الفصل الخامس

7.3K 278 11
                                    

مش تنسوا الفوت و الكومنت

كانت تود أن تصرخ عليه، تسبه، تذكّره بما فعلته معه أخر مرة مهددة إياه بفعلها مرة أخرى، أو ربما تفعل الأسوأ!
فمن الممكن مثلاً أن تطلب له الشرطة و لا تتركه إلا بعد أن يوقّع على عدم التعرض لها!
و لكنها لم تفعل كل ذلك!
خشت أن تبادله الحديث فيستغل الفرصة و يسحبها إلى حيث ما لا تريد!
و خشيت أن تطلب له الشرطة فيضعها في عقله بطريقة أو بأخرى و تكون هي الخاسرة الوحيدة!
لذا وجدت أن أفضل حل هو المغادرة بصمت!
أما عن صديقتها، فسيكون لها معها حساباً عسيراً.
كان آدم يتأملها بابتسامة و كأنه أول مرة يراها، و هي بالفعل كذلك بالنسبة له!
ففي المرات الماضية كانت بالنسبة إليه فتاة الحارة التي لا يعرف عنها شيئاً، و كل ما يجعله يقترب منها هو انجذابه لها..
أما الآن فهو يراها كأماني، الفتاة التي عانت في حياتها و ظُلِمت كثيراً، و قد أيقن أن مشاعره نحوها ليست إلا حباً!
خرج من أفكاره و هو يراها تغادر المطعم، ليقفز من على مقعده، و بخطوة واسعة كان يقف أمامها.
"رايحة فين؟"
قربه منها وتّرها و جعل نبضات قلبها الساكنة تتسارع، فتراجعت خطوة للخلف و هي تحاول السيطرة على نفسها، ثم قالت بنبرة صارمة:
"أنا مش قولتلك متقربّش مني تاني!"
ابتسامته اللامبالية أكدّت لها أن كلماتها دخلت من أذن و خرجت من الأخرى، فقالت مُستفزة إياه ليبتعد عنها:
"و لا أنت بقى عايزني أعمل معاك زي أخر مرة!"
و أرفقت كلماتها بضحكة عالية، خفتت تدريجياً و هي ترى احمرار وجهه، و سمعت نبرته المحذرة:
"مش من مصلحتك إنك تفكريني بده، خصوصاً إننا لسه متحاسبناش".
يحاسبها!
مَن يظن نفسه؟
"و تحاسبني بصفتك أيه إن شاء الله؟"
أجابها ببرود و من دون تفكير: "جوزك إن شاء الله".
انتفض قلبها و كلمته تخترق مسامعها، فتتسارع نبضاتها بسعادة و عدم تصديق!
ليستغل هو ذلك و يسحبها معه إلى الطاولة..
جلس أمامها، يتأمل شرودها و عدم انتباهها له بشفقة، و بداخله يعدها أن يعوضها عن كل معاناتها!
"تحبي تشربي أيه؟"
سألها بهدوء و كأن ما حدث لم يحدث، و كأنه للتو رآها!
إلا أنها لم ترد عليه، و عقلها مازال لا يستوعب ما قاله!
"أماني".
انتفضت واعية لما حولها، لتنقلب ملامحها فجأة، و تعود إلى وجهها الجليدي.
"عارفة لو قومتي و سبتيني هعمل فيكِ أيه؟"
قالها بصرامة و هو يراها تهمّ بالمغادرة مرة أخرى.
لتنظر إليه أماني بحدة، و تقول من بين أسنانها: "أنت عايز مني أيه؟"
فيُجيبها ببرود مرة أخرى: "قولتلك عايز اتجوزك".
لم تسمح لجملته بالتأثير عليها هذه المرة، فلابد من إغلاق هذا الموضوع نهائياً!
"تتجوزني؟
و أنت تعرف عني أيه علشان تقرر كده؟"
رمقها بنظرة تكشف دواخلها، و قال بنبرة أثارت ريبتها: "اعرف عنك كل حاجة، أكتر مما أنتِ تتخيلي".
هل يُعقل أن تكون روضة أخبرته عن حياتها؟
هزت رأسها نافية هذه الفكرة، فلو كان كذلك لكان هرب كمَن قبله!
لتصدر ضحكة ساخرة، ثم تقول بنبرة مليئة بالمرارة: "تعرف كل حاجة!
يعني تعرف إني وش نحس مش بيعيشلي غالي؟
تعرف إن اللي بيفكر بس مجرد تفكير إنه يكلمني أو يقرّب مني بيتأذي، و مش بعيد يموت؟"
أغمض عينيه و مرارتها تنتقل إليه، فتبعث في قلبه حزناً لن يداويه سوى سعادتها!
"أيوه عارف ده كله".
مستحيل!
هل أخبرته روضة؟
و كيف لازال يريدها بعد أن علم بقصتها؟
بالتأكيد يتلاعب بها و لا يريدها سوى تسلية!
"و عارف ده كله و عايزني، طب ازاي!"
ليردد جملة والده التي قالها له: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".
تمتمت بـ( و نعم بالله) قبل أن تقول بعدم اقتناع: "حتى لو، مفيش إنسان عاقل يقبل يدخل برجله النار..
إلا بقى لو الموضوع عندك لعب و تسلية!"
كان يعلم أنها ستظن مثل هذا الظن فيه، فقال حاسماً الموضوع: "حدديلي ميعاد مع عايلتك علشان اجي و اطلب أيدك".
توسعت عيناها دهشة غير مصدقة أنه يقول هذا حقاً، و كادت أن تكذبّه.. تعترض، إلا أنه قال قبلها:
"بس طبعاً مش قبل ماخد حقي منِك!"
لتتزيّن ملامحها بالحيرة، و هي تسأله: "حق أيه؟"
ابتسامة جانبية ساخرة ارتسمت على شفتيه، و هو يقول: "يا سلام على البراءة، و لا كأنك عملتيلي حاجة!
أنتِ أصلاً مفضحتنيش خالص!"
فهمت أنه يقصد ما فعلته معه من قبل، و على الرغم من تأنيب ضميرها لها الأيام الماضية، إلا أنها أبت إظهار ذلك له، بل قالت بكل عناد:
"و إن مبعدتش عني هعمل فيك الألعن، روح شوفلك واحدة تانية تتسلى بيها..
فاكر نفسك هتضحك عليّا بكلمتين!"
تأفف بضجر و كلمة تسلية تعود و تتكرر بين حروفها، مع أنه وضّح لها صدق نيته و طلب زيارة عائلتها!
"طب اعملك أيه علشان تصدقي إني مش بتسلى بيكِ؟"
عادت المرارة تسيطر على نبرتها، لتقول بعينين شاردتين بحزن: "تبعد عني خالص، صدقني ده أحسن حل ليك، أنت متعرفش يعني أيه حياتك تبقى مهددة بالخطر، و ممكن لا قدّر الله أهلك يفقدوك في أي لحظة، أنا جربت الإحساس ده مع أكتر من شخص، و مش مستعدة أشيل ذنب شخص جديد بيحصله حاجة بسببي".
أكثر من شخص..
كانت هذه الجملة تشير بشكل أو بأخر إلى علاقاتها السابقة، و هذا آثار غيرته بشدة، مما جعله يقول بتهوّر:
"بس أنا بحبك".
ابتسمت بسخرية تخفي بها انتفاض قلبها داخل صدرها، و قالت: "بتحبني بآمارة أيه؟
أنت شوفتني كام مرة؟
و تعرف عني أيه؟
متقوليش إن روضة حكتلك عن كل حاجة في حياتي، لأني متأكدة إن روضة مقالتلكش غير اللي يخليك تقرب مني".
ليهتف بأول ما جاء إلى عقله: "الحب مش محتاج وقت".
"بس محتاج عقل".
جابهته بقوة..
ثم أردفت: "مينفعش أبقى عارف إن الحب ده هيضيّع مستقبلي و يقهر أهلي عليّا و أفضل وراه".
"مفيش حد بياخد أكتر من نصيبه"، رد عليها بثقة.
لتهز رأسها بيأس، فمهما قالت له لن يقتنع و لن يتركها، فلجأت إلى أخر حل تملكه و متأكدة أنه سيبعده عنها تماماً:
"خلاص يبقى تيجي أنت و أهلك زي ما كل الناس بتعمل و تطلبوا أيدي".
"لا".
كلمة واحدة.. صغيرة.. حاسمة، خرجت من بين شفتيه بجدية و دون أدنى تردد..
ليسكن قلبها المنتفض بخيبة أمل، بعد أن كانت السعادة تملأه لأنه لازال مرغوباً!
بينما يصيح عقلها بانتصار: "مش قولتلك إنه مش عايزك غير علشان يتسّلى بيكِ!
تلاقيه عايزكم تضربوا ورقتين عرفي ياخدك بيهم كم شهر و بعدين يرميكِ..
أومال، أنتِ كنتِ فاكرة أيه!"
"مش قبل ما تعتذري عن اللي عملتيه، و احمدي ربنا إني هقبل باعتذار بيننا و بين بعض بس، رجل غيري كانت أقل حاجة ممكن يعملها يخليكِ تعتذريله في نفس المكان اللي أهنتيه فيه و قدام كل الناس".
هل هذا كل ما يهمه؟، اعتذار!
"ده على أساس إن المشكلة كلها واقفة على اعتذار؟
و إن أهلك هيوافقوا عليّا عادي كده؟
بوضعي و ظروفي و مستوايا الإجتماعي!"
لم يهتم إلا بجملتها الأخيرة، ليقول بابتسامة واسعة: "مستوى أيه؟
أنتِ فاكراني عيّل توتو مولود و في بوقه (فمه) معلقة دهب!"
تفاجئت بأسلوبه المرح، و رغماً عنها ضحكت على كلماته.
ليبتسم سعيداً بضحكتها، و هو يشعر أنه قد بدأ يتسلل إلى قلبها!
"على فكرة بقى، أنا اتربيت في حارة زي اللي أنتِ اتربيتِ فيها دي بالظبط، بس أنا بقى جريت ورا الفرصة فالبلية لعبت معايا و بقيت زي مانتِ شايفة كده".
ليعود إلى موضوعه الأصلي، فيقول: "أظن دلوقتي معندكيش أي أسئلة تاني..
يلا بقى اعتذري".
"هو أنت معندكش غير اعتذري اعتذري، على الأقل غيّر الكلمة".
قالتها بعصبية بعد أن سدّ أمامها كل الأبواب التي تستطيع بها الهرب منه..
تباً، ألا يعرف أن كل ما تفعله من أجله هو لا هي؟!
"طب اتأسفي، حلو كده؟"
تأففت بحنق، فمهما فعلت لن تؤثر فيه و لن يبتعد، إذاً هو مَن جنى على نفسه، و ليتحمل نتيجة اختياره!
"أنا آسفة يا سيدي، حلو كده؟
و....".
ليقاطعها بحدة: "لا مش حلو، ده تسليك مش اعتذار..
اتأسفي علشان أنتِ عارفة من جواكِ إنك غلطانة، مش علشان أنا عايز كده".
عضت شقتيها بندم، هي بالفعل نادمة على ما فعلته  و تلوم نفسها كثيراً على الرغم من مكابرتها، و لكنها لا ترغب في إظهار ذلك له حتى لا يتمسك بها أكثر!
و نظرة الندم التي ظهرت في عينيها، كانت كافية جداً له، فهتف:
"اهي النظرة دي بمية اعتذار من اللي قولتيهم..
بس متفتكريش إن الموضوع هيقف عند اعتذار بس، لاء، أنا هفضل احاسبك على اللي عملتيه لغاية لما احسّ إني ارتحت".
مغرور، كيف يهددها هكذا و هو يعرض عليها الزواج؟!
"المفروض أنا أوافق اتجوزك و أنت بتهددني؟"
ليهز رأسه معترضاً على كلماتها، و يقول ببطء: "تؤ تؤ، أنا مش بهددك، أنا هحاسبك على غلطتك، و ده من حقي، و لا أيه!"
لوت أماني شفتيها بعدم رضى، و قالت: "أيه أحاسبك على غلطتك دي، أنت شايفني طفلة قدامك و لا أيه؟"
"و أحلى طفلة".
باغتها بكلمته، لتعود نبضاتها للتسارع و وجهها للاشتعال بخجل.
"هو أنتِ في كل حالاتك حلوة كده، و أنتِ مكسوفة و حتى و أنتِ متنرفزة..
ده ربنا يعيني بقى".
ازداد تسارع دقات قلبها حتى ظنت أنها ستفقد وعيها، فجاهدت للسيطرة عليها و عدم إظهار تأثرها له..
"هما روضة و فارس راحوا فين؟"
ابتسامة مشاكسة ملأت وجهه، فقال و هو يغمز لها بعينيه: "مبتعرفيش تتهرّبي من الموضوع على فكرة".
فرقعت أصابعها بتوتر، لتقول و هي تنظر إليها، مبتعدة عن نظراته التي تشعر بها تخترقها: "اتهرّب ازاي أنا مش فاهمة".
"مش فاهمة بجد؟"
و السؤال ترافق بغمزة أخرى كادت أن تقضي عليها..
لتنقذها صديقتها مما هي فيه بقدومها هي و خطيبها.
"أماني احنا لازم نمشي دلوقتي..
هتيجي معانا و لا أيه؟"
سألتها و عيناها تتجه تلقائياً إلى آدم، محاولة استشفاف نتيجة المقابلة من نظراته..
في حين أن أماني تملّكها القلق من طلب صديقتها للمغادرة، فسألتها:
"فيه أيه؟
حصلت حاجة لا قدّر الله؟"
عادت روضة بنظراتها إلى صديقتها، بعد أن فشلت في تحديد ما آلة إليه المقابلة، لتهتف بتوضيح:
"لا أبداً يا حبيبتي متخافيش، بس أصل فيه سمسار اتصل بفارس، فهنروح نشوف الشقة يمكن ربنا يفرجها بقى".
و من دون تردد، سحبت أماني حقيبتها، و نهضت قائلة: "بجد؟، طيب أنا هاجي معاكم".
لينهض آدم بدوره، و هو يقول: "أنا هوصلكم".
ليتولى فارس الرد معترضاً، و هو يقول: "لا شكراً يا كابتن".
"بس".
فيقاطعه فارس بتصميم: "مفيش داعي تتعب نفسك، احنا هنعرف نروّح!"
ثم التفت إلى خطيبته و صديقتها، و هتف: "يلا".
لتهمس روضة بـ (مع السلامة) بنبرة خافتة، في حين تجاهلت أماني آدم من الأساس!
تحركتا الفتاتين مع فارس، ليستوقف آدم أماني بقوله: "أماني لحظة".
التفتت إليه الفتاة بحيرة، في حين ابتعدا كل من فارس و روضة، ليتركا لهما الحرية في الحديث.
"نعم؟"
فرك آدم مؤخرة رأسه، و هو يقول: "أنتِ عارفة، أنا امبارح اتهزأت بالمعنى الحرفي من المدرب بتاعي بسببكِ".
رفعت حاجبيها باستنكار، و كادت أن تنفي عنها أي شئ يحدث لها، فهو مَن اختارها و يركض ورائها..
ليُتابع آدم بتوضيح: "كنت عمّال أفكر فيكِ و في اللي عملتيه، متعصب منكِ و في نفس الوقت قلبي لسه جواه حاجة ليكِ، و ده كان منرفزني أكتر، فمبقتش مركز في التدريب، راح المدرب هزأني و استبعدني من المباراة الجاية".
ألهذه الدرجة؟
أيُعقل أن تكون أثّرت عليه لدرجة أن تؤثر على مهنته و مستقبله؟
أيحبها حقاً كما يدعي؟
و ما نتيجة هذا الحب؟
هل سيحدث له كما حدث لمَن قبله؟
ليردف آدم بابتسامة واسعة: "بس دلوقتي أنا حاسس إني.. إني..
بصي أنا مش عارف أوصفلك، بس أنا متأكد إني لو لعبت الماتش الجاي هتكون دي أكتر مرة بلعب فيها كويس من ساعة ما بدأت..
و ده بسببكِ أنتِ طبعاً".
و مع أنها ظلت محتفظة بملامحها الجامدة، إلا أن داخلها كان مثاراً بمشاعر غريبة لأول مرة تعيشها، فتتساءل، هل ستظل الدنيا مبتسمة لها للنهاية؟
منحها آدم غمزة مشاكسة، قبل أن يغادر المطعم، عازماً على الاتجاه إلى ناديه و إقناع مدربه بشتّى الطرق أن يلعب المباراة القادمة، و سيفوز من أجلها!
"مش يلا احنا كمان بقى و لا أيه؟"
قالها فارس و هو يرى تجمد أماني في مكانها، و مقلتيها المثبتتان على المكان الذي كان يقف فيه آدم..
لترتسم ابتسامة واسعة على وجه روضة، مليئة بالرضى إثر حصول صديقتها على السعادة أخيراً، فتسحبها معها إلى الخارج، داعية لها بالتوفيق في حياتها.
**********
دارت روضة في الشقة أكثر من مرة و هي تضحك من دون شعور، و فارس يدور خلفها مبتسماً براحة منذ سنوات لم يشعر بها!
"الله، دي حلوة أوي أوي..
أيه رأيك يا أماني، حلوة صح؟"
لتشاركها أماني فرحتها، و هي تقول: "حلوة أوي يا حبيبتي، ربنا يتمملكم على خير".
سعِد رجل العقارات المصاحب لهم بفرحتهم بالشقة، فهذا بالنسبة له يعني نقوداً تدخل في جيبه، فقال مُزيدا من جمال الشقة في عيونهم: "و الله يا أستاذ مهما لفيت مش هتلاقي شقة حلوة و بسعر مناسب زي دي، واسعة و لسه متشطبة جديد كمان، حاجة كده على الزيرو".
و بالفعل كانت الشقة كذلك، فلقد كانت تتكون من صالة واسعة، و حجرتين كبيرتين إلى حد ما، و الأهم من كل ذلك أن إيجارها كان مناسباً لحالة فارس المادية.
"طيب يا حج هو النظام هنا ازاي؟"
فهم الرجل أنه يسأله عن نظام الدفع، فأجاب بابتسامة:
"إيجار شهر و شهر تاني تأمين، و شهر زيهم لمحسوبك".
"مش كتير دول شوية؟"
تحدثت روضة بعدم رضى.
ليُسارع الرجل بنفي: "كتير أيه بس يا آنسة، و بعدين ده نظام الكل هنا، و أكيد أنتوا لافين و عارفين".
نعم، هما يعلما ذلك جيداً، لذا لم يجادله فارس، و قال: "يعني أنت عايز دلوقتي ألفين و ربعماية (أربعة مائة) جنيه؟"
"الله ينوّر عليك يا أستاذنا"، قالها الرجل بابتسامة سمجة.
فهتف فارس: "تمام يا حج، على بالليل إن شاء الله هاجي و اجيبلك معايا الفلوس و نمضي العقد، حلو؟"
"لا مش حلو"، هتف الرجل باعتراض.
ليسأله فارس بارتياب: "ليه بس؟"
فيجيبه الرجل بصراحة: "بص يا أستاذ طالما حضرتك مدفعتش عربون يبقى أنا معرفكش..
يعني لو و احنا نازلين لقينا واحد عايز يأجر الشقة هفتحله الباب و أقوله أهلاً و سهلاً".
و للمرة الثانية لم يستطع فارس مجادلته، فهذا هو النظام السائد!
"طيب أنت عايز كام؟"
فيجيبه الرجل بابتسامة: "أي مبلغ، بس في الأخر يبقى اسمه عربون يخلي الشقة بتاعتك".
تنحّى فارس جانباً، و أخرج الأموال التي في جيبه و أحصاها، ليجدهم لا يتعدوا المائة جنيه، مبلغ لا يستطيع إعطاءه إلى الرجل.
تبعته روضة، لتسأله: "أيه؟"
التفت إليها فارس بإحباط يظهر في نظراته، و رفع أمامها الأموال، قائلاً: "مكنتش عامل حسابي إن ممكن حد يتصل، فما أخذتش من الفلوس و أنا نازل".
لتبتسم له روضة مطمئنة، و تفتح حقيبتها مخرجة منها عدة ورقات نقدية، و هي تقول:
"حظك حلو، مطلعتش مرتبي من الشنطة من امبارح، زي مايكون قلبي حاسس".
قهقه فارس على كلماتها الأخيرة، و أخذ منها الأموال، ليعود إلى الرجل و يعطيها له، واعداً إياه بالعودة قريباً و معه بقيّة النقود لتوقيع العقد.
**********
"لولولولولولولولولي".
زغردت والدة روضة بفرحة تملأ قلبها، ثم ضمت الفتاة إلى أحضانها، مهنئة إياها بسعادة.
"ألف ألف مبروك يا قلب أمك، و أخيراً هفرح بيكِ يا حبيبتي".
هبطت دموع روضة من السعادة، فمع مرور الوقت و تطور وضعها هي و خطيبها من سئ إلى أسوأ، بدأت تفقد الأمل في أن يجمعهما بيت واحد، و أصبحت تشعر أن هذا حلم مستحيل!
و لكن..
إنما بعد العسر يسرا..
و بالفعل أفرجها الله عليهم في نهاية الأمر، و قريباً سيُغلق عليها هي و فارس باب واحد.
"الله يبارك فيكِ يا ماما..
أنا مبسوطة أوي بجد، لا مبسوطة أيه، أنا طايرة من الفرحة".
"ربنا يزيد من فرحتك يا بنتي".
دعى لها والدها بحب.
لتسرع روضة إليه، و تقبّل كفه باحترام، ثم تقول:
"و يخليكِ ليا يا غالي، و ميحرمنيش منك أبداً".
ربّت والدها على وجنتها بحنو.
لينطق فارس حينها بما يتمناه قلبه منذ سنوات: "أنا بقول طالما الشقة جاهزة، و معظم العبش (الأثاث) الحمد لله اشتريناه، مفيش داعي نأجل أكتر من كده بقى، و بدل ماحنا متفقين على كتب كتاب بس يبقى كتب كتاب و فرح..
أيه رأيك يا عمي؟"
انتظر فارس رد والد روضة بلهفة، و رمقت روضة والدها بنفس اللهفة، مُترجية إياه بنظراتها أن يوافق و يُفرح قلبهما.
و لم يخيّب الرجل ظنهما، حيثُ أومأ برأسه موافقاً، و قال:
"على بركة الله، خلونا نحدد الميعاد".
لتتعالى الزغاريد مرة أخرى من روضة و والدتها، و تشاركهما أماني، بينما أشقاء العروس يصيحون بسعادة.
**********
مساءً
في منزل عم أماني
بدّلت أماني ملابسها، لتستلقي بجانب أبنة عمها الصغرى الغارقة في نوم عميق، إلا أن النوم جفاها هي، و آدم لا يغادر تفكيرها..
لا تفهم أي أحمق هو ليقترب منها بهذه البساطة!
و لا تصدق أن روضة ذهبت إليه و قصّت عليه حكايتها، صحيح أنها لم تحاسبها حتى الآن حتى لا تفسد عليها سعادتها، و لكنها لن تنساها، و قريباً ستحاسبها على ذلك حساباً عسيراً!
انقلبت على جانبها الأيمن مفكرة أنها كاذبة، و تكذب على نفسها قبل أي أحد أخر!
فهي ليست غاضبة من روضة بسبب ما فعلته، على العكس هي سعيدة، سعيدة جداً، و قلبها يرفرف من الفرحة، مسبباً لها الألم!
تعلم أنها متناقضة، و أن شعوري السعادة و الألم لا يمكن أن يجتمعا في نفس الوقت، و لكن هذا ما تشعر هي به..
فهي سعيدة باقتراب شخص مثل آدم، بوسامته و مكانته وشخصيته المميزة، منها هي الفتاة البسيطة التي تعمل في مصنع بالكاد دخله يكفيها..
و لا تنكر أن مشاعرها تحركت نحوه مرة بعد مرة بإصراره للاقتراب منها و عدم استسلامه..
و لكنها كانت و مازالت و ستظل كاتمة لمشاعرها و إعجابها، فإن ظهرا للملأ و عرف بهما اللاعب المشهور سيتأذى و يتألم، و ستتألم هي بالمقابل عليه..
صدح رنين خافت من هاتفها الموضوع بجانب رأسها، فالتقطته باستغراب، ناظرة إلى الرقم الغريب الذي يتصل بها في هذه الساعة بارتياب..
و بعد قليل من التفكير، أعادت الهاتف إلى مكانه دون أن ترد على المتصل، فكما تعتقد هو شخص فارغ يرغب في قضاء بعض الوقت في المغازلة و ربما إيقاع فتاة في شباكه..
استمر الرنين لعدة دقائق متواصلة دون انقطاع، فتأففت بحنق، و قررت فتح الخط دون الرد، حتى يضجر المتصل و يغلق من نفسه!
"أماني".
اسمها الذي وصلها عبر السماعة جعلها تثبت الهاتف على أذنها بدهشة..
لتتوسع حدقتيها بصدمة و هي تتعرف على هوية المتصل من خلال كلماته:
"بصي أنا آسف إني بكلمك في الوقت ده، بس بصراحة كده حبيت تشاركيني فرحتي..
أنا فضلت على راس المدرب بتاعي النهاردة لغاية لما وافق إني العب المباراة الجاية و وعدته إني هأدي أفضل ما عندي، و أنا واثق إني هعمل كده إن شاء الله".
صحيح أنها سعِدت بكلماته، حرصه على مشاركتها له ما يفرحه، إلا أنها أبت أن تُظهر له ذلك، و أصّرت على استخدام وجهتها الجليدية معه.
"و هي دي أول مرة هتلعب فيها ماتش يعني؟"
عبس بملامحه ساباً إياها بداخله على جمودها و عدم مبالاتها، و هتف:
"يا ساتر عليكِ يا شيخة، بقولك مكنتش هلعب المباراة بسببك، و بسببك برضه قعدت اتحايل على المدرب النهاردة علشان يقبل و تتفرجي عليا يوم الأحد و أنا بلعب علشانك، و أنتِ مفيش إحساس خالص".
ابتسامة بسيطة ارتسمت على شفتيها، و مع ذلك قالت بعناد: "أنا أصلاً مبحبش الكرة".
لم يمنحها الفرصة لإحباطه، حيثُ قال بسيطرة رجولية: "ده كان زمان يا ماما، دلوقتي لازم تحبيها و تتفرجي عليها طالما جوزك لاعب مشهور".
دغدغت كلمة (جوزك) مشاعرها، و تسارعت إثرها نبضات قلبها.
ليبتسم آدم بانتصار و كأنه يدرك ما يدور بداخلها في هذه اللحظة، و تابع:
"و اعملي حسابكِ بعد الماتش إن شاء الله هاجي أنا و أهلي و نطلب أيدك".
ليحلق قلبها عالياً.. فرحاً، على الرغم من رفض عقلها!

و كان القدر (كاملة)Where stories live. Discover now