأطلق سراحه مضطرا، فقد جرحه اللصً جرحا عميقا في يده بسلاح آخر فسال الدم منها. ّ هرب اللص وهو يمسد عنقه والتفت مهددا بصوت مشروخ:
- ستدفع الثمن أيها الأحمق.
أطلقت "رحمة" صرخة مقتضبة ووضعت يدها على فمها عندما رأت الدماء تسيل من يد "عمر" ثم قالت وهي ترتجف:
- لابد أن نسرع إلى المستشفى الآن.
ً أغمض"عمر" عينيه للحظة محاولا أن يعيد أفكاره إلى نصابها، ثم
نظر إليها وقال بثبات:
- بل سنسير إلى نهاية الشارع لعلّنا نجد سيّارة أجرة تقلّك إلى بيتك، ومن فضلك لا تسيري في هذا الشارع المهجور مرة أخرى فيمثل هذا الوقت، انتهت المحاضرات منذ ساعتين!
لماذا لم تعودي مبّكرا إلى البيت؟
ّ كانت في غاية الحرج وهي تقف أمام الدكتور "عمر" الذي يدرسها في كلية الهندسة، والذي كانت طوال العام الماضي تعامله كأستاذ لها فقط، ثم فوجئت بعد انتهاء الامتحانات أنه يتقدم لخطبتها..
ْ رفضَته رغم مميزاته لأسباب تراها كافية لها، لكنها غير كافية له، وما زال يتواصل مع عمتها "دعاء"؛ حيث أعطته رقمها بنفسها، وبدأت الآن تحبّه وتشجعها على الزواج منه...
ّ قالت "رحمة" معللة موقفها بعد أن حدجته بعينيها للحظات: -
كنت أحتاج إلى بعض المحاضرات من زميلاتي..
ً قال وهو يضغط على يده محاولا ّ تقليل نزف الدم: - وهل
المحاضرات لا تظهر إلا الآن!، ماذا كنت تفعلين طوال النهار؟
َ تابعتْ محاولة ألا تنم قسمات وجهها عن بادرة من الانفعال وقالت:
- كنت أدرس.. كنت مشغولة... يبدو أنها فشلت في إخفاء انفعالها
إغضابها.
من كلماته مما جعله يرتبك، فهو لايََوُّد
لاحت ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو يقول:
- آسف لم أقصد
اتهامك، ولكن انتبهي لنفسك، لا تسيري في هذا الشارع فهو غالبًا يخلو من المارة الشارع في الجهة الأخرى أكثر أمانًا، وحاولي دائما أن تسيري في مجموعة ولا تكوني أبدا وحدك...
هيا من فضلك سيري أمامي حتى أراقبك، وسأسير خلفك حتى نخرج من هذا الشارع الموحش المظلم... بسرعة.
سارت بتوتر أمامه وهي ترتجف، أسنانها كانت تصطك من بردصابها في حضرة الخوف من أن يظهر اللصان مرة أخرى، التفتت ناظرة إليه تستمد الأمان، فهز رأسه وأشار إليها لتكمل الطريق وزال خوفها بحضوره..
كان وجهه نبيلا يبعث الثقة والراحة والاطمئنان..
سارا بخطى سريعة في البرد القارص حتى وصلا إلى ميدان كبير ّ يكتظ بالناس وتدور فيه سيارات كثيرة... أوقف لها سيارة أجرة، ثم أعطى السائق بعض النقود وزاده.. وطلب منه أن يوصلها إلى بيتها
حيث ستخبره بالعنوان بعد لحظات.
التفت إليها قائلا قبل أن يغلق باب السيّارة بعد أن اطمأن أنها ركبت:
ْ - سأطمئن ّ عليك من عمتي بعد قليل. استدارت بتؤدة نحو صوته المطمئن
ّ وقد لاحظت إطلاقه لقب "عمتي" على عمتها "دعاء" وكأنها قريبته هو !!
وقالت:
ّ - آسفة لجرحك أستاذي.. ودعها على نحو مقتضب وهو يحدث نفسه بقلق: حتى متى سترفض "رحمة" الزواج مني، إنها حتى ترفض أن أزورهم بالبيت مع أمي!
ّ راقبته هي من خلف زجاج السيارة المغطى بالبخار، فأحس بنظراتها تستقر عليه وراح يرمقها بلا حيلة وهي تغادره، ثم سار وحيدا مهدل الذراعين يبحث عن أقرب مستشفى، ودماؤه تسيل من يده.
* * *
بعد دقائق.. رنّ جرس الباب رنينا حادا متلا ًحقا فأسرعت "دعاء"
ّ لتفتح الباب، في نفس اللحظة كان رنين هاتفها النقال يتصاعد.
ّ أسرعت تجيب بعد أن دلفت"رحمة" بعصبية من باب بيت عمتها
الذي فتحته وهي تضع الهاتف على أذنها كان "عمر" الذي أراد أن يطمئن على "رحمة"..
ّ دار حوار قصير فهمت منه العمة ما حدث، أنهت حوارها معه وأسرعت إلى "رحمة" واحتضنتها طويلا..
ّ انفجرت "رحمة" تؤنّب عمتها قائلة:
ً - كان يسير خلفي، إنه يراقبني.. بل ويؤنبني لأنني مكثت قليلا مع زميلاتي في الكلّية، ويبدو أنه اتصل بك أكثر من مرة فهو يعلم أنني أحبك، ليتني ما أعطيته رقم هاتفك... إنه يريد منك أن تؤثري علي وتقنعينني بالزواج منه... أليس كذلك؟
َ ثم أردفتْ بغيظ:
- إنه يناديك "عمتي"!.
وقفت "دعاء" بابتسامتها الرقيقة، وقامتها المتوسطة الطول،
ّ وجسدها النحيل، وقد زيّن وجهها عينان عسليتان وكأنهما ثغران
باسمان ضاحكان، يعلوهما قوسان رقيقان أسودان يظللان على أهداب ترفرف حول نظراتها الحانية.. تراقب "رحمة" وهي تتحدث بغضب، ثم استدارت دون أن ترد عليها، وسارت إلى المطبخ
ّ فتبعتها "رحمة" وأسندت ذراعها على الباب ووقفت تؤنب عمتها وتطالعها بعينيها التي ورثت لونهما العسلي عنها:
ّ - استمرارك في التواصل مع "عمر" خطأ يا عمتي ويضايقني كثيرا، فأنت تعلمين أنني لن أتزوجه، لماذا تعاملينه هكذا؟!، ً ولماذا تعطينه أملا في الزواج مني وأنا أرفضه؟، ألم نتفق على أن تكوني صديقتي!
اقتربت "دعاء" من ابنة أخيها وقبّلتها على جبينها، وسألتها بهدوء:
-لماذا ترفضينه؟ إنه شاب رائع!
أجابتها بعد أن زفرت بحنق:
ً - هو رائع وخلوق ووسيم... لكنني أود الزواج من شخص أكثر تميزا منه، هناك جوانب ّ أخرى في الشخصية أبحث عنها. سحبتها عمتها من يدها إلى غرفتها ووقفت في وسطها للحظات وكأنها مترددة قليلا. فتحت فمها كأنها ستتكلم، ثم همهمت بحروف مبتورة ودارت في الغرفة بنظرات مضطربةً وأخير ً ا نظرت إليها بجدية وكأنها اتخذت قرار ً ا حاسما وقالت:
- أريد مقعدا خشبيًا من الصالة يا "رحمة"..
زفرت "رحمة" زفرة طويلة وقامت لتجلب لها الكرسي، عادت سريعا وهي تجره خلفها ثم ناولته لعمتها التي وضعته أمام خزانة ملابسها وصعدت عليه بحرص ومدت يدها فوق الخزانة وتحسست المكان قليلا ّ وحر ً كت يدها يمين ً ا ويسار ً ا حتى التقطت شيئا ما..
عضّت على شفتيها وابتسمت وقالت:
- ها هو... وسحبت صندوقا ملفوفا بعناية في قماشة زرقاء بلون السماء تتناثر عليها ورود تتوسطها حبات اللؤلؤ، بدا القماش وكأنه فستان خطبة قديم..
صاحت "رحمة":
ً - ما هذا يا عمتي... أتخفين كنزا؟!
أجابتها "دعاء" وقد بدأت عيناها تلمعان:
-هنا أسراري كلّها يا "رحمة"، وستطلعين عليها اليوم.
شعرت "رحمة" بالفضول وتسارعت دقات قلبها واقتربت من ّعمتها بشغف، جلست "دعاء" على طرف فراشها تحلّ عقدة
القماشة الزرقاء حيث تناثرت بعض حبّات اللؤلؤ على أرض الغرفة، ّ لملمتها في وجل وإشفاق في كفها ووضعتها داخل لفافة القماش
ً بحنان وكأنها تضع رضيعا في مهده...
ً ثم سحبت صندوقا خشبيً ً ا بديعا عليه نقوش جميلة، قفل الصندوق يبدو وحده تحفة فنية رائعة، أمسكته بعناية ومسدته وكأنها تمسد بشرة طفل صغير، ثم فتحته بعد أن بدأت ملامحها الرقيقة تتغير وتشي بالكثير من الحنين إلى الماضي، وسحبت من داخله دفتر ً ا قديما غلافه وردي، قد اصفرت أطراف أوراقه قليلا، وفتحته ثم رمته بنظرة واستردتها سريعا.
كانت صفحته الأولى تحتضن كلمتين..
"غزل البنات"
ّ أغلقته لتضمه إلى صدرها لوهلة ثم ناولته لابنة أخيها وقالت بحنان:
ً - اقرئي هذا الدفتر يا "رحمة"، ولا تخبري أحد ً ا أبدا بما فيه، فهنا سر ي الذي لا يعرفه أحد عني. غضّ نت "رحمة" جبينها
ّ وتناولت الدفتر، وتأملت الخط المسطور على الصفحة الأولى
وتبيّن أنه خط عمتها.
غادرت "دعاء" الغرفة إلى المطبخ وأغلقت الباب على "رحمة" التي
ّ وثبت- وقد تعملق الفضول داخلها- فلزمت فراش عمتها تحت الأغطية
لساعات كما لو كانت في حالة بيات شتوي حيث كانت تقرأ..

غزل البنات Where stories live. Discover now