الفصل السادس عشر

4.7K 244 0
                                    

"دعاء"
كان يوما صعبا منذ بدايته،
وصلت فيه لأول مرة متأخرة عن موعدي المنضبط الذي أصل فيه
كل يوم قبل طابور الصباح، حيث كنت أحرص على الوصول مبكرا لكي
ّ أستمتع بمراقبة الفتيات، وهن يتجولن في جماعات في فناء المدرسة.
لا أدري لماذا كنت أشعر بالبهجة عندما أراقبهن وهن يتكلمن
ّ ويضحكن بتلقائية، كنت أشعر أنهن يحقن دمائي بجرعات من الأمل
والتفاؤل، والإشراق، وحب الحياة، كانت شفتاي تنفرجان وتتسع
ابتسامتي بمجرد أن تبتسم من أراقبها منهن وأنا لا أسمع حتى
ّ
ً حديثهن، مجرد ابتسامة لأنني أرى من بعيد وجوها ضاحكة
إنها السعادة المعدية.
سهري الليلة الماضية ضيّ ّ ع علي تلك الفرصة، فبدأ يومي وقد
افتقدت فيه ابتسامة الصباح...
نسيت أن أتناول فطوري وتذكّرت فقط عندما أصبت بدوارٍ خفيف،
غرزت دبوسا في رأسي وأنا أحاول ضبط حجابي، وجرحت في إصبعي
عندما حاولت أن أقطف وردة من حديقة المدرسة، اصطدمت بطالبتين
إحداهما كانت رأسي تصل بالكاد إلى مرفقيها مما أصابني بصداع في
ّ مقدمة رأسي، وأما الأخرى فقد دهست قدمي وهي تمر من أماميبكعب حذائها المدبب وسط الزحام بعد أن دق جرس "الفسحة"، كيف
كهذا وتذهب به إلى المدرسة!
ترتدي الطالبات حذاءً
ّكدت أسقط على ظهري في دورة المياه وأنا أتوضأ لأصلي الظهر،
ّ تمز ّ ق جوربي وحاولت أن أعدله لأخفي الدائرة الفارغة المستديرة
ً التي ظهرت فيه وكشفت لون بشرتي، وأخيرا أغلقت درج المكتب
على أصابعي الأربعة...
قررت في هذا اليوم، أو في أي يوم آخر أفضل من يومي هذا،
إن حانت لي الفرصة، أن أحاول أن أقتحم فكر طالبات نفس الفصل
الذي طبّ ً قت عليه تجربة الصندوق، وأن أفتح معهن حوار ً ا مباشرا
عن المواضيع التي أظن أنها ستفيدهن، بحثت حولي عن الصندوق،
لأكمل قراءة رسائل البنات، ووجدته فارغا!
تذكرت أنني يومها وبعد أن تركتني "أميرة"،
التي أكّدت علي أن أقرأ رسالتها، قد جمعت الأوراق المتبقية التي
ّ
لم أكن قد قرأتها بعد ودسستها في كيس وحملتها معي إلى البيت.
بحثت عن أي شيء يسكت صوت أمعائي التي تقرقر فلم أجد
حتى قطعة من البسكويت في أدراج مكتبي ولم أتمكن حتى من
الخروج لشراء أي شيء من مقصف المدرسة والذي أغلق أبوابه
ً قبل أن أنتبه وأتجه إليه لأشتري شيئ ّ ا أسد به جوعي وتجرعت كوب
الشاي على معدة خالية.
أصابني الإحباط فجلست أقلّب في مفكرتي التي أكتب فيها بعض
الجمل التي أتوقف عندها وأنا أقرأ، لعلها تخفف عني بعض الضيق
الذي أصابني هذا اليوم، فوجدت عبارات للدكتور "مصطفى محمود"،قرأتها في أحد كتبه الرائعة، كنت قد دونتها من قبل لأنها أثّرت في
نفسي حيث يقول:
"أنت في حاجة إلى قراءة الفلسفة، الشعر، القصص، في حاجة
إلى فتح ذهنك على الشرق والغرب ليحصل على التهوية الضرورية
فلا يتعفن، وستفهم نفسك من خلال الناس الذين تقرأ لهم، وإذا
فهمت نفسك فقد وضعت قدمك على بداية الطريق وعرفت من أين
يكون المسير".
ّ نعم، لا بد أن أقرأ المزيد لتهوية عقلي قبل أن يتعفن، أيام قليلة
ا منه
وأكمل شهري الأول في عملي، وسأتسلّم راتبي وأخصص جزءً
لشراء كتاب قيّم هذا الشهر، سأحضر لنفسي هدية، وسأشتري لنفسي
بعض الحلوى، آه إنني جائعة..
وأيضً ا سأشتري لعبا لبنات أخي، ولن أنسى أخي وزوجته، أريد
أن أشتري أي شيء... أي شيء يسعدني.
في آخر اليوم فاجأتني "سارة" التي طرقت باب الغرفة بلطف
وأقبلت بخطوات سريعة، وطالعتني بعينيها الخضراوتين وقالت
بصوت مبتهج:
ّ - غاب الأستاذ "راغب" معلم الفيزياء، وحصتنا بلا معلم،
أرجوك أرجوك أستاذة"دعاء" أخبرنا المشرفات أنك ستدخلين
ّ بدلا منه الحصة، أرجوك تعالي معي فالبنات مجتمعات أمام غرفة
المشرفات ويلححن في طلبك.
قمت معها مبتهجة وسرت وأنا أعرج على قدمي التي آلمتني بشدة
ّ بعد أن جلست لفترة، ويبدو أنها قد تور ً مت قليلا حتى وصلت إلىالفصل، ضحكت الفتيات عندما أخبرتهن بملخص ما حدث لي من
ّ إصابات، ثم صفقت بيدي وأنا أسير بعرجتي بين مقاعدهن، وقلت لهن:
ّ - انتباه يا بنات، رجاء منكن الهدوء، ولتركّزن معي، سأسأل عدة
أسئلة وسأطلب منكن الإجابة عنها لأتمكن من قياس مدى انتشار
ظاهرة معينة بينكن كبنات في مرحلة عمرية هامة، هل توافقن؟
ّهزت الطالبات رءوسهن موافقات وبدأت أسألهن:
- بالتأكيد أنتن مثقفات وتعرفن ما هي "أحلام اليقظة"، من منكن
تتخيل وتحلم وتستغرق فيها كل يوم؟
فلتقف من تحلم في يقظتها.
وقفت معظم الطالبات، فانتقلت إلى السؤال التالي:
- من تحلم بأنها عروس جميلة وتتزوج من فارس أحلامها،
وتستغرق في التفاصيل، تقف.
وقفت معظم الفتيات أيضً ا، فطلبت منهن أن تجلسن وبعد أن
ّ هدأت ضحكاتهن سألت سؤالا آخر:
- من تتخيل تلك الأشياء فقط خلال الساعة التي قبل النوم تقف.
وقفت جميع الطالبات ماعدا أربع فتيات، اتجهت إليهن وسألتهن
عن الوقت الذي يستغرقن فيه في "أحلام اليقظة"، فكانت إجاباتهن
مختلفة، وبالطبع كانت منهن "أميرة" التي قالت:
- أنا أستغرق في أحلام اليقظة خلال الحصص، وحتى وأنا أتناول
الطعام مع أهلي بالبيت، ولا أستطيع أن أوقف الحلم، أجدني غارقة
فيه دون أن أشعر، وقالت أخرى يبدو أنها من الطالبات الفائقات:
- أنا أتخيل نفسي طبيبة ناجحة، أعالج المرضى، وأقف في عيادتي،وأتحاور مع زملائي، وأجري جراحة لأنقذ حياة مريض عندي.
وقالت الثالثة:
- أحيانًا أتخيل نفسي بعد انتهاء المسلسل، أو الفيلم، وكأني أنا
البطلة، وأعيد كل الأحداث بتفاصيلها في عقلي مرة أخرى.
نفس الملابس، نفس الحركات و...
ضحكت الفتيات فالتفت إليهن بحزم وقلت:
- لا تسخرن منها، فكلنا نتخيل مثلها، وكلنا متشابهات.
عدت لوجهها وهززت رأسي لأدفعها لتكمل، ابتسمت ابتسامة
واسعة وقالت:
ّ - حتى الأغاني والفيديوهات المصورة، أحب أن أشاهدها ثم أتخيل
ّ نفسي مكان المطربة التي كانت تغن ّ ي. أحيانًا أغني وأنا أساعد أمي في
أعمال المنزل وحتى وأنا أغسل الأطباق، أمي تقول لي أنني مجنونة.
ّضج ّ الفصل بضحكات البنات، وضحكت معهن ً كثيرا، وقاطعتني
"أسماء"، بصوت حاد وقالت:
- كل ما تقلنه حرام، أليس كذلك يا أستاذة "دعاء"، كل هذه ذنوب
ّ وسيئات، ألا تخجلن من أنفسكن!.
ً استوقفني كلامها، وخفت قليلا ّ ، فهل كل خيالاتي ستصب في ميزان
ّ سيئاتي، ران علي صمت للحظات وأنا أفكر في إجابة، وانتشلتني من
حيرتي "سارة" التي وقفت وابتسامة ملائكية تحتلّ وجهها كله وقالت:
- سأخبركن بشيء رائع، أبي كان يجمعنا أنا وأخواتي ونحن صغار،
نجلس حوله ومعنا أمي، كان يحكي لنا عن "مدرسة التخيل"، وكان
قد قرأ عن عالم مسلم يسمى "الحارث بن أسد المحاسبي"كان يجلس مع طلابه ويتخيل معهم يوم القيامة، والجنة،
ونعيمها، ولقاء النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة.
كنا نتخيل أننا دخلنا الجنة، ونسبح في أنهار من الحلوى
والشوكولاتة، وكنت أتخيل أنني أطير بجناحين وأننا نجلس على
أرائك تتحرك، وتنتقل وتطير، ونقابل بعضنا البعض.
ً وعندما كبرنا قليلا، بدأ يشرح لنا سور جزء عم، ثم نتخيل يوم
القيامة، والحشر، وكنا نمشي على خط ترسمه أمي على الأرض
ونتخيل أنه الصراط، ونسير عليه وندعو الله أن ينجينا من النار.
ابتسمت بعد كلمات "سارة"، والتفت إليهن وقلت:
- فعلا "الخيال" نعمة، ولا بد أن نحاول توظيفه بطريقة صحيحة،
ً حتى نتقرب به من الله، وعموما سأحاول أن أسأل شيخا وأعود
بالإجابة التي تريحك يا "أسماء".
ّ ودونت السؤال في مفكرتي، وكتبت أيضً ا "مدرسة التخيل"،
وقررت أن أقرأ عنها.
ّ ثم ً طرحت سؤالا جديدا:
- من منكن تتخيل أحداثًا بشعة ومؤلمة ومدمرة؟
لم تقف أية طالبة، حتى "أميرة" التي سبق وأخبرتني بهذا بيني
وبينها، وتبادلت الفتيات النظرات، وبين همهماتهن قالت طالبة:
- أحيانًا أتخيل أنني فتاة من فلسطين تحارب وتقاتل لتحرر وطنها.
وقالت أخرى:
- أحيانًا أكلّم نفسي بصوت مسموع وأرد على صديقاتي اللاتي
أغضبنني، وأتشاجر معهن، وأقول أشياء كثيرة، وعندما أراهن هنا فياليوم التالي لا أقول أي شيء، ونتصالح فورا.
ّدق الجرس وانتهت الحصة للأسف.
ّ ودعتني الطالبات، والبسمة لا تفارق وجوههن النضرة، أسعدهن
ّ الحوار وطلبن مني أن أدخل في أي حصة يغيب معلّ ّ مها، ووعدتهن
بالحضور.
وأسرعت أعرج بقدمي خارج بوابة المدرسة، لأحاول إيقاف
ّ ني إلى البيت، فقد مزق الجوع أحشائي، وتعبت من
سيارة أجرة تقلّ
هذا اليوم الطويل، وأظنني لو سرت حتى البيت على أقدامي سأفقد
الوعي وأسقط في وسط الشارع،
لاحقتني"أميرة" التي لم أنتبه لشحوب وجهها إلا عندما وقفت
أمامي تحت ضوء النهار خارج المدرسة، وهمست إلي بصوت
ّ
مضطرب، وكانت نظراتها غير ثابتة عندما قالت:
- قريب أمي سيأتي اليوم، ماذا أفعل؟
نظرت إلى عينيها الحائرتين، ولم أفهم، توقعت أن يكون هناك شيء في رسالتها التي لم أقرأها، ربما عريس من أقاربها يود خطبتها مثلا
وخفت أن أخيّب آمالها،  ّ وأهزثقتها في إن عرفت أنني لم أقرأ رسالتها حتى الآن، فقلت لها وأنا أرفع كتفي وأفتح باب السيارة
الأجرة التي وقفت لي بصعوبة:
ّ - قابليه كأي ضيف يزوركم وتحدثي بتلقائية وبكلّ بساطة ثم
أغلقت الباب.
انطلقت السيارة، والتفت إليها لألوح لها من خلف زجاج النافذة،
فوجدتها واقفة بوجه شاحب، وعينين زائغتين تراقب ابتعادي عنها بوجوم،لم ترفع يدها لتحييني، وظلّت كالصنم مكانها حتى اختفت من
أمام عيني، وانتبهت على صوت السائق الذي كرر سؤاله أكثر من مرة
وأنا أنظر إلى الخلف أراقبها وقد أصابني الضيق:
- ما وجهتنا يا أستاذة؟
أجبته وأنا شاردة:
- شارع "الجمهورية"، أمام قهوة "ليالي زمان".
قررت أن يكون أول شيء أفعله عندما أصل إلى البيت هو أن أبحث عن الكيس الذي جمعت فيه رسائل الصندوق، وأبحث عن رسالة "أميرة" وأقرأها بسرعة.

غزل البنات Where stories live. Discover now