الفصل السادس و العشرون

4.3K 243 0
                                    


عندما دلفت لغرفة "فيروز"، ظننت أنني سأرى مريضة منكوشة
الشعر، ممزقة الملابس، تصرخ، واللعاب يسيل من فمها، تخاطبني
بعبارات غير مفهومة.
وربما تضحك بهستيرية، لكنني وجدتها وعلى وجهها بقايا مسحة
من الجمال الباهت غير اللافت للنظر بحجاب رمادي، وعلى كتفيها
شال من الصوف الأبيض، وقد جلست معتدلة على فراشها كالطفل
الصغير الذي انتهى للتو من بكاء شديد، فمسحت أمه وجهه بالماء،
ً وألبسته ثيابا نظيفة، وربتت عليه وبقي ساكنا، هذا السكون الذي
ا حيث
يعقب بعض الأوجاع، والذي يكون هو أشد اللحظات هدوءً
تكون هناك هيبة....
بدت وقد أحدق بها الهم، وعضها المرض، فالتوى عليها سبيل
الهناء، ابتسمت لها وحييتها، أطالت النظر نحوي، وظهرت على وجهها
ّ علامات الاستغراب، وكأنها تستنكر وجودي، أشارت إلي وسألت
الدكتور "طارق":
- من هي؟
أجابها بهدوء:
- الآنسة "دعاء" تود إعداد بحث عن الخيال وأحلام اليقظة،
واقترحت عليها أن تلتقي بك، عقدت حاجبيها بشدة وكأنها تمسك بروحها المضطربة بينهما، وقالت بضيق وهي تهز رأسها:
- لا، لا، لا أريد أن أتحدث معها.
شعرت بالارتباك، وقمت بعد أن اعتذرت وكدت أغادر الغرفة لولا
أنها سألتني بصوتها الذي تصحبه بحة خفيفة وقالت:
- لماذا أنت هنا؟
ابتسمت بعد أن مررت سريعا بوجه الدكتور"طارق" الذي كان قد
سألني نفس سؤالها منذ قليل وقلت:
- تشغلني أحلام اليقظة، وأود أن أعرف عنها المزيد.
ضحكت ضحكة ممزقة حزينة وقالت:
- هي شعور جميل كلما ترتشفين منه ستزدادين عطشً ا
ً صمتت برهة وأنا عاجزة عن التفوه بحرف وأخيرا قالت بخفوت:
- لو غادرتني أحلام اليقظة دون أن أدونها لن يكون بالإمكان أن
أمسكها مرة أخرى، أدركت هنا سبب شغفها بالكتابة، فهي تشعر
بالأمان عندما تدون أحلامها.
التفت إلى الدكتور "طارق" ووجدته يقفز على منضدة منزوية
ويجلس عليها، ثم يستند بظهره على الحائط، ويربع ذراعيه ليتأملها
ّ وهي تتحدث إلي، فعدت واقتربت منها أكثر، وسألتها:
- وهل عندما تكتبينها تشعرين أنك وصلت إليها؟
أدارت رأسها إلى، وبنظرات غريبة نظرت في عيني بعمق ثم
ّ
ابتعدت بنظراتها وحملقت في الغطاء الذي كان يغطي ساقيها وقالت
بصوت واهن وكأنه ينحدر حتى يخفت:
لم أكن أعرف بأنني سأصبح مولعة بما كنت أعتبره هواية بسيطة
في بداية حياتي، كانت الكتابة هوايتي، وصرت أدمنها.
أسرعت أسألها وقد خفت أن تقطع الحوار فجأة، فلم أكن أتوقع
ً أصلا أنني سأحاورها هكذا وقلت مستفهمة:
- كيف تشعرين وأنت غارقة في الخيال؟
أجابتني بعد أن بدأت تظهر على وجهها ابتسامة خفيفة:
ً - أشعر أن هناك شيئا ما يصعد بروحي إلى مكان من الخفة
والنقاوة حيث لا يمكن لشيء أن يشدني إلى الأسفل، أرى اليراعات
ً وهي تطير وتومض هنا وهناك كأضواء الزينة، وأرى زهورا تتدلى من
أغصان الأشجار بجمال أخاذ.
شعرت ببهجة وهي تصف لي ما تحس به، ووددت أن أسألها مرة
أخرى، وقبل أن أنطق أشار إلي "طارق" ليسكتني، ووضع سبابته
ّ
على فمه، فعدت لصمتي واستطردت هي قائلة:
- أغمض عينى، وأتحدث مع كل شيء، حتى الجمادات وأوراق الشجر،
وأشم رائحة العشب الأخضر المبلل بقطرات الندى، وأسمع أصوات
العصافير وهمس السحاب، وأحيانًا أشعر وكأنني طفلة صغيرة أفلتت
ً أمها شعرها الناعم، وألبستها فستانًا جميلا ً واسع ً ا وطويلا، فركضت حافية
تحت زخات المطر، أشعر وكأن عقلي يجذب الخيال إلى رأسي كما
يجذب المغناطيس برادة الحديد إليه، أتعلمين يا "دعاء" لقد انتهيت
للتو من كتابة أحد أحلامي، وسأبدأ في تدوين حلم جديد.
ابتسمت لها واقتربت لأجلس قريبا منها على طرف الفراش،
ً فرفعت عينيها وتأملت وجهي وقالت وهي تميل برأسها قليلا:
عيناك جميلتان، كم عمرك يا "دعاء"؟
أجبتها:
ً - سبعة وعشرون عاما
ابتسمت والتفتت لأمها وقالت:
ً - سبعة وعشرون حلم ً ا جميلا، كم هو رائع!
مدت يدها تحت وسادتها وأخرجت صورة لطفلة رائعة الجمال
وقالت:
- هذه حلمي الجميل، حبيبتي "ياسمين"
تناولت منها الصورة، كانت لابنتها "ياسمين" وهي تجلس على
كرسي أنيق، بفستان أحمر،
وشعرها الأسود الفحمي يغطي جبهتها وينسدل على كتفيها
ليحيط بتموجاته وجهها القمري البريء، فتظهر عيناها الرائعتان
ابتسمت وقلت بفرح:
ً - كم هي جميلة!، إنها تشبهك تماما
تناولتها من يدي مرة أخرى وأمسكتها بحرص ومسحت بأناملها
على وجه ابنتها في الصورة وكأنها تتحسس بشرتها وقالت:
ً - نعم تشبهني كثيرا.
عادت لصمتها، وسكنت وكأنها لا تراني، ثم التفتت وأمسكت
ً بدفتر جديد كان على وسادتها، وبدأت تدون شيئا ما، حاولت أن
أختلس النظر لأقرأ ما تكتبته في منتصف الصفحة، لكنها أسرعت
وأخفته عني، وابتسمت بمكر وقالت بصوت ضحوك:
لا  تتلصصي على أحلامي.
تراجعت مبتسمة بحذر حتى لا أضايقها.
أشار إلى الدكتور "طارق"، فقمت بعد أن حييتها، لكنها هزت
ّ
ّ رأسها ولم تلتفت إلي، أمسكت أمها بيدي بين يديها الدافئتين وربتت
عليها بحنان، ومنحتني ابتسامة جميلة تشبه ابتسامة حفيدتها التي
رأيتها في الصورة، وقد كنت أتعجب من صمتها طوال جلستنا، ثم
خرجت ويشغلني سؤال وجهته للدكتور "طارق" فور أن أغلق باب
الغرفة عندما قلت له:
- رأيتها سعيدة بأحلامها وهي تدونها، فلماذا في عينيها كل هذا
الحزن؟
أجابني بعد أن حول نظراته عني إلى النافذة التي كانت أمام
غرفتها وتطل على مدخل المستشفى وقال:
- الاعتياد على الوجع يجعلك تستسيغينه، وربما تفتقدينه، فهي
تشعر من داخلها أن حالة الحزن شيء ضروري لها، فكتاباتها يتخللها
بعض الحزن.
طارت من رأسي كل الكلمات عندما رأيت السماء من النافذة
وقد اسودت، وأغرقت بأمطارها الغزيرة كل شيء، وخلا الطريق من
المارة والسيارات، تملكني شعور بالرهبة للحظات، فكيف سأصل إلى
ً البيت؟ وتذكرت شيئ ً ا هاما...
لاحظ الدكتور "طارق" نظراتي الفزعة، فتوقف عن الكلام فجأة
واتكأ على النافذة وسألني بصوت مرتاب:
- فيم تفكرين؟
أجبته بتوتر:
- أود أن أصلّي المغرب بسرعة
ابتسم وأشار إلى مصلى النساء، دلفت إليه بسرعة، وصليت
المغرب، وفور أن انتهيت من صلاتي أذن العشاء
شعرت بضيق شديد لأنني أخرت صلاتي وانشغلت بالحديث، وتذكرت
كيف كنت أنتقد من يفعلون هذا، وهأنا ذا أقع في نفس الخطأ!
ً وخرجت لأجد "طارق" لا يزال واقفا أمام باب الغرفة ومستندا
على الحائط بظهره، وقد رفع إحدى ساقيه واستند بقدمه على
كرسي قريب..
أقبل إلي وقال بعد أن وضع الهاتف على أذنه:
ّ
- أين تسكنين؟
ً تلجلجت قليلا وقد بدأت أتشتت فأنا لم أعتد على إخبار أي شاب
بمعلومات عني بتلك السهولة وقلت بحذر:
ا.
- في منطقة تبعد عن هنا ثلث ساعة تقريبً
بدا وكأنه يستمع إلى صوت من يحدثه على الهاتف، وقال ببهجة:
ِ - أين كنت يا "نورهان"؟ أقلقتني عليك؟
أخفض رأسه وهو يستمع إلى الإجابة، وسار بضع خطوات مبتعدا
وهو يضع يده في جيب بنطاله ثم قال:
- لن أستطيع العودة اليوم، فالأفضل أن أبيت هنا الليلة، وحاسوبي
ً ليس معي، سأنتظرك غدا إن شاء الله.
حاولت أن أبدي أنني منشغلة بالنظر من النافذة، وقررت أن أنصرف  حالا، فقد بدأت أتحرج من الوقوف معه، ومن أسئلته المباشرة.
وكلامه معي بلا كلفة وكأنه يعرفني من قبل، كما أنه وسيم وجذاب،
ولابد أن أحمي نفسي من الوقوع في الفتن، سأحافظ على كل قلبي
الذي عاهدت نفسي أن أغلقه أمام أية شائبة أو فتنة تعكّر صفوه
وألا أفتحه أبدا إلا لزوجي، ليكون لحبي الحلال مذاقه الخاص
ّ عندما يدق دقة الحب التي أنتظرها...نعم لا بد أن أنصرف الآن.
ً أنهى المكالمة سريعا، واقترب يحدثني.
وبينما كنت أستأذن منه لأنصرف، بتر كلامي بغتة وقال:
- لحظة، سأحضر لك نسخة مما صورناه من كتابات من "فيروز"
دون علمها لتطلعي عليها
هززت رأسي موافقة ووقفت مكاني أنتظر، لأجد أمامي والدة
"فيروز" التي خرجت من الغرفة واكتشفت أنها تبحث عني، وما إن
ً رأتني قالت فورا:
- الحمد لله أنني وجدتك.
نظرت إليها وابتسمت متسائلة فأكملت:
- "فيروز" تريد أن تراك، وأخبرتني أن أطلب من الدكتور "طارق"
أن يحضرك مرة أخرى، أرجوك تعالي معي الآن، فهي تود أن تعرف
المزيد من التفاصيل عن حياتك ويبدو أن الأمر يهمها.
حاولت أن أعتذر لها فقد بدأت أخاف ألا أجد سيارة أجرة تقلني إلى
البيت، لكنها عادت تتوسل إلي وقد لاحظت فرحة ابنتها بزيارتي لها!
ّّ وأمسكت بيدي وجرتني خلفها ووجدتني بعد لحظات غارقة في حوار عميق مع "فيروز" التي
ً سألتني كثيرا عن نفسي، وعملي، وأهلي
وحتى شقيقتي رحمها الله
ومرت ساعات، تخللتها لحظات صمت وتفكر منها، كدت في كل
مرة أنصرف
لولا نظرات أمها التي كانت تحثني على البقاء، كانت "فيروز"
تتفادى نظراتي وتسمعني فقط وهي تنظر إلى الحائط الخالي أمامها
وكأنها ترسم في مخيلتها ملامح الحلم الجديد، وكنت أحاول أن أعود
ببصري إليها فجأة لأقبض على نظراتها إلي ً ، والتي كانت تنزوي سريعا
ّ
ً بعيدا عن عيني ونحن نتحاور، أطل علينا الدكتور "طارق" مرة واحدة
ً من خلف الباب، وتركنا سريعا، ولم أره مرة أخرى إلا وهو يعطيني
ً ا ثقيلا بعد أن خرجت من الغرفة، كان يحوي ما طبعه من
ًظرفا ورقيً
كتابات "فيروز" لأطلع عليه، وقد شعرت بالرعب عندما نظرت إلى
ساعتي ووجدتها قد تخطت العاشرة والنصف ليلا.

غزل البنات Tempat cerita menjadi hidup. Temukan sekarang