الفصل الثاني عشر

5.1K 271 0
                                    

جاءت « أميرة» بوجه حزين وعينين متورمتين، وأنف أحمر،
ودموع تجري، قالت وهي تقف على الباب وتستأذن بأدب قبل أن
تدخل:
- أستاذة «دعاء» هل تسمحين لي بالدخول؟
ّ هززت رأسي وأشرت لها بود أن تقترب، جلستْ بهدوء وهي تفرك
منديلا ورقيا في يدها المتعرقة والتي ظهرت آثار الحبر الأزرق على
أطرافها، وكانت ترتجف وهي تقول بصوت أسيف:
- أنا التي كتبت الرسالة المرقمة بالرقم أربعة، فهل قرأتيها؟
توقعت أنها الرسالة التي فتحتها ولم أقرأها، وهممت أن أخبرها
أنني لم أقرأها بعد، لكنها قاطعتني بصوت أسيف تخنقه عبرات
الحزن الدفين وقالت:
ً - أشعر بالخوف، أرجوك، لا تخبري أحد o ا وليكن هذا سرا بيني
وبينك.
- قمت من مكاني وأغلقت باب الغرفة، واقتربت منها وسألتها
عن السبب.
أغمضتْ عينيها في إعياء، فسالت دموع حارقة على وجنتيها تشي
بمعاناتها النفسية، ثم انهارت باكية بحرقة وتقوقعت في حضني،
ً مسحت على رأسها وتركتها حتى هدأتْ قليلا، وبدأت تحدثنيبكلمات سريعة، تزاحمت حروفها على شفتيها لتتحرر بأنفاس حارة،
لعلها تخفف من حرارة الحمم التي تلتهم صدرها فترتاح، وقالت:
- وددت لو كتبت لك أكثر، أنا في ضيق شديد بسبب هذا الأمر،
رسبت العام الماضي وها أنا أعيده مع طالبات يصغرنني بعام كامل،
ورفيقاتي الآن بالجامعة.
ً أبي غاضب مني، وأمي دائما تلومني لأنني أضيّع وقتي، ولا أحسن
ً التركيز، ودائما شاردة وتائهة.
هززت رأسي لتكمل، فأكملت بصوت متحشرج:
- أنا أتخيل نفسي وكأنني لست أنا، بشكل مختلف، وفي مكان
مختلف، وأتخيل أشخاصا وأسميهم وأتجادل معهم، وأعيش في عالم
آخر أحمله معي هنا.
وأشارت لرأسها ثم أكملتْ :
أغمض عيني وفي لحظة، أنتقل إلى هناك، أتحدث، وأبكي،
وأصرخ...
قاطعتها لأطمئنها وقلت بصوت واثق:
- «أحلام يقظة».. كلنا في عمرك مررنا بها، أنت فقط خيالك واسع
يا «أميرة» لا تقلقي.
طالعتني بنظرة جادة وقالت:
- أنا أحلم وأنا أسير وأنا آكل وحتى وأنا في لجنة الامتحان، بدأت
أخاف، أراني أمام قبر أمي أبكي، وأراني ألازم أبي وهو مريض بمرض
ّ خطير ويتعذب، وأتخيل أحدهم يعذبني أو يقتل أخي أمامي، أو
ً أن هناك لصا بالبيت، صارت أحلامي كوارث ومصائب. قاطعتهامستفهمة ومحاولة أن أستوضح ما تقصده وقلت بوضوح:
ً - «أميرة»، هل تنفصلين تماما عن الواقع، أم هو شرود فقط؟
تنقلت بعينيها في الغرفة وقالت:
- أبحث عن أي مكان هاديء، غرفتي، أو آخر مقعد في الفصل،
وأبدأ في التخيل، ولكن لو نادتني أمي أو أي شخص ينقطع الحلم،
هل أنا مجنونة؟
ّ عادت تبكي، وعدتُ لنظرتي الواثقة، ثم بدأت أنصحها، وأشجعها
ً قليلا، واستغرقتُ في سرد جمل رتيبة سمعناها ونسمعها عن ترتيب
الوقت والتركيز، والإيمان والطموح والمستقبل الذي سيتحدد
ً بمجموعها الذي ستتحصل عليه هذا العام، ونسيتُ أنني كنت يوما
مكانها، ونسيتُ شعوري بعدم الاتزان، وقلّة نضجي وقتها، ووجدتني
أكرر كلام الكبار الذي كنت وأنا في عمرها أملّ منه.
ً كانت نظراتها شاردة، وكأنّها لا تسمعني، بكت كثير ّ ا، ودق الجرس،
ً ودقت معه أجراس كثيرة في رأسي، فسألتها أن تبقى معي قليلا في
غرفتي، فربّ ً عت ذراعيها على سطح مكتبي، وأسندت رأسها، ورويدا
ً رويدا بدأت تفقد الإحساس بالأشياء من حولها ثم استسلمت للنوم،
ظللتُ الغرفة بستارة النافذة، وجلستُ أمامها أراقبها.... كم أنت
رحيم يا ربي، غشيتها غفوة بعد الهم والحزن فأمنت ونعست.
استيقظتْ بعد ساعة كاملة، وكنت على حالي أراقبها في صمت،
ُ ابتسمتُ لها، وطمأنت ُ ها بكلمات رتبتها خلال غفوتها، وقلت بصوت
ّ تصنعت فيه المرح، وحاولت أن أغطي على قلقي:
- من اليوم سنبدأ صفحة جديدة، سنتبادل أرقام الهواتف، وسنضعخطّة، سأشركك في نشاطات المدرسة، وسأكلفك بمهام لكي ينشغل
ً ذهنك بشيء عملي، ولن نترك مجالا لأية أفكار سوداء، فلتكوني
صديقتي وأختي من اليوم، ما رأيك؟
رأيت ابتسامة صغيرة تشق طريقها بين الدموع ارتسمت على
وجهها فأكملتُ وأنا أساعدها على النهوض:
- هيا يا أميرة، فلتغسلي وجهك، ولتعودي إلى البيت، ولتنسِ
ً تمام ً ا كل ما يقلقك، أعدك أن أكون دائما معك عندما تحتاجينني.
نظرتْ إلى عيني بقلق وقالت:
ّ
ُ - وما كتبته في رسالتي؟
رددتُّ بثقة:
ِ - فلتنسِ كل ما يقلقك، حتى ما كتبته في الرسالة.
استدارت وتركتني وأنا أتساءل، هل أنا أيضً ا بخيالاتي عن فارس
أحلامي مريضة أم مجنونة!
* * *
ّمر يومان ونحن في إجازة، تلقيت خلالهما ً اتصالا و ً احدا من
ً «أميرة»، يوم السبت نهارا، عقب أذان الظهر مباشرة، كانت وحدها
في البيت، دار بيننا حوار شيق عن أشياء كثيرة إلا نفسها!
ً كان صوتها مرح ً ا قليلا
ً وكأنها أخيرا وجدت متنفسا تسكب فيه بعضا مما فاض به قلبها
بعض الحزن
وامتلأ، سألتها مرة عن حال الأسرة فتغيّر صوتها، وشابَُه
وقالت:
أتعلمين يا أستاذة «دعاء»، قرأت مرة في كتاب بعضً ا من الجمل
التي أظنها تنطبق على أمي وأبي « أمي وأبي كالشمس والقمر، لا
يجتمعان لكن كلاهما مضيء...
كالزيت والماء لا يختلطان...
كالأبيض والأسود مختلفان.»
ّ ران علي صمت لدقيقة، فقد تخيّرت جملا عميقة ووصفها بليغ،
وكأنني أنصت إلى إمرأة عجوز في مغارة أو كوخ صغير فوق جبل
يبحث الناس عنها ويذهبون لزيارتها؛ طلبا لحكمتها البليغة
وكانت المسكينة تشعر أن هذا حال أمها وأبيها
وصلني المعنى وفهمت أن هناك خلافات بينهما تؤثر عليها،
سألتها عن أشقائها، فقالت:
ّ - لدي أخ واحد ويكرهني بشدة.
ً اتضح لي بعد ذلك أنهم لا يعرفون عنها شيئ ً ا، وأدركت أن كلا
منهم منعزل ومشغول بحاله رغم أنهم في بيت واحد.
الأب عضو بارز ومشهور في مجلس الشعب، والأم تعمل كمحاسبة
ً في شركة كبيرة، كلاهما منهك في عمله ويغيب كثيرا عن البيت، وإن
عاد فهو يعود للنوم أو تناول الطعام، ولن يكون هناك وقت ولا
ً قدرة لسماع «أميرة»، حتى شقيقها كان في واد آخر، كانوا بعيدا
بمسافات تكفي لخلق جدار عال من الصمت، صمت الجفوة، حين
تتسع المسافات بين الأرواح، فتتلاشى الرؤية، ويبقى السمع بلا
فائدة، وتتحطم الكلمات على الشفاه فلا يخرج صوت!، صمت مذاقه
ّمر، يجر إلى الوحدة والهجر النفسي.
واظبت «أميرة» على الحضور إلى مكتبي خلال الأسبوع، وصارت
تطمئن لي.
في أحد الأيام وجدت وأنا أفتح باب غرفتي بالمدرسة في الصباح
ّ رسالة دست من تحت الباب، انحنيت والتقطتها وقربتها من أنفي
فقد وجدت لها رائحة مميزة!، فتحتها- وكانت مكتوبة بعناية وخط
جميل-لأجدها من نفس الفتاة الغامضة، صاحبة الرؤى التي تتحقق،
وكان مكتوب فيها:
«رأيتك ترتدين فستانا لونه كزرقة السماء، تنحدر منه حبات
ّ اللؤلؤ، وشاب وسيم وطويل ينحني ليجمعها في كفه ويعطيها لك،
ثم تبعثرينها مرة أخرى.»
تذكرت فستان خطبتي لأحمد، وبدأت أشك أن تلك الفتاة تعرفني!
ً راجعت أسماء بنات الفصل الذي كنت فيه، وقضيت وقت ً ا طويلا
وأنا أفكّر، من يمزح معي؟
ّ فكرت أن أعود إليهن وأسأل عن من كتبت الرسالتين، لكنني
فضلت تجاهل الأمر كله.
وسط الأسبوع عدت لبيت أخي منهكة بعد أن ضاق صدري وحزنت
من أجل «أميرة»، وبعد أن تناولنا معا طعام الغذاء، استأذنت من
ً أخي لأخرج قليلا، وسرت في الطريق، أفكر في «أميرة» فاصطدمت
عيناي بلافتة كبيرة لطبيب نفسي مشهور في بلدتنا، وجدت نفسي
أسير إلى البناية، وأصعد الدرج بهدوء، أملي موظفة الاستقبال في
العيادة اسمي، وتعطيني رقما، وأجلس لأنتظر دوري، لم تكن عيادته
مزدحمة في هذا اليوم، راقبتني عيون الجالسين بريبة، وراقبتهم بفضول، وجوههم تشبه تلك الأخرى التي نراها حولنا لا تظهر عليهم
العلامات المريبة والحركات التي نراها في المسلسلات والأفلام، لم أشعر أنهم غرباء!
ربما يعانون فقط من بعض الضلالات النفسية.
كان هناك شاب يقرأ، وسيدة أنيقة تضاحك صغيرها، وشابة جميلة
جلست تقلّب في هاتفها الجوال، فضّ ل الجميع الصمت فابتلعهم
طائعين..
ّ وكأنّ الهم يضع كفه على أفواههم، وددت أن أسألهم واحدا تلو
الآخر عن سبب ألمه، وأخفف عنه، أطاحت بأفكاري المبهمة موجة
من تداعي المعاني، كنت أريد أن أفهم كلّ شيء عن كلّ إنسان
موجود بالعيادة..
ّ ووجدت لساني يلهج بالدعاء لهم، مر الوقت وجاء دوري ونادتني
الممرضة ودعتني للدخول فتقدمت بخطوات ثابتة.

غزل البنات Tempat cerita menjadi hidup. Temukan sekarang