الفصل الثامن

7.1K 240 5
                                    


"اقعدي يا أم آدم و اسمعيني".
قالها والد آدم بهدوء، حتى يستطيع الوصول إلى هدفه، و تحقيق رغبة ولده.
إلا أن زوجته أبت الاستماع بإصرار: "اسمع أيه بس؟
أنت عارف أنت بتقول أيه؟
بقى آدم عايز يتجوز البت دي أم وش نحس".
فيعترض جاسم على كلماتها بإيمان: "نحس أيه بس اللي بتتكلمي عنه؟
عيب عليكِ ده أنتِ مؤمنة بالله و حافظة كلماته".
لتجلس والدة آدم مربعة ذراعيها، و قالت زامّة شفتيها: "و نعم بالله، بس برضه المواضيع دي منتشرة، و ناس كتير انأذوا بسبب الحكاية دي، و أنا بقى مش مستغنية عنه، ده اللي طلعت بيه من الدنيا".
فتسيطر العصبية على جاسم بسبب كلمات زوجته، و يصيح: "أيه اللي بتقوليه ده بس؟
يعني لو الواد مكتوبله يموت دلوقتي هتمنعي ده؟!"
فتضرب والدة آدم صدرها باستنكار، و تشهق قائلة: "بعد الشر عليه، أنت بتفاول على الواد؟"
ليصيح جاسم متمتماً: "استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم".
ثم يرمق زوجته بعدم رضى، و يهتف: "يعني أنا هتمنى الموت لأبني يا ست أنتِ!
هو أنا يهمني أيه في الدنيا دي غير إنه يكون سعيد و مبسوط..
و المفروض أنتِ كمان بكون ده همّك".
و بالفعل هي لا تبالي سوى بسعادة أبنها، و لكنها أيضاً تخاف عليه، و لا تريد أن يصيبه مكروه.
"البنات ماليين البلد، يأشر بس على أي واحدة، و أنا أروح أخطبهاله".
فيوضح لها جاسم بنفاذ صبر بدأ يتملّكه: "و هو مش عايز غير البنت دي، و مفيش واحدة غيرها هتملى عينه".
فتهز رأسها برفض، قائلة باقتناع: "ده علشان بس لاقك وافقت على طول، لكن لو كنت رفضت و أصّريت على ده كان سمع كلامك و طّلع البت دي من دماغه..
عموماً محلولة، سيبلي أنا الموضوع ده و أنا هتكلم معاه و أقنعه".
ليتأفف جاسم بيأس، و يحاول معها للمرة الأخيرة: "و لا هييجي بفايدة، أبنك شكله بيحبها، و بعدين البت غلبانة و محترمة، أنا قعدت معاها بنفسي..".
لتقاطعه زوجته بصياح: "بس نحس".
ليعود جاسم و يتمتم بـ (استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم)، قبل أن يشير للخارج قائلاً: "اهو عندك برا اهوه، روحي قوليله كل اللي في نفسك".
لتنفذ والده آدم ما قاله، و تخرج إلى أبنها و كلها إصرار على إخراج هذه الفتاة من عقله!
**********
خارج الغرفة
استمع آدم إلى بعض كلمات والديه بسبب ارتفاع أصواتهما، ليسيطر الحزن على قلبه، و تنقلب ملامحه.
رأى والدته تقترب منه بكل إصرار، فهتف بأسى قبل أن تتحدث:
"خلاص يا ماما، مفيش داعي تقولي أي حاجة، أنا سمعت كلامكم".
ثم يتجه إلى غرفته بخطوات بطيئة، فتتابعه والدته بنظراتها، و حزنه يؤلم قلبها، و مع ذلك لن تخضع له، فهي لن تلقيه في النار بيدها!
**********
استلقى على سريره مفكراً فيما سيفعله، فبالتأكيد هو لن يتخلى عن أماني، تلك الفتاة التي جعلته يشعر بمشاعر مختلفة كان يظن أنها غير موجودة..
و في نفس الوقت لن يغضب والدته و يفعل شيئاً دون إرادتها..
مسح على وجهه بإحباط، قائلاً: "يارب ده احنا قولنالها إننا هنزور عايلتها بكرة، أكلمها أقولها أيه أنا دلوقتي!"
و بعد كثير من التفكير قرر الانتظار للصباح و أخذ رأي والده.
**********
"و بعدين معاكِ بقى يا بت أنتِ؟
كل يوم و التاني ترجعيلي متأخر و تخلي الناس تتكلم علينا".
نظرت أماني إلى زوجة عمها و ابتسامة غريبة تزيّن وجهها، و قالت بغموض:
"متقلقيش يا خالتي، محدش هيتكلم عليّا تاني".
لتضحك زوجة عمها بسخرية، و تقول باستهزاء: "ليه ياختي؟، كنتِ هتتجوزي و تقطعي لسانهم و لا أيه؟"
فتُجيبها أماني بهدوء مريب: "أيوه يا خالتي هتجوز، فيه واحد جاي بكرة إن شاء الله علشان يطلب أيدي منك أنتِ و عمي".
ثم تركتها متجهة إلى الغرفة الي تقيم فيها مع أبنة عمهت الصغرى.
لتتابعها زوجة عمها بصدمة، و تقول فور أن اختفت أماني من أمامها: "و ده مين المجنون اللي بايع حياته و جاي يتجوزك ده!"
ثم تمصمص شفتيها، و تقول بلا مبالاة: "و أنا مالي، المهم تحلّ (تذهب) عن وشي، إن شاء الله يولعوا كلهم في بعض".
**********
جلست على سريرها دافنة رأسها بين ساقيها.. مفكرة..
ترى هل ما ستفعله صحيح؟
هل استسلامها لآدم و قبولها للزواج منه لن يؤذيه؟
لا تنكر أنها تتوّق لهذا بشدة، تتوّق أن يكون لها عالمها الخاص، بيت.. زوج.. أولاد، أن تكون كأي أنثى في الدنيا..
و لكنها في نفس الوقت خائفة من أن تحمل ذنب شخص جديد يُصاب بالأذى بسببها، و خائفة أكثر أن يكون هذا الشخص هو آدم، فلقد باتت تحمل له مشاعر من نوع خاص، و أي مكروه سيحدث له سيؤلمها جداً.
"يارب، أنا مش عارفة أعمل أيه..
بس أنا عايزة أكون معاه، و نفسي أفرح..
فيارب متخيّبش أملي المرة دي و احفظه..
يارب ارزقني السعادة اللي محرومة منها من طفولتي".
ثم تمسح بعض الدمعات التي هبطت من عينيها أثناء دعائها، لتنام و لسانها لا يكف عن الدعاء، و قلبها ينتفض بأمل.
**********
صباح اليوم التالي
اقترب آدم من والده هامساً: "يعني أنا دلوقتي أقول لأماني أيه، إننا مش هنزورهم النهاردة؟
و بعدين أنا خايف تكون بلغت عايلتها، و يحسبونا بنلعب بيهم".
هز جاسم رأسه بقلة حيلة و آدم يكرر له نفس الكلمات للمرة العاشرة تقريباً خلال نصف ساعة، فيلتفت إليه قائلاً بحنق:
"جرى أيه يا كابتن، هو أنت مش عارف طبع (صفات) أمك و لا أيه؟
و لا هو الحب أكل دماغك خلاص!"
ليظن آدم أن والده يخبره أنه لا أمل في موافقة والدته على زواجه من أماني، فيقول بحزن:
"طب لما أنت يا بابا عارف إنها صعب توافق، خلتنا ندي معا  لأماني ليه من الأول؟
على الأقل كنا استنينا شوية علشان نعرف نقنع ماما براحتنا".
لتتوسع عينا والده بصدمة، و يقول بحنق: "ده على أساس إنه أنا اللي كنت عايز أروح اطلب ايدها امبارح و مش قادر أستنى!"
فلم يجد آدم كلمات مناسبة للرد على والده، فهو على حق!
"بس مش أنا اللي حددت ميعاد النهاردة".
هتف آدم بضيق.
ليتمتم والده بـ (استغفر الله العظيم) قبل أن يقول لولده: "يابني أنت ليه محسسني إن أمك عمرها مارفضتلك طلب قبل كده".
فيظهر التفكير على ملامح آدم، و هو يسأل والده: "تقصد أيه؟"
فيهز جاسم رأسه بيأس، و يوضح: "هي صحيح أمك عصبية و بتاخد القرار بسرعة، لكن كمان قلبها طيب و متقدرش على زعلك، و بشوية ضغط هتوافق على طول".
ليتسّرب الحماس إلى آدم، فيعتدل في جلسته، و يسأل والده بفضول: "يعني أعمل أيه؟"
فييتسم له جاسم بمكر، و يقول: "زي ما بتعمل كل مرة ترفض فيها ليك طلب، اقلب وشك، و متاكلش".
فيسأل آدم بحذر: "و تفتكر ده هيخليها تستسلم بسرعة يا بابا، ده الميعاد النهاردة".
ليربّت جاسم على كتفه بدعم، و يقول بابتسامة: "سيب ده بقى عليّا، متقلقش".
خرجت حينها والدة آدم من المطبخ، حاملة في يدها صحون الطعام، و هي تقول: "يلا يا جماعة الفطار جاهز".
فيبدأ آدم بتنفيذ خطة والده، فينهض بملامح متجهمة، و يقول: "أنا مش جعان".
و يلتفت إلى والده متابعاً: "همشي أنا يا بابا علشان متأخرش على التمرين، عايز حاجة؟"
فيهز والده رأسه بنفي، و يغمز له بعينيه دون أن تراه زوجته، و يقول: "لا يا بني مع السلامة".
فيخرج آدم دون أن يوجّه لوالدته حرف، فتدرك الأخيرة مدى غضبه منها.
**********
على مائدة الطعام
"أيه مبتاكليش ليه؟"
سأل جاسم زوجته ببرود، بعد أن ابتلع ما في فمه.
لتجيبه زوجته بضيق: "أكل ازاي بس و الواد نزل على لحم بطنه (دون أن يأكل)، أنا مش عارفة أنت جايلك نفس تبلعها ازاي".
فيهتف جاسم بسخرية: "و هو كنت أنا اللي زعلته من الأول و خليته ينزل من غير أكل".
حدقت والدة آدم في الصحن أمامها دون أن تمسّه، بينما جاسم يتابع طعامه ببرود مصطنع، و يرمقها بسن كل لحظة و أخرى بتركيز، ليختار اللحظة المناسبة للضغط عليها.
ألقت والدة آدم الملعقة التي في يدها، صائحة بحنق: "ماهو أنا مش مستغنية عن أبني علشان ارميه لوش النحس دي".
ليترك جاسم الخبز من يده، و يصيح باستنكار: "و هي البنت عملتلك أيه دلوقتي علشان تجيبي سيرتها؟!
ماتخليكِ في أبنك".
فتزمّ والدة آدم شفتيها، و تقول بحزن: "ماتلاقيها هي اللي قلبته عليّا".
فيقول جاسم باعتراض: "لا يا ستي، دي هي أصلاً اللي مش عايزة أبنك و بتحاول تبعده عنها، و امبارح اترجتني إني أخليه يبعد عن طريقها و يشوف حياته".
فتلوي والدة آدم شفتيها بعدم رضى، و تقول بسخرية: "و طبعاً أنت أبو قلب حنين قولتلها لا ازاي، اتجوزي أبني و إن شاء الله يموت مش مهم".
ليزفر جاسم أنفاسه بنزق، و يصيح باستنكار: "جرى أيه؟
هو كل شوية أبني و أبني و أنت عايز تموته، هو مش أبني أنا كمان و لا أيه!"
فتقول والدة آدم بتهور: "و الله ده اللي باين، و لا فيه حد يوافق إن أبنة يدخل النار برجليه (بقدميه)!"
ضرب جاسم على الطاولة بقوة، مما أدى إلى اهتزاز الصحون التي عليها، و وقوع بعض الطعام منها، لتنتفض والدة آدم في مكانها بخوف، بينما تسمعه يصيح:
"بقى كده؟
طيب أيه رأيك بقى إني هروح أطلبها له النهاردة، و إذا كان عاجبك فأهلاً و سهلاً بيكِ، مش عاجبك خليكِ قاعدة هنا لوحدكِ".
و نهض بعدها تاركاً لها الشقة بأكملها!
**********
قبل المغرب بساعتين
"يعني أيه يا بابا، هنروح احنا و ماما لاء!"
سأل آدم والده بضيق.
ليقول والده بقلة حيلة: "و الله ده الحل الوحيد اللي قدامك، و إلا بقى تنسى موضوع البت خالص".
ليزفر آدم أنفاسه بحنق و أسوأ مخاوفه تحدث..
فيتجه إلى غرفة والديه، و يطرق الباب بتردد، ليحاول مرة أخرى مع والدته.
"ممكن أدخل؟"
قالها بشبه ابتسامة و هو يُدخل رأسه فقط من الباب.
لتبتسم له والدته بحنو، و تشير له للتقدم.
جلس بجانبها، ليلتقط كفيها و يقبلهما بحب، ثم يقول برجاء:
"و حياتي عندك، لو كان ليّا غلاوة عندك بصحيح، متعكننيش عليّا (تثيري حزني) و تعالي معايا".
لترمقه والدته لعدة لحظات بصمت، متأملة كل جزء فيه، غير مصدقة أنها من الممكن أن تحيا بدونه، أو أن يُصاب بأذى من أي نوع.
فقالت بنفس نبرته: "و أنت لو بتحبني بصحيح بلاش البت دي، اختار أي واحدة تانية و أنا مستعدة اجوزهالك دلوقتي حالاً".
ليقول آدم باستعطاف: "بس أنا مش عايز غيرها".
صمتت والدته لاوية شفتيها، ليتابع آدم باقتراح: "طب تعالي بس النهاردة علشان مطلعش عيّل قدامهم، و بعدين نبقى نشوف حل..
حتى لو عايزة نخليها مجرد كلام لكام شهر لغاية لما تطمني و تشوفي أد أيه هي طيبة".
ليستمر صمت والدته، فيظن آدم أنه في طريقه لاستمالتها، فيقول ضاغطاً عليها أكثر: "و الله يا ماما دي بنت طيبة أوي، و جدعة أوي، ده كفاية إنها حاولت بكل الطرق إنها تبعدني عنها علشان خايفة عليّا".
ليتابع بسرعة قبل أن تعلق والدته على أخر كلماته: "بس أنا بحبها و عايزها يا ماما..
و بعدين احنا ناس مؤمنين، و عارفين إن كل حاجة قضاء و قدر، و إننا لازم نصبر و نحتسب لو حصلنا أي مكروه..
مش ده اللي ربيتيني عليه أنتِ و بابا؟"
ألجمتها كلماته، فلم تعلم بم ترد عليه، ليقول آدم بابتسامة: "و حياة أغلى حاجة عندك يا ماما لا تقومي معايا، و بعد الزيارة دي نقعد و نتكلم براحتنا..
بالله عليكِ ماتكسري قلبي".
و كما قال والده، والدته طيبة القلب لا تقوى على حزنه..
حيثُ زفرت أنفاسها باستسلام، و قالت بابتسامة: "أها بس لو ربنا يرحمني من زنك (إصرارك)..
اتفضل يلا برا علشان أغيّر هدومي".
فيقفز آدم بفرحة، و يميل مقبلاً رأسها بحب، ثم يقول: "ربنا يخليكِ ليا يا أحلى أم في الدنيا، أنا كنت عارف إنك مش هترضي تزعليني..
و صدقيني أماني هتدخل قلبك و تحبيها على طول".
ثم يخرج من الغرفة ليبشّر والده، و هي تتابعه بنظراتها، تدعو الله أن يحفظه لها.
**********
جلست والدة آدم في المقعد الخلفي، متجهمة الملامح، عدم الرضى يظهر على وجهها.
ليشاكسها زوجها: "ماتفردي وشك ده بقى، الناس يقولوا علينا أيه، جايبينك غصب عنك؟"
لتلوى والدة آدم شفتيها، و تقول لأبنها بابتسامة: "هو بيتها بعيد يا حبيبي؟"
فيجيبها آدم بحماس: "يعني يا ماما مش أوي، هي ساكنة في حارة شعبية شوية، زي اللي كنا قاعدين فيها قبل ما نتنقل".
لتتسع ابتسامتها و هي ترى حماس أبنها، فتندم على أنها كانت ستتسبب في حزنه، لتعود و تتذكر سر هذا الحماس، و الفتاة التي يرغب في الزواج منها، فيعود لسانها للدعاء له.
بينما رفع جاسم حاجبيه باستياء و هو يرى ابتسامتها و استرخائها مع آدم، ليقول: "دي قلبة الوش في خلقتي أنا بس بقى؟"
لتزمّ والدة آدم شفتيها، و تقول بعتاب: "أنت بتكلمني ليه دلوقتي؟
مش على أساس إنك هتخطبهاله برضايا أو غصب عني!"
"و هو أنا معقول أعملها برضه!
ده أنتِ الغالية".
فتلوي والدة آدم شفتيها بعدم اقتناع..
ليسب جاسم نفسه على تهوره، و يفكر كيف سيراضيها..
بينما آدم لا يفكر سوى في أماني، و كيف ستبدو بعد لحظات!
**********
وصلت السيارة إلى مدخل الحارة، ليصفّها آدم على جانب الطريق، و يقول لوالديه: "هو بيتها في أول الحارة، يعني مش هنمشي كتير".
ليترجلوا جميعاً، و يسيرون في اتجاه بيت عم أماني.
تأملت والدة آدم الأجواء الشعبية المحيطة بها، تلك الأجواء التي كانت تحيا فيها يوماً، و تحبها كثيراً.. و مازالت..
لتشعر بالحنين إلى تلك الأيام، و بالاشتياق إلى جيرانها الأوفياء، أولئك التي كانت تجمعها بهم محبة خالصة لوجه الله، دون نفاق أو كذب، فتقرر زيارتهم في أقرب وقت..
تحمعوا رجال و شباب الحارة و هم يرون اللاعب آدم جاسم يزورهم للمرة الثانية، فيرحبوا به بحفاوة، و يدعوانه للجلوس..
إلا أن آدم هذه المرة رفض دعوتهم بذوق، مخبراً إياهم بسعادة:
"معلش يا جماعة، بص أصلي جاي اتقدم لواحدة و كده هتأخر على الميعاد..
ادعولي بس هي توافق عليّا، و ساعتها هتلاقوني عندكم على طول".
فترتسم السعادة على وجوه المحيطين به، و يتسائلون بداخلهم عن هوية تلك الفتاة التي استطاعت إيقاع لاعب كآدم في حبها..
فيقول أحدهم: "و بنت مين دي يا كابتن، و ازاي احنا منعرفش!
المفروض نقوم بالواجب، و لا أيه يا رجالة؟
فيتعالى صوت الرجال موافقين على حديثه، ليهدأهم آدم بقوله: "استهدوا بالله يا جماعة ده لسه الموضوع في الأول..
و إن شاء الله لو تم هنفرح كلنا سوى..
بعد أذنكم بقى علشان احنا كده هنتأخر بجد".
ليفسح المجال لوالديه للمرور، ثم يتبعهما، لتتوسع عيون كل الرجال بذهول و هم يروه يدخل البناية التي تقطن فيها أماني.
فيسأل أحدهم بصدمة: "هو البيت ده فيه بنات على وش جواز غير أماني يا رجالة؟"
و الصمت الذي قابله أثبت له أن ما يفكر فيه صحيحاً، ليقول بشفقة: "لا حول و لا قوة إلا بالله، بقى حد يتجوز واحدة زي دي، هو مستغني عن حياته!"
**********
في منزل عم أماني
التفتت إلى صديقتها لتأخذ رأيها في مظهرها، فسألتها: "كده حلو؟"
لتلمع حدقتي روضة بالسعادة، و تقول بصدق: "زي القمر".
لتغمزها بعدها بمرح، و رتقول ضاحكة: "متقلقيش هتطيّري عقل الكابتن".
لتنقلب ملامح أماني للحزن، فتدرك روضة ماتفكر فيه صديقتها، لتهمس لها:
"قولي يارب، صدقيني ربنا مش هيخيّب أملك".
لتستجيب لها أماني، فتدعو بتضرّع: "يارب، يارب احفظه يارب و متخليش قربه مني يقضي عليه".
لتقبلها روضة بحب، و بداخلها تدعو لها هي الأخرى.
دخلت حينها زوجة عمها إلى الغرفة، لتسألها بسخرية: "أومال فين العريس يا دلعدي (أختي) المغرب أذنت و العشا مش باقيله كتير، لاحسن يكون بس فلسع (هرب) من أولها و اشترى حياته".
انكمشت ملامح أماني دون رد، لتدافع عنها روضة: "عشا أيه بس يا خالتي، دي الرجالة لسه مصلتش المغرب، تلاقيهم في الطريق متقلقيش".
لتصدر زوجة عم أماني صوتاً مستفزاً، قبل أن تقول بسخرية: "هنشوف يا عينيا".
و تحركت إلى خارج الغرفة، تزامناً مع طرقات على باب الشقة.
لتسرع الصغيرة نوجة لتفتح، بينما روضة تقول بسعادة: "دول أكيد هما".
**********
جلس آدم و والديه بصحبة عم روضة -الجالس على مقعده المتحرك- و زوجته.
لتتولى زوجته القول بسعادة؛ مصدرها اقتراب التخلص من أماني:
"منورينا و الله، ده احنا زارنا النبي النهاردة".
فيقول جاسم برزانة: "النور نورك يا أم نجاة، تسلمي".
بينما كانت زوجته مشغولة في الالتفات حولها، بحثاً عن أي أثر للعروس المنتظرة، لترى ما فيها جعل أبنها يجن بها بهذه الطريقة..
و آدم مثلها، و لكنه كان يبحث عن أماني لأنه مشتاق لها.
إلا أن زوجة عم أماني ترجمت التفاتهم و تأملهم للشقة البسيطة بطريقة مختلفة، فهتفت:
"معلش بقى، الشقة مش أد المقام، لكن هنعمل أيه، العين بصيرة و الأيد قصيرة..
و الرجل يا حبة عيني من ساعة الحادثة و هو زي مانتوا شايفين كده، و محدش بيصرف عالبيت غيري".
سمعت روضة أخر كلماتها و هي خارجة من الغرفة التي تضم أماني، فقالت بتلميح:
"و أماني برضه يا خالتي ربنا يخليهالكم، ماهي اللي متحملة مصاريف تعليم الأولاد".
نهض آدم فور أن رآها، و حيّاها بابتسامة، بينما عيناه كانت ترتكز خلفها، منتظراً دخول أماني.
"مساء الخير يا آنسة روضة، عاملة أيه؟"
ضحكة صغيرة صدرت عن روضة و هي ترى لهفته لرؤية صديقتها، قبل أن تجيبه: "الحمد لله يا كابتن..
أخبارك أنت أيه؟"
فقد آدم الأمل في خروج أماني في الآن، فانتبه لروضة، ليقول: "الحمد لله".
ثم يلتفت إلى والديه، موضحاً: "آنسة روضة صاحبة أماني..
و الصراحة كان ليها دور كبير في إني أكون هنا النهاردة".
لتتفحصها والدة آدم بدقة، فبالتأكيد طالما هي صديقة أماني سيكون هناك الكثير من الصفات المشتركة بينهما..
في حين رحّب بها والد آدم بابتسامة أبوية.
جلست روضة بجانب والدة آدم، لتتذكر الأخيرة ما كانت تقوله زوجة عم أماني منذ قليل، فتسألها:
"و هي الحادثة دي حصلتله ازاي؟"
لتتكمش ملامح السيدة بحزن، و هي تجيبها: "متعرفيش و الله أيه اللي حصل يومها، هو كان طالع من شغله لا بيه و لا عليه، و فجأة طلعت عربية قدامه طيرته، و بقي بالحال اللي أنتِ شايفاه ده".
حانت نظرة من والدة آدم إلى عم أماني، قبل أن تعود بعينيها إلى زوجته، و تعود لسؤالها بفضول: "طيب محاولتوش تعالجوه".
فتتحلطم السيدة بهمّ: "منين بس، قولتلك.. العين بصيرة و الأيد قصيرة، و لولا ولاد الحلال جمعوا فلوس و اشترلوه الكرسي ده مكنش قدر يقوم من على السرير أصلاً".
ليتدخل حينها عم أماني بخفوت: "مفيش داعي للكلام ده دلوقتي".
فتصمت والدة آدم، مُعاتبة نفسها على جرح الرجل بأسئلتها الفضولية، بينما قال جاسم بلطف:
"الحمد لله على كل شئ، كفاية إنك منور بيتك".
ليتمتم عم أماني بـ (الحمد لله)..
في حين توقفت نبضات آدم، و عيناه مرتكزة على أماني التي تخطو اتجاههم ببطء.
**********
بدقات قلب متسارعة و وجه متورد، خرجت أماني من المطبخ، حاملة في يدها صينية عليها عدة أكواب من العصير..
تقدمت نحو الجالسين ملقية السلام بخفوت، ثم قدمت العصير إلى جاسم و عمها، و من ثم آدم، لتعطي الأكواب بعدها لوالدة آدم - و التي كانت تتفحصها بدقة- و زوجة عمها و صديقتها.
نهضت روضة من مكانها، قائلة: "تعالي اقعدي مكاني".
لتستجيب لها أماني، و تجلس بجانب والدة آدم..
استشعرت الفتاة فوراً عدم رضى السيدة عن زواجها بآدم، فلقد خُطِبت مرتين من قبل، و في كلاهما لقت ترحيب من والدة العريس و إعجاب بجمالها لم تلقى ربعهما الآن..
فهتفت بداخلها بأسى: "شكل في الأخر هيحصل اللي أنتِ عايزاه و الجوازة دي مش هتتم".
التقت نظراتها بآدم، لترتسم شبه ابتسامة على شفتيها، قابلها هو بالعبوس، شاعراً بالضيق من معاملة والدته معها.
لم يرضيها تجهّم ملامحه، فقررت اتخاذ أول خطوة، لتلتفت إلى والدة آدم، هامسة:
"نورتينا حضرتك".
لترد والدة آدم بعد لحظات: "ده نورك يا حبيبتي".
و حتى لا يحزن أبنها، تبادلت مع العروس أطراف الحديث، لتتنهد أماني بداخلها براعحة.
"احنا جايين النهاردة يا حج و عندنا لك طلب، و كلنا أمل إنك متردناش".
ليأومأ عم أماني بالإيجاب، و يقول بهدوء: "طلبكم مقبول إن شاء الله إن كنا نقدر".
فيقول جاسم، بينما آدم يرمق أماني بسعادة: "إن شاء الله..
احنا جايين النهاردة علشان نطلبأيد بنتك أماني لأبني آدم، و لو وافقتوا هتبقى واحدة من عايلتنا، غلاوتها من غلاوة آدم و أكتر".
تسّربت الراحة إلى قلب زوجة عم أماني بسماع كلمات جاسم، و كأنها كانت لا تصدق أنهم قادمين لخطبة الفتاة إلا عندما استمعت إلى ذلك بأذنها.
و على الرغم من كل الأحاديث المثارة حول أماني، و رغبة زوجة عمها في التخلص منها و من (نحسها) في أقرب وقت، إلا أن عمها لم يرضى التقليل من شأنها، و إظهارها أقل من بقيّة الفتيات، فهي وصيّة شقيقه له!
"آدم طبعاً لاعيب معروف، بس برضه لازم نسأل عنه و نعرف أخلاقه، ده جواز".
ليأومأ والد آدم موافقاً، و يقول: "طبعاً ده حقكم".
**********
يوم الخطبة
بعد إصرار كبير من أماني على عدم إقامة حفل خطبة كبير، امتثل لها آدم، فتجمعت عائلة العروسين و أقرب أصدقائهما في مطعم هادئ يواجه البحر.
ألبس آدم أماني الخاتم في يدها اليمنى، ثم قبلها برقة، لينتفض قلبها بعدم تصديق..
و بأصابع مرتعشة، ألبسته أماني الدبلة، ليمسك بيدها مرة أخرى و يقبلها وسط تصفيق الحاضرين، و يظل متمسكاً بها بعدها..
حاولت أماني تحرير كفها من كفه الخشن إلا أنه لم يسمح لها، فاستسلمت له، و ركزّت مع مَن يباركون لها..
ليسحبها آدم بعد فترة بعيداً ليتحدثا بحرية.
تفحصّتها عيناه، بزينتها الهادئة، و فستانها الطوبي الذي يصل إلى كاحليها، فيعبس بملامحه.. مذكّراً نفسه أن هذا الفستان مؤجراً، و أنها لم توافق على شراء واحداً.
"بقى فيه حد يبقى مبوّز (عابس) كده يوم خطوبته..
و لا أنت غيّرت رأيك و قررت تهرب خلاص؟"
قالت أماني بمشاكسة و هي ترى تجهّم ملامحه.
ليجز آدم على أسنانه بعدم رضى، و يقول: "ياريت في أي كلام بيننا متجيبيش سيرة الهرب أو علاقاتك السابقة، علشان الموضوعين دول بينرفزوني".
فتعض أماني شفتيها بحرج، و تهمس: "حاضر، أنا آسفة".
و طاعتها الفورية لم ترضيه، على العكس أثارت ضيقه، فهي لازالت تضع بينهما حواجز.
"أولاً أنا مقولتلكيش كده علشان تعتذري، بس كلامك و عن هروبي بالذات بيقلل من شأنك، و أنا عمري ماسمح بكده..
ثانياً بقى بلاش تقفلي في الكلام بسرعة كده بتحرجيني، كلميني أو شاكلي فيا حتى".
و صدرت ضحكة خفيفة بعد كلماته ليضفي جواً من المرح.
إلا أنها قالت بجدية: "أنا عمري ماهتكلم أو هجيب سيرة الماضي قدامك، لأنه مفيش أي رجل ممكن يتقبل إن خطيبته تتكلم عن رجل تاني غيره".
لتصمت قليلاً و مشاعرها تموج بداخلها، ثم تهمس: "بخصوص الاعتذار بقى فأنا لازم اعتذر طالما ضايقتك في يوم زي ده، بس أنا يا آدم".
و رفعت له عينين تلمعان بالدموع، إلا أنه لم يتخذ أي خطوة لمواساتها أو إيقافها عن الحديث، فلابد من إنهاء هذا الموضوع حتى يستطيعا العيش في سعادة!
"أنا عشت طول عمري و أنا الناس بتبعد عني، بيخافوا يقربوا مني، ده أنا كنت بسمع أمهات بيقولوا لبناتهم أبعدي عن البت دي متصاحبيهاش أنا مش مستغنية عنكِ، مع أن روضة وقتها كانت صاحبتي و عايشة عادي..
شوية بشوية و مع كل اللي بيحصلي صدقت ده و اقتنعت إني وش نحس، فبقيت أنا اللي بخاف أقرب من أي حد".
لتسقط دموعها بغزارة، و هي تتابع: "أنا خايفة عليك أوي يا آدم، طول الوقت و أنا حاطة أيدي على قلبي لأحسن يجيلي خبر وحش عنك".
ليظهر التأثر على ملامحه، و يرفع كفه ليزيل دموعها بأطراف أصابعه، و هو يقول بشبه ابتسامة:
"تصدقي أنا طلعت وحش أوي، بقى ينفع يعني أعيطك في بوم زي ده، أنتِ لازم تطالبيني بتعويض على فكرة".
فتُسارع بالقول دون تفكير: "خليك كويس، و النبي يا آدم حافظ على نفسك و متخليش أي حاجة وحشة تحصلك، أنا مش هقدر أشيل ذنب جديد فوق كتافي".
تجهّمت ملامحه و هو يسمع آخر كلماتها..
هل كل ما يهمها ألا تحمل ذنباً جديداً؟
أليس مصدر خوفها عليه حبها له؟
لتنفرج ملامحه فجأة و هو يسمعها تهمس"و لا قلبي هيستحمل، أنا مش هقدر استحمل الوجع ده، هموت و الله".
ليضحك و هو يسألها بعدم تصديق: "أنتِ قولتي إن قلبك مش هيستحمل؟
يعني أنتِ بتحبيني صح؟
قوليها بقى و ريحيني، بلاش تحسسيني إن كل اللي بيننا ذنب خايفة ترتكبيه في حقي".
أطرقت برأسها دون رد، و وجهها متورد من الخجل.
ليزمّ آدم شفتيه، و يقول محاولاً اقتناص اعترافها: "طيب بلاش بتحبيني، بدأتِ تحسي بأي حاجة ليا، حتى لو كانت صغيرة".
ليستمر صمت أماني مع احمرار وجهها، فيقول آدم كأخر محاولة: "طب بلاش تتكلمي، هزي راسك، شاوري، أعملي أي حركة أبوس أيدك".
لتُثير كلماته ضحكاتها، فتهز رأسها بالإيجاب و الابتسامة تملأ وجهها.
فيصيح آدم بسعادة: "أيوه بقى، و أخيراً يا أبو الهول".
فتتعالى ضحكاتها أكثر مع صيحته، فيلتفت الجميع إليهم.
ليسأله والده بابتسامة: "خير يا كابتن؟"
فيلتفت آدم إلى والده، صائحاً بسعادة: "باركلي يا حج، دخلت أهم جول في حياتي".
فتزداد ضحكات أماني عليه.
لينظر آدم إليها، و يهمس لها: "هو أنا قولتلك قبل كده إن شكلك بيبقى حلو أوي و أنتِ بتضحكي".
"و غنتهالي كمان"، قالتها بمرح.
ليقول آدم بمشاكسة: "أهااا قولي بقى، أنتِ عايزاني أغنيلك تاني و لا أيه؟
لا يا ماما أنسي، أنا مبغنيش كده ببلاش، صوتي ده غالي".
فتتسع ايتسامتها مُزيدة من سعادته، و تسأله: "غالي بكام يعني؟"
فيلتفت آدم حوله مُثيراً ارتيابها، ثم يقول بحذر: "مش هينفع أقول دلوقتي علشان الرقابة، بس وعد أول لما نتجوز هغنيلك بعد ما تدفعيلي".
لم تكن لتفهم معنى كلماته لو لم يذكر كلمة الرقابة، و التي ذكرها من قبل بوقاحة، فاشتعل جسدها بخجل ظهر على وجهها، و جعله يقهقه باستمتاع.
"ده الحلو بيتكسف و بيحمر زي الطماطم و بيبقى زي القمر اهوه".
زجرته بعينيها مع أن قلبها كان يرقص فرِحاً بغزله، ثم تحركت من أمامه متجهة إلى صديقتها، و التي تقف مع والدة آدم، بينما آدم يتابعها بنظراته.. ضاحكاً على خجلها.
**********
"اعترفي، قولتيله أيه خلاه يموت على نفسه من الضحك كده؟"
سألت روضة صديقتها بفضول مرح.
لتزمّ أماني شفتيها، و تقول بطريقة طفولية: "و لا حاجة و الله، هو اللي قاعد يتكلم و بعدين يضحك عليّا".
"ليه، قالك أيه؟"
سألتها روضة ضاحكة.
و قبل أن ترد عليها أماني، تعالى صوت آدم:
ياللي شمس الدنيا تطلع لما تطلع ضحكة منك
حسي بالناس الغلابه اللي زيي بعد اذنك
بطلي تحلوي اكتر، واوعي وشك يوم يكشر
واضحكي دايما يا سكر ياللي سابقة بجد سنك
اضحكي خليني اضحك.. ضحكتك بترد روحي
ربنا وحده اللي يعلم.. بعشقك ازاي يا روحي
التفتت روضة إلى صديقتها، و قالت بانبهار: "الله ده صوته حلو أوي".
بينما شردت أماني فيه، صوته.. حركاته، لتميل رأسها مبتسمة و هي تسمعه يغني:
مستحيل الشعر يوصف أي تفصيلة في جمالك
والغنا لو كان كفاية ألف غنوة أغنيهالك
ياللي لما بتبقي جنبي، بنسى بيكي كل تعبي
ياللي احتليتي قلبي، قلبي فرحان باحتلالك
لتتسارع نبضاتها ترافقاً مع كلماته، و قلبها يعلن أنه بالفعل سلمّه مقاليده منذ أول مرة رآه..
اضحكي خليني اضحك، ضحكتك بترد روحي
ربنا وحده اللي يعلم.. بعشقك إزاي يا روحي
ليقترب آدم منها، و يقف أمامها متأملأ ابتسامتها الواسعة، و لسانه يتحرك تلقائياً:
ياللي شمس الدنيا تطلع لما تطلع ضحكة منك
حسي بالناس الغلابه اللي زيي بعد اذنك
بطلي تحلوي اكتر، واوعي وشك يوم يكشر
واضحكي دايما يا سكر ياللي سابقة بجد سنك
فتستجيب له و تتعالى ضحكتها مُنيرة حيات، فيصيح:
"بحبك يا أماني".

و كان القدر (كاملة)Where stories live. Discover now