الفصل الأول

17.6K 354 11
                                    

مش تنسوا الفوت و الكومنت 😅😅

قبل عدة أشهر
"أيوه يا رورو أنا في الحارة اهوه، دقايق و هتلاقيني قدامك و الله".
أغلقت الخط مبتسمة من توبيخ صديقتها على تأخيرها..
نعم مبتسمة!
أليس التوبيخ يعني اهتمام؟
و هي في أمسّ الحاجة إليه، و لا تجد سوى صديقتها تمنحها إياه، لذا تستقبله بكل نهم!
**********
"أيوه يابني أنت فين؟"
تطلع حوله بضياع، يحدق في الحارة الشعبية التي يقف على أعتابها.
"أنا في وشي على طول شارع، مكتوب على أوله حارة....".
فيصله صوت صديقه المستغرب: "و أنت ايه اللي وداك هناك؟
احنا مش متفقين اننا هنتقابل في شقة سيد".
تطّلع حوله، و قد أيقن أنه ضلّ الطريق، فتعالى صوته بغيظ:
"و الله أنتوا شكلكم باعتيلي العنوان غلط، ابعتلي اللوكيشن تاني، أنا زهقت".
فيصله صوت صديقه المُستنكِر: "هنبعته غلط ازاي يعني!
تلاقيك أنت اللي دخلت في شارع غلط، شوف أي حد و اسأله يدلك".
و أغلق الخط دون أن ينتظر رده، ليتأفف الأخر بحنق، ساباً صديقه بأفظع الالفاظ.
"لو سمحتي يا آنسة، ازاي اروح حي....؟"
سأل أول شخص مر أمامه.
لتلتفت إليه الفتاة بلا مبالاة، و تُجيبه: "معرفش".
و تحركت مُتابعة طريقها.
ليستوقفها سريعاً لـ..
لا يعلم لِمَ حقاً!
لأنها تحدثت معه بلا مبالاة في سابقة لم تحدث معه من قبل، هو اللاعب المشهور الذي يتهافت الناس على نظرة منه -خاصة الفتيات- نظراً لوسامته و ابتسامته الجذابة، و تصرفاته العفوية!
أم لأنه كان يرغب في فرصة أكبر للتحديق فيها، بملامحها المُريحة، و ملابسها المُحتشمة التي تخفي جسدها جيداً عن الأنظار.
"أنتِ مش عارفة أنا مين و لا أيه؟
أنا آدم جاسم".
تأففت الفتاة بنزق، و قالت: "آدم جاسم مين احنا هنستهبل!"
ارتفعا حاجباه اعتراضاً و غضباً، مردداً كلمتها بحنق:
"نستهبل!"
فتستطرد هي بقوة: "قسماً بالله لو ما مشيت من هنا لأخليهم ياخدوك على نقالة..
روح شوفلك واحدة من مستواك تعاكسها".
هل تظن هذه الغبية أنه يُغازلها؟!
كاد أن يرد عليها، لولا أنه رآها تسير بسرعة مُبتعدة، لتختفي في الحارة المُزدحمة.
عاد ليصعد إلى سيارته، مُبرطماً بعدة كلمات غاضبة:
"أيه هي فاكرة نفسها مين علشان اعاكسها، تكونش انجلينا جولي و أنا مش واخد بالي!
ده أنا آدم جاسم اللي الكل بيتمنى مني نظرة".
ليفتح بعدها هاتفه، و يتطلع إلى الموقع الذي أرسله له صديقه، مُحاولاً الوصول إلى العنوان.
**********
سارت في الحارة تستقبل ابتسامات المُحيطين بها و سؤالهم عن أحوالها..
هم هكذا، يعطفون عليها، يسألون عنها إذا ما احتاجت لشئ، و لكنهم لا يقتربون منها، لا يوافقوا على أي صلة تربطهم بها، مُقتنعين أنها نذير شؤم، أنهم إذا ماقتربوا منها سيُصيبهم أذى، لذا الأفضل أن تظل العلاقة بينهم سطحية، لا تتعدى نطاق الجيرة.
و على الرغم من أن هذا كان يجرحها، و نظراتهم الخائفة كالسهام في قلبها، إلا أنها اعتادت على ذلك، فأصبحت لا تهتم، أو تتظاهر بعدم الاهتمام!
وصلت إلى منزل صديقتها، لتصعد على درجاته المتهالكة، و التي تُشير إلى قدم هذا المنزل، وصلت إلى الشقة المطلوبة، لتطرق الباب بهدوء، و ما هي إلا ثواني حتى فتحت لها شقيقة صديقتها الصغيرة..
لتظهر روضة من خلفها، قائلة باستهزاء:
"أنا في الحارة اهوه و الله، دقايق و هتلاقيني قدامكِ..
انهي حارة دي، أنتِ بتلعبي بعقلي؟"
قبلت أماني الطفلة التي لا يتجاوز عمرها عشر سنوات، ثم نظرت إلى صديقتها، و رفعت إصبعها بيراءة مُقسمة:
"و الله و الله و الله، شوفي ثلاثة و الله، كنت داخلة الحارة و أنا بكلمك، لكن واحد رخم وقفّني، قال أيه تايه".
استرعت كلماتها انتباه روضة، لتسألها باستنكار: "تايه، وهو فيه حد بيتوه في حارتنا برضه، دي كلها شارع".
تجاهلت أماني كلماتها، لتحيي والدي روضة و شقيقها الأخر، ثم جلست على الأريكة القديمة بلونها البني الباهت..
لتُجيبها أخيراً: "ده و لا من الحارة و لا قاصدها أصلاً، جدع كده شياكة و راكب عربية محترمة".
لتوليها كل العائلة انتباهها، فأن يأتي إلى حارتهم البسيطة شخص بهذه المكانة أمر لا يتكرر إلا كل عدة سنوات مرة، هذا إن حدث من الأساس!
"و ده كان عايز أيه ده ياختي؟"، سألتها والدة روضة بفضول.
لتتذكر أماني كلماته التي ألقاها عليها، و التي كانت تحمل الكثير من الغرور، خاصة و هو يُعرّف عن نفسه.
"أنا عارفة يا خالتي، أنا أحسبه بيعاكس لا مؤاخذة، خصوصاً إنه كان معتز بنفسه أوي و هو بيقولي أنا آدم جاسم".
"مين؟"
تعالت الصيحات المستنكرة من حولها، و العائلة تنظر إليها ببلاهة، لتحدق فيهم بدهشة، هاتفة:
"بسم الله، مالكم فيه أيه؟"
ليسألها زياد شقيق روضة الأصغر: "أنتِ قولتي أسمه أيه؟"
تبعته ريم -الطفلة ذات العشر سنوات-: "آدم جاسم اللي هو آدم جاسم؟"
ثم قالت روضة بعدم تصديق: "مستحيل، أنتِ أكيد بتهزري".
لوت أماني شفتيها بحيرة و هي تستمع إلى كلماتهم المُبهمة بالنسبة إليها، لتقول بنزق:
"هو فيه أيه، مين آدم جاسم ده يعني؟"
تعالت الضحكات من حولها، و هي تنظر إليهم بعدم فهم..
لينهض زياد بسرعة قائلاً: "أنتِ بتقولي شوفتيه عند مدخل الحارة صح؟
طب أنا هجري على هناك يمكن يكون لسه موجود و أشوفه".
و غادر المنزل بسرعة، و هي تشيّعه بحيرة.
"ماحد يفهمني فيه أيه؟، و مين آدم ده؟"
تعالت ضحكات والدة روضة، و قالت قبل أن تنهض مُتجهة إلى المطبخ الصغير: "يقطعك يا أماني، ده أنا اللي مبفهمش في الكورة أعرفه".
فتبعتها روضة قائلة بتوضيح: "آدم جاسم ده ياستي حالياً أكبر لاعب في مصر، و مرشّح بقوة إنه يلعب في كأس العالم".
لترفع أماني كتفيها بلا مبالاة، فهي لا تهتم بالكرة أبداً، و لا تتابع أخبارها، و لا تعرف لاعبيها..
و حتى إن عرفتهم، فلن تتهافت عليهم و على لقائهم بتلك الطريقة، ففي الأول و الأخير هم بشر مثلهم مثلها.
"و أيه لاعب كورة يعني، ميستاهلش كل اللي بتعملوه ده".
لتتحدث الصغيرة ريم، و التي لا تنطلق بالحديث إلا في وجود أقرب الأقربين: "ميستاهلش، أها أصلك مبتتفرجيش عليه، مبتشوفيهوش بيرقّص المدافعين ازاي، و بيخلي الحارس هيعيط و الكرة بتعدي قدام عينه للشبكة..
أهااا ياااااني".
"أها ياني، و بيرقّص المدافعين!
أنتِ يا فصعونة أنتِ اتعلمتي ده كله أمتى و ازاي؟"
سألتها أماني بدهشة.
فأجابتها روضة ضاحكة: "البركة في بابا و زياد بقى، أربعة و عشرين ساعة فاتحين قنوات الرياضة، لما بقينا حافظين اللاعيبة و المحللين".
ثم سحبتها من ذراعها، قائلة: "سيبك سيبك، تعالي أما نقعد في الأوضة شوية".
**********
دخلتا كل من أماني و روضة إلى غرفة الأخيرة، غرفة ضيقة تحتوي على سرير متوسط الحجم، و دولاب صغير يحتل جانبها..
جلستا على السرير، لتقول روضة بغمزة مرحة: "بقى تشوفي آدم جاسم بحاله، يا جامد".
تأففت أماني من ذكر ذاك الرجل الذي تكرر أسمه أكثر مما ينبغي في الساعة الأخيرة، فقالت مُنتقلة إلى موضوع أخر:
"سيبك منه بس و قوليلي، أخبارك مع فارس أيه؟"
انقلبت ملامح روضة المرحة إلى أخرى مهمومة فور ذكر أسمه..
فارس حبيب قلبها، و خطيبها، و لكن زواجهما مؤجل حتى إشعار أخر!
"أهوه الحمد لله".
كلمتها البسيطة لم تلقى استحسان أماني، فهي تعلم تمام العلم ما يدور في نفس صديقتها.
"الحمد لله على كل حال..
و غيره، أيه أخر الأخبار؟"
تنهدت روضة بحزن، فماذا تقول لها؟
ليبقى ما في القلب في القلب، و لا حاجة للعبث في الآلام.
"هو مش كان بيدور على شغل مسائي طيب، عمل أيه؟، لقي و لا لسه؟"
سألتها أماني بفضول قلِق، رغبة منها في الاطمئنان على مستقبل صديقتها، و الذي مازال حتى الآن بلا ملامح!
فأجابتها روضة بيأس: "و اهوه لسه بيدور، يعني هو الواحد بيلاقي شغل بسهولة اليومين دول".
لينتقل يأسها إلى أماني، و لكنها قتلته في المهد، بإيمان و ثقة في الله، لتقول باثة إياهما إليها:
"متقوليش كده بس، ادعي و ربنا مش هيردك، و هنفرح بيكم قريب إن شاء الله".
فدعت روضة بتضّرع: "يارب يا أماني يارب".
ثم تربّعت في جلستها، مُبعدة حزنها إلى أقصى مكان في قلبها، فيكفي ما بصديقتها!
"المهم قوليلي أنتِ عاملة أيه؟"
ليظهر حينها الأسى على ملامح أماني، حزن لا يُفارق قلبها رغم إنكارها!
"زي كل يوم".
و جملتها تلك رغم صغرها، إلا أنها كانت تعني الكثير و الكثير..
كثير من الحزن..
كثير من الحرمان العاطفي..
و كثير من التحمّل!
تحمّل كلمات تستفزها، همزات و لمزات تلاحقها في كل مكان، و قصص تُحكى و إشاعات تُشاع عنها!
و هي تتحمل كل هذا، مُتجلدة بصبر لا تملك سواه!
"ربنا يسهّلها يا حبيبتي، و يرزقكِ بالزوج الصالح".
لتستقبل أماني كلماتها بقلب مُغلق و عقل رافض، فهي ليست غبية لتُكرر المأسآة مرة أخرى!
**********
عاد آدم إلى منزله بعد أن قضى يوماً رائعاً مع أصدقائه، على الرغم من بداية هذا اليوم السيئة!
بدّل ملابسه مفكراً أن البداية لم تكن بهذا السوء، على العكس لقد كانت جميلة، كجمال تلك الصدفة التي جمعته مع فتاة من نوع أخر، نوع لم يراه أو يتعامل معه من قبل، مُغرياً لاستكشافه و معرفته!
هز رأسه بقوة مُنفضاً تلك الأفكار عن عقله، خطأ..
التفكير في أمر تلك الفتاة أكبر خطأ يرتكبه في هذه المرحلة خصيصاً، فكل ما عليه هو التركيز في مستقبله، و السعي و الاجتهاد للوصول إلى حلمه، اللعب في كأس العالم!
لذا و بكل تصميم أبعد هذه الفاتنة عن عقله، بعينيها السوداء الساحرة، و قامتها التي تقريباً تصل إلى كتفيه، و جسدها المتواري خلف ملابس واسعة..
أبعدها عن تفكيره بإصرار.. لا يمتلكه!
خرج آدم إلى والديه ليجلس معهما، و يفتح التلفاز على أحد البرامج الرياضية التي يُتابعها بشغف، و التي و لحُسن حظه كانت تتحدث عن كأس العالم المُرتقب.
"يارب يابني يحقق حلمك و يختاروك يارب".
وصلته دعوة والدته الصادقة، ليلتفت إليها قائلاً بأمل:
"أيوه يا حجة ادعيلي، أنا محتاج دعواتكِ دي أوي".
"ربنا يكرمك يابني، و يرزقك باللي تتمناه"، تعالى دعاء والدته.
ليسأله والده بعدها: "هما المفروض هيختاروا القايمة امتى؟"
فأجابه آدم بعد تفكير: "بعد شهرين كده تقريباً، بيقولوا أخر أسبوع في الدوري".
ليدعو والده هو الأخر: "ربنا يوفقك يابني".
تمتم آدم ب (يارب) قبل أن يوّلي اهتمامه للبرنامج المُذاع، و مع ذلك كانت عينان سوداوتين تتراءى أمامه، مُشتتة تركيزه للحظات.
**********
وصلت إلى منزل عمها- المُقيمة فيه- بعد ساعات قضتها في منزل صديقتها، و التي تعتبره منزلها أكثر من هذا!
لم تكد تدخل، حتى وصلها صياح زوجة عمها على أولادها، و الذي انتقل إليها فور أن رأتها!
"أنتِ جيتي يا أماني، كنتِ فين من الصبح؟"
فأجابتها أماني باختصار، رغبة منها في إنهاء محادثة إن استمرت ستضفي مزيداً من الحزن إلى قلبها.
"كنت عند روضة يا خالتي".
مصمصت ابتهال شفتيها بعدم رضى، قبل أن تقول: "و قبضتي النهاردة على كده و لا؟"
و قبل أن تُتابع سؤالها، أخرجت أماني بعض النقود من حقيبتها و أعطتها لها، تزامناً مع قولها:
"قبضت.. قبضت يا خالتي".
لتخطف ابتهال الأموال من يدها، و تبدأ في إحصائهم دون أدنى خجل!
و لِمَ ستخجل و هذه الأموال من حقها؟
أليس زوجها فقد عمله و حياته بسببها هي نذير الشؤم هذه، و التي منذ أن اقتحمت حياتهم و المصائب لا تتركهم، فلا يكادوا يخرجوا من واحدة، حتى تسقط على رؤوسهم الأخرى!
و لولا الخوف من أحاديث الناس عنهم، لكانوا ألقوا بها في أي دار منذ زمن!
"دول ناقصين يا عينيا، أنتِ أخدتِ منهم و لا أيه؟"
و ماذا في ذلك؟
أليست هذه الأموال حقها، نتيجة كدها و تعبها لساعات؟
فلِمَ لا تأخذ منها ما تريده؟!
و مع ذلك، بررت بصدق: "ما أخدتش حاجة يا خالتي، يعني هعمل بيهم أيه؟
دول هما اللي خصموا من كل واحد يومين".
شهقت ابتهال بصدمة، و هي تُعيد إحصاء الأموال بعشوائية، لتتأكد من صدق كلمات أماني، ثم قالت بامتعاض:
"ليه يا حسرة، دول كلهم ألف جنيه، أومال لو كانوا بيدوكم اتنين و لا تلاتة كانوا عملوا فيكم أيه؟"
تنهدت أماني بهم، قبل أن تقول: "أهو ده اللي موجود يا خالتي..
بالأذن بقى أنا هدخل أنام".
قالتها ثم اتجهت إلى الغرفة الصغيرة، التي تضمها هي و أبنتي عمها، تاركة زوجة عمها تحصي الأموال و ترى ما ستفعله بها.
**********
استلقت على سريرها، بعد أن بدّلت ملابسها لقميص نوم مريح، غير مبالية بقدمه و لونه الذي فقده من كثرة غسيله..
أغمضت عينيها لثواني معدودة، ثم فتحتها سامحة لحزنها بالظهور، متمثلاً في الدموع التي تلتمع في مقلتيها، و ارتجاف شفتيها..
انقلبت لتنام على بطنها، كاتمة صوت شهقاتها في وسادتها، و ذكريات و أحلام تندفع إلى مخيلتها..
ليتراءى أمامها، بوجهه البشوش و ابتسامته السمحة التي كانت تخترق قلب أي مَن يراه، فتغزو ابتسامة صغيرة ملامحها، قبل أن تعود إلى دموعها!
حسن زوجها، حسن الأخلاق المتفهّم، و الذي رآها مرة و هي مع خالتها في سوق الخضار، فأُعجب بها و تقدم لخطبتها، غير مدرك لما سيحدث له!
تعالت شهقاتها و هي تتذكر مصيره، سقوطه من أعلى البناية التي كان يعمل فيها، لتصبح أرملة بعد عقد قرانها بأيام، و قبل عرسها بشهرين، و هي لازالت في التاسعة عشر من عمرها!
حاولت السيطرة على شهقاتها و كتمها حتى لا ينتبهوا مَن في البيت إلى بكاءها..
لتعود و تسخر من نفسها، فحتى إن انتبهوا لن يهتموا!
داهمت ذكرياتها الحادثة التي تعرّض إليها خطيبها (رأفت) و الذي خُطِبت إليه بعد أن أتمت الثالثة و العشرين من عمرها بعدة أشهر..
لم تمر حينها على خطبتهما أسبوعين، ليصلها نبأ إصابته بحادث سير، و دخوله في غيبوبة لم يستيقظ منها حتى الآن!
و ها هي تكاد تتم الثامنة و العشرين، فتاة يخاف الجميع الاقتراب منها، فهي كاللعنة التي ما أن تحل عليهم يصابوا بأذى!
ابتسامة أخرى عادت لتغزو شفتيها، و وجه صغير بضفيرتين متلاعبتين يتراءى أمامها..
تلك الطفلة أبنة إحدى العاملات التي تعمل معها في مصنع الأقمشة، و التي جاءت إليه اليوم..
يا الله كم هي جميلة.. شهية.. شقية..
كم تتمنى أن يكون لديها طفلة مثلها، و كم تخشى من ذلك!
تخاف أن تُرزق بطفلة فتُصاب بلعنتها فتؤذى..
لذا الأفضل أن تظل هكذا، بلا زوج.. بلا رفيق.. بلا حبيب.. بلا أطفال، حتى لا تتحمل ذنب أُناس أخرين..
تمتمت ب "كده أحسن"، قبل أن تغط في نوم عميق، و دموعها ترطب وجنتيها.
**********
تسحّبت إلى المطبخ كي تستطيع التحدث معه براحة، فغرفتها الصغيرة تشاركها فيها شقيقتها الصغرى، و الغرفة الأخرى لوالديها، و على أريكة الصالة ينام شقيقها الأخر، لذا أنسب مكان للتحدث مع حبيبها هو المطبخ!
"أيوه يا حييبي، روّحت و لا لسه؟"
على الطرف الأخر
تمدد فارس على السرير بتعب، و قدميه لا يشعر بها من فرط السير طوال اليوم بحثاً عن عمل، ليُجيبها بإرهاق:
"لسه داخل اهوه".
فسألته بأمل لا ينضب، أمل لا تعيش على سواه، فهو السبيل لبدء حياة جديدة معه.
"طب طمني، لقيت شغل؟"
ابتسم بيأس على نبرتها المتلهفة، و شعر بالإحباط لأنه سيقتل هذه اللهفة و سيقضي على فرحتها الوليدة بحروفه الصغيرة.
"لاء".
تهدّل كتفيها بيأس تمّلك منها، و لكنها جاهدت لتخفيه، فحبيبها يبذل ما في وسعه ليجمعهما بيت واحد.
"و لا يهمك يا حبيبي، بكرة تُفرج إن شاء الله".
"أنا صحيح مالقيتش شغل، بس لقيت شقة".
ألقى هذه الكلمات دون مقدمات، مُنتظراً رد فعلها الذي يتوقعه..
أما هي، فلم تعلم إن كان حقاً نطق بما سمعته أم أنه يخيّل لها!
"أنت قولت أيه؟"
فأعاد كلماته ببطء مُستمتعاً بصدمتها: "بقولك.. لقيت.. شقة".
لتتعالى صيحتها المستنكرة: "احلف!
بجد يا فارس؟"
تحولت ابتسامته إلى أخرى سعيدة، نابعة من سعادتها المتجليّة في نبرتها، ليقول مؤكداً:
"بجد يا قلب فارس، و بكرة الصبح إن شاء الله هنروح نشوفها".
لتصمت و قلبها يرفرف سعادة و.. خوف!
خائفة من أن تفرح و تأمل، فتُقتل فرحتها و ينقضي على أملها..
فبعد ثلاث سنوات خطبة، أصبحت تعتقد أن زواجها من حبيبها.. حلم مستحيل!
"روضة، روضتي، أنتِ روحتي فين يا بت؟"
فأجابته بفرحة: "معاك.. معاك يا فارس، بس أصلي مش مصدقة، معقولة لقيت شقة بالسهولة دي".
ليلوي شفتيه بعدم رضى، فأي سهولة تتحدث عنها و عمرهما ضاع في عقد قران؟!
"احنا بقالنا ثلاث سنين مخطوبين على فكرة، و أنا باقيلي سنة و أكمل الثلاثين".
لتوضح له وجهة نظرها: "أنا قصدي إننا كنا مأجلين موضوع الشقة لغاية لما تلاقي شغل تاني، فاتفاجئت إنك لقيت واحدة".
فقصّ عليها ما مر به اليوم، و ملاقاته لصديق له أخبره أن لديه شقة للإيجار بمبلغ مناسب لحالته، و أن عليه الإسراع إن كان ينوي تأجيرها قبل أن يأخذها أحداً أخر.
"بس ياستي، فاتفقنا إني أقابله أنا و أنتِ بكرة الصبح و نروح نشوفها".
فتصله نبرتها الفرِحة: "الله الله يا فارس، أنا فرحانة أوي بجد، يارب الموضوع ده يتم على خير بقى".
ليهمس داعياً: "يارب يا حبيبتي..
بقولك أيه أنا هقفل بقى لاحسن همووت من التعب و عايز أنام".
"طيب يا حبيبي، تصبح على خير".
همستها قبل أن تغلق الخط، مُقبلة الهاتف بسعادة.
لتعود بعدها إلى غرفتها، و تستلقي بجوار شقيقتها، و الأحلام و الأمنيات تُداهم عقلها..
عن شقة صغيرة تجمعها مع حبيبها، و أطفال ينيروا حياتهما، لتغفى و هذه الصورة تتراءى أمامها، و كلها شوق لغد أفضل.
**********
صباح اليوم التالي
التقيا روضة و فارس مع صديق الأخير، و بعد التحية و السؤال عن الأحوال اتجهوا جميعاً إلى الشقة المطلوبة..
دلفوا إليها، ليتسمرا فارس و روضة مكانهما و هما يرا ما يحيط بهما..
كان دهان الشقة باهت، و الجدران مشققة عليها الكثير و الكثير من الأوساخ..
تحركا للداخل، ليمرا أولاً على المطبخ، و الذي كان صغيراً، و جدرانه و شرفته ذات لون أصفر قاتم..
فتركاه و اتجها إلى الحمام، ليتوقفا على بابه غير قادرين على رؤيته من رائحته الكريهة.
ليصلهما صوت الرجل الذي معهما: "هي حيطان المطبخ عليها زيت، يعني لو حد وقفلها نصاية هترجع تلمع..
و الحمام بس محتاج تنضيف و تظبيط شوية".
ليرد عليه فارس بسخرية: "أها ماهو واضح".
تعمقا بعدها إلى الداخل، ليصلا إلى غرفتي النوم، و اللتان كانتا أفضل حالاً من بقيّة الشقة..
ليعودا مرة أخرى إلى الصالة، و يقفا في منتصفها حائرين..
فيقول ذلك الرجل مرة أخرى: "و الله يا فارس الشقة لقطة، خسارة تضيع من أيدك، مش هتلاقي حاجة مناسبة بسهولة الأيام دي..
و أنت أكيد عارف ده كويس".
و جملته الأخيرة كانت إشارة واضحة إلى وضعهما المادي المتدني، و ارتفاع أسعار الشقق سواء كانت للإيجار أو التمليك لدرجة ألا يستطيعا الحصول على واحدة.
فسألته روضة: "و هي إيجارها كام على كده؟"
ليبتسم الرجل بقوة، و يقول مهادناً لجذبهما: "و الله يا ست هانم صاحبها طالب فيها ألف و خمسماية جنيه، بس أنتوا علشان حبايبي ممكن أكلمه و ننزلها مايتين و لا تلتماية كده".
ليردد فارس خلفه: "مايتين و لا تلتماية، أها".
ثم يعلو صوته قائلاً: "طب يا شبح، ادينا وقت نفكر و هنرد عليك".
فيُسارع ذلك الرجل بالقول باستنكار: "وقت!
لا وقت أيه يا فارس مينفعش، الشقة لو عجباك سيب عربون على الأقل، لكن وقت و تفكير مش حتتي، أنا مش مسئول لو الشقة راحت لحد غيرك..
طالما الفلوس جاهزة أنا مقدرش أقول لاء".
لتتلاقى عينا فارس و روضة بنظرات ذات معنى، و كأنهما يتحاوران عن طريقها، ليقول فارس بعدها:
"ربنا يسهل".
**********
صفّ سيارته ناظراً حوله باستغراب!
ما الذي جاء به إلى هنا؟
يُفترض أن يذهب إلى النادي للتدريب، فلِمَ جاء إلى هذه الحارة مرة أخرى؟!
حدّق في ساعته ليجدها تُشير إلى الثالثة، أي نفس الموعد الذي قابل فيه تلك الفتاة أمس، فاتجهت نظراته تلقائياً إلى الجهة التي جاءت منها اليوم الماضي، مُنتظراً ظهورها أمامه بنفاذ صبر هو نفسه لم يفهمه!
رغبة مُلّحة بداخله لرؤيتها مرة أخرى، رؤيتها و التحديق في عينيها السودواتين فقط، و بعدها سيُغادر هذه الحارة بلا رجعة!
طرق على المقود برتابة، و نظراته تجول باحثة عنها، و بين كل ثانية و أخرى ينظر إلى ساعته مُتسائلاً عن سبب تأخيرها!
"أنت أهبل يابني، هي لازم يعني تيجي في نفس الميعاد؟
افرض أنها كانت امبارح بتشتري حاجة مثلاً و ده مش ميعادها، واقف أنت مستنيها ليه بقى؟
و بعدين الساعة عدت ثلاثة و نص و أنت تأخرت على تدريبك، امشي بقى و شوف مستقبلك".
أنهى كلماته المؤنبة لنفسه، ليترجّل من سيارته، و يدخل إلى الحارة، ساباً هذه الفتاة و الساعة التي رآها فيها!
ليعود و يؤنب نفسه هامساً: "و الله أنت أهبل، داخل ليه البتاعة دي دلوقتي، ماتمشي من هنا بقى".
لكن القلب لم يستمع لكلماته، و توغل إلى الداخل أكثر!
وقف في منتصف الحارة حائراً، ليضرب جبينه بعصبية، و يقول بصوت بدى واضحاً لمَن يقفوا بجانبه:
"أديك دخلت الحارة، هتعمل أيه بقى يا فالح و أنت حتى اسمها متعرفهوش؟!"
ليصله صوت أحد الأشخاص: "خير يا بيه فيه حاجة؟"
التفت إليه بحرج، و للمرة الثانية يسب الفتاة التي وضعته في موقف لا يُحسد عليه.
"لا أبداً أنا بس".
ليقطع كلماته صياح ذلك الشخص: "أيه ده، هو أنت هو؟"
و اقترب منه مُمعناً في ملامحه بطريقة أثارت ارتياب آدم، و جعلته يتراجع للخلف عدة خطوات.
ليصيح ذلك الشخص مرة أخرى: "أنت و ربنا أنت..
يا معلم.. يا معلم، تعالى شوف مين عندنا".
فهم آدم مايحدث، حينما وصلت إلى أذنيه نبرة خشنة متذمرة: "فيه أيه ياض يا حمامة، بتزعق كده ليه".
ليتسمّر في مكانه و هو يرى مَن أمامه، ثم ما لبث أن صاح هو الأخر:
"ايه ده، الكابتن آدم بحاله، يادي النور يادي النور، اتفضل.. اتفضل يا كابتن".
و رافق كلماته بسحب مقعداً من قهوته، ليضعه أمام آدم و يدعوه للجلوس..
فجلس آدم مبتسماً بحرج، و عيناه قد نست للحظات البحث عن ذات الأعين السوداء.
و في غضون دقائق، تجمَع معظم رجال و شباب الحارة حوله، مرحبين به بفحاوة، و معبرين عن مدى حبهم له و إعجابهم بمهاراته..
و آدم يستقبل كل هذا بابتسامة سعيدة بحب الناس له، فخورة بما قام بإنجازه!
لينقضي الوقت و هو مندمج في أحاديثهم، مبهور بتواضعهم و بساطتهم في الحديث، حتى نسى أمر الفتاة تماماً، حتى!
ظهرت أمامه، تخطو بتعب، و نظراتها مُثبتة على أحد المباني لا تُفارقها، ترجوها أن تصل إليها في أسرع وقت، فلم يعد لديها القدرة على السير أكثر..
ليفز من مكانه فوراً، و عيناه تتابع خطواتها بشوق لم يفهمه..
ليسأله المعلم: "فيه حاجة يا كابتن، خير؟"
انتبه إلى ما يفعله، و رد فعل الرجال المحيطين به إن علموا أنه ينظر إلى واحدة من فتياتهم، فأبعد نظراته عن البناية التي دخلت إليها، و قال بارتباك:
"مفيش حاجة، بس أنا لازم امشي".
ليرحل بعد أن ودعهم، فيقول أحد الرجال بحيرة:
"إلا صحيح، هو أيه اللي جابه هنا!"
انتهى

و كان القدر (كاملة)Onde histórias criam vida. Descubra agora