الفصل الثالث و العشرون

4.1K 261 0
                                    

برزت الشمس من خدرها وأخذت تنفض بيدها غبار الظلام عن
وجه الأرض، استيقظت بنشاط، لم تكن المرة الأولى التي ّ أعد فيها
الطعام وحدي، لكنني شعرت أنني مرتبكة، اضطررت إلى النزول إلى
السوق القريب من البيت لأشتري بعض الخضروات.
تذكّرت كل نصائح أمي التي كانت تقولها لي وأنا أستعد للذهاب
ً إلى السوق، وفي كل مرة تلاحقني على الدرج وتطلب شيئا نسيت
أن تكتبه في قائمة المشتريات، اشتريت وكأنّي أحضر لها ما تطلبه
لأطهوه معها.
عدت وأنا متحمسة، ودخلت المطبخ، ووقفت أدور حول نفسي،
استيقظ خالي وضحك عندما رآني أجلس على أرض المطبخ، أراد أن
يساعدني لكنني أبيت.
مر الوقت وخرج خالي لصلاة الجمعة، وبدأ السباق مع الوقت.
أنهيت الطعام، وصلّيت ثم عدت أرتّب المائدة، كنت بارعة في
إعداد السلطات وتزيين الموائد.
اخة ماهرة،
ً عادا سريع ً ا، وكنت فخورة جدا بنفسي، وأنا أقف كطبّ
ّ وأضع راحتي يدي على خصري، وأتأمل شكل المائدة التي رتبتها
ً بمهارة، دعوتهم أخيرا للطعام وجلست أنتظر المدح.
لكنني اكتشفت أن الأرز كان يحتاج للمزيد من الماء لينضج جيدا،
وأظن أنني بالغت في إضافة الفلفل الأسود لطاجن الخضراوات مما
ً جعل "أحمد" يسعل كثيرا ويطلب الماء، وليتني انتبهت للدجاج قبل
أن يحترق...أما السلطات فكانت رائعة.
المهم، تناولنا الطعام، وأضحكتني تعليقات خالي على الطعام،
وقفشات "أحمد" التي انتزعت الابتسامة من فمي، وكان السبب
ً طعامي اللذيذ طبعا.
ّمر بنا الوقت، ووجدتني أجلس أمام "أحمد"، وفي يده كوب
ً الشاي الساخن، وخالي يغادرنا حاملا ً كوبه ليجلس أمامنا بعيدا أمام
التلفاز، يرانا ولكنه لا يسمعنا.
التفت"أحمد"إلى وقال وهو يبتسم:
ّ
ِ - أتعبناك اليوم.
أجبته وأنا أتذكّر وجهه وهو يحاول ابتلاع الأرز بصعوبة وقلت:
ّ - في المرة القادمة إن شاء الله سيكون الطعام أفضل.
أشرق وجهه بابتسامة واسعة وقال:
ا سيكون هناك مرة قادمة إن شاء الله؟
ً - إذ ّ
فهمت ما يرمي إليه فقلت موضّ حة:
- أنا أقصد الطعام وليس أي شيء آخر.
ّ وضع كوب الشاي ونظر إلي بجديّة، وقال:
- لن أسألك عن سبب رفضك لي فجأة؟ لأن السبب الذي وصلني
غير مقنع بالنسبة لي.
قاطعته بتبرم:
- لكنه سبب مقنع بالنسبة لي!
أردف قائلا:
- دعيني أكمل، أعلم أن لديك مواصفات محددة تتمنينها في
ِ زوجك، كما كانت لي مواصفات أحلم بها ووجدت معظمها فيك، فهل
يا ترى تلك المواصفات التي لم تجدينها في "أحمد" الجالس أمامك
الآن من الممكن أن تتنازلي عنها إن أحسست أن هناك مواصفات
أخرى ترضيك فيه، وتساعديني ولنتعاون حتى أسعدك وأرضيك
ً وتكمليني وأكملك، ونكون روحا واحدة كمالها في اجتماعنا معنا؟
ّ ران علي صمت للحظات، فقد كنت أتوقع أن يسألني "لماذا
ِ رفضتني"، وعن أسبابي، ثم يبدأ في انتقادها بعد أن أخبره بها.
ً فكّرت قليلا ثم قلت له بوضوح:
- أخاف أن أندم، أنت غالب ما فيك من صفات تتمناها الفتاة
في زوجها، لكنني كنت أتخيل نفسي في حياتي مع شخصية بصفات
ً معينة، وددت أن يكون البيت الذي سأقيمه مع زوجي بيتا على
أسس وقواعد صحيحة وسليمة، أنا أفكر في أولادي إن شاء الله وليس
في نفسي فقط.
فرك يديه بعصبية وسألني بنبرة صوت منخفضة عن تلك التي بدأ
بها كلامه معي:
- هل هناك شخص آخر تنتظرينه؟ أنا من الممكن أن أنسحب
بهدوء، ولن أضغط عليك أو أسبب لك أي حرج..
أغضبني سؤاله وقلت بعصبية:
طبعا لا يوجد، أنا لست من هذا النوع من الفتيات!
أشار بيده لأخفض صوتي الذي لاحظت أنه ارتفع عندما التفت
خالي فجأة، وقال:
- آسف، لا أقصد، فأنا وكما هو واضح أفرض نفسي عليك، وأطاردك
ّ وربما هذا لأنك....غالية علي ّ ولك مكانة خاصة، وفكرت أنه قد يكون
هناك شاب آخر قد وعدك أن يخطبك في المستقبل بصورة رسمية،
وأنك تنتظرينه لظروف مثلا تعيقه في الوقت الراهن، أو...
قاطعته وقد بدأت أشعر أن وجهي سيحترق خجلا وقلت:
ً - فعلا ّ لا يوجد أي شخص، أنا التي رفضتك بكامل إرادتي دون أي
مؤثّرات خارجية على قراري
فأنا أرفض أن أستغلّ مشاعرك وأنا لا أشعر بك، وأعتذر لصراحتي،
لكنني فعلا شعرت بفتور رهيب.
قال بصوت مرتبك:
ً - إذا أنت لم ترفضيني فقط لأنك تريدين زوجا كامل التدين، بل
ّ أنت أيضً ا لم تتحرك مشاعرك تجاهي.
هززت رأسي موافقة فقال بصوت هادىء:
ا عندما أحدثك لا تنظرين إلى ً إطلاقا، ولا أذكر أنك
-"دعاء" غالبً ّ
ً نظرتي في عيني لنصف دقيقة كاملة، عيناك دائما تهرب من عيني،
حتى يوم خطبتنا، كنت أنا فقط من ينظر إلى عينيك، كنت أود أن
تري نفسك في عيني ِ ، لكنك منعت نفسك، وحرمتني أيضً ا من رؤية
ّ
نفسي في عينيك، أرجوك ارفعي عينيك وانظري إلى عيني مباشرة،
ّ
نصف دقيقة فقط...نصف دقيقة بلا كلام.
أجبته وقد ارتبكت قليلا:
-حسنا، هأنذا أنظر إليك
حاولت جاهدة أن أرفع عيني وأنظر إلى عينيه، لكنني لم أتمكّن
من إطالة النظر إلي عينيه، و كل ما استطعته، هو خطف نظرة
سريعة، حيث أننى لم أعتد على هذا..،
ً لاحظ ارتباكي وأردف قائلا:
ِ - ما زلت تهربين، يبدو أنك لا تتقبلين الأمر.
حتى لو "نصف دقيقة" لتتخذي بعدها قرارك!
عامة، هذا ما أردت إثباته لنفسى ولك.. وقد نجحت، أنت ترفضين
النظر إلى ً تماما رغم أن هذا من حقك، ولا أدرى لماذا؟!!
ّ
ا؛ لأنك لو
ّ ولكن ّ ى أعلم أنك بهذا قد حكمت علي حكما سطحيً
نظرت إلي ً لربما كنت ستلمسين صدقا في الحديث والوعود بما
ّ
يمكن أن يطمئنك أو يشرح صدرك وتشعرين بالقبول...
ولكنك كمن يرفض أن يفتح الباب من الأساس...
ّ عموما لن أضغط عليك أكثر من ذلك، فقد مرت النصف دقيقة
ا عنك رغم حضوري أمامك.
وما زلت غائبً
ّ تنهد، وقال بصوت تخالطه رنّة الحزن ورعدة الألم:
- هناك أشياء نحتاجها، وأشياء نتمناها، وفي النهاية لا يأتينا إلا ما
يرضاه الله لنا، وفي المنع منه كل العطاء، الحمد لله.
اني تحيّة وجيزة وحرك رأسه بأدب،
وقام بعد أن استأذنني، وحيّ
ووضع يده على صدره، وكأنه فارس نبيل ينسحب بشرف من مبارزةاختار أن يخسرها إكراما لي..
سلّم على خالي، وخرج وأنا أشعر بارتباك شديد، لا أدري لماذا
ّ أوجعني وداعه هذه المرة...
ّ ظلّ خالي يسألني بعد انصراف "أحمد" عن رأيي، وأنا أكرر بصوت
واهن:
- لا أدري يا خالي، لا أدري.
ربّت خالي على كتفي، وقال بصوت واثق:
- أسأل الله أن يلهمك رشدك.
تذكرت عندها الرؤيا الثانية التي كتبتها لي الفتاة الغامضة في
رسالتها، ورأيتها الآن تتحقق.
ات اللؤلؤ،
"رأيتك ترتدين فستانا بلون السماء، تنحدر منه حبّ
ّ وشاب ينحني ليجمعها في كفه ويعطيها لك، ثم تبعثرينها مرة
أخرى."
ّمرت الليلة ثقيلة على نفسي، حتى برودتها القارصة لم تخفف
من النار التي اشتعلت في صدري، ازدحمت رأسي بالأفكار، وامتلأت
بالهموم، لا أدري لماذا كنت حزينة وأنا صاحبة القرار برفضه!
تأكّدت أنه لن يعود مرة أخرى، صلّيت ودعوت له، وانتزعت
نفسي من أفكاري، وحاولت أن أنام..

غزل البنات Où les histoires vivent. Découvrez maintenant